المجلد الرابع: الجماعات اليهودية.. تواريخ



الجزء الأول: تواريخ الجماعات اليهوديةفي العالم القديم



الباب الأول: إشكالية التاريخ اليهودي

تاريــخ يهـودي أم تواريـخ جماعـات يهوديــــة؟
?Jewish History or Histories of the Jewish Communities
«التاريخ اليهودي» مصطلح يتواتر في الكتاباتالصهيونية والغربية، وفي الكتابات العربية المتأثرة بها. وهو مصطلح يفترض وجودتاريخ يهودي مستقل عن تواريخ الشعوب والأمم كافة، كما يفترض أن هذا التاريخ لهمراحله التاريخية وفتراته المستقلة ومعدل تطوُّره الخاص، بل وقوانينه الخاصة. وهوتاريخ يضم اليهود وحدهم، يتفاعلون داخله مع عدة عناصر مقصورة عليهم، من أهمها دينهموبعض الأشكال الاجتماعية الفريدة. ومفهوم التاريخ اليهودي مفهوم محوري تتفرع منهوتستند إليه مفاهيم الاستقلال اليهودي الأخرى ومعظم النماذج التي تُستخدَم لرصدوتفسير سلوك وواقع أعضاء الجماعات اليهودية.

يضرب المصطلح بجذوره فيالتشكيل الحضاري الغربي، سواء في جانبه الديني أو في جانبه الاقتصادي. لقد جاء فيالعهد القديم أن الخالق « اختار الشعب ». والاختيار يعني درجة من درجات الحلوليةالكمونية الواحدية (إذ لماذا يختار الإله شعباً دون الشعوب الأخرى؟). وقد تزايدالحلول والكمون الإلهي في الأمة إلى أن وصل الحلول إلى مرحلة وحدة الوجود فتوحَّدالإله والشعب وتاريخه وأرضه وأصبح هناك جوهر واحد للأمة والإله، لا يوجد الواحدمنهما دون الآخر، ويتم على هذا النحو زوال ثنائية الخالق والمخلوق والإله والشعب (والمطلق والنسبي، والأزلي والزمني والمقدَّس والتاريخي). ويصير تاريخ هذا الشعبمحط عناية الاله، بل يصبح تجسيداً لفكرة مقدَّسة ومطلقة، فيتداخل المطلق والنسبيوالمقدَّس والمدنَّس، وتصبح أية حادثة تقع لليهود ذات دلالة دينية عميقة. ومن هنا،فإن كتاب اليهود المقدَّس (العهد القديم) هو أيضاً سجل تاريخهم، حيث يتم تقديمالعبرانيين وهم يخرجون من مصر تهديهم ذراع الإله القوية وتنقذهم من الغرق، ثم يُلحقبهم العذاب في الصحراء ولكنه يسدد خطاهم في غزوهم لأرض كنعان. ويعقد الإله معهمالمواثيق، ويقبل منهم أفعالهم كافة الأخلاقية منها وغير الأخلاقية. ولهذا، أصبحتاريخ اليهودية هو نفسه تاريخ اليهود.

وكما ورثت المسيحية العهد القديموجعلت منه أحد كتبها المقدَّسة، كذلك ورثت الحضارة الغربية هذه الرؤية. ولذا، فإنالإنسان الغربي يعتبر اليهود ورثة العبرانيين القدامى؛ و يراهم في عزلتهم لا يزالونمستمرين في مسيرتهم في الصحراء، نحو كنعان عبر التاريخ الإنساني بأسره وفي كل أرجاءالعالم. وقد تبدَّى ذلك في المفهوم الكاثوليكي للشعب الشاهد الذي يقف على حافةالتاريخ، شـاهداً على عظمة الكنيسة. كما يتبدَّى في المفاهيم الاسـترجاعيةالبروتستانتية التي تجعل من عودة اليهود إلى صهيون في نهاية التاريخ شرطاً لعمليةالخلاص وشرطاً لتأسيس الفردوس الأرضي. وقد تمت علمنة هذا المفهوم في العصر الحديث،فتحول اليهود من شعب يهودي مقدَّس له تاريخ يهودي مقدَّس إلى الشعب اليهودي المستقلصاحب التاريخ اليهودي الفريد. وهذه كلها مفاهيم تفترض عزلة اليهود، كما تفترض أنلهم وجوداً وتاريخاً مستقلين.

ومما دعم إحساس الإنسان الغربي بوجود تاريخيهودي مستقل، اضطلاع اليهود بدور الجماعة الوظيفية (المالية أوالاستيطانية) فيالمجتمعات الغربية. ومثل هذه الجماعات يتم عزلها عن بقية المجتمع حتى تبدو وكأنهاخاضعة لآليات وحركيات تاريخية مستقلة، مع أنها في واقع الأمر جزء لا يتجزأ منالمجتمع، وخاضعة للآليات والحركيات التاريخية نفسها التي يخضع لها هذا المجتمع،تصعد بصعوده وتهبط بهبوطه رغم استقلالها النسبي. وقد ظل دور الجماعة الوظيفية حكراًتقريباً على الجماعات اليهودية في العالم الغربي، وذلك على عكس الحضارات الشرقيةحيث اضطلعت جماعات إثنية ودينية مختلفة، من بينها اليهود، بدور الجماعة الوظيفية.

وغني عن الذكر أن مفهوم التاريخ اليهودي مفهوم محوري في الفكر الغربي وفيإدراك الإنسان الغربي لليهود. لكن المقدرة التفسيرية لهذا المفهوم ضعيفة إلى أقصىحد، فهو مفهوم اختزالي بسيط إلى أقصى حد. والإيمان بنموذج التاريخ اليهودي المستقلله نتائجه السلبية لا من الناحية المعرفية وحسب، وإنما من الناحية الإنسانيةوالأخلاقية كذلك.

أما من الناحية المعرفية، فإننا نجد أن رصد واقع الجماعاتاليهودية، وتفسيره من خلال نموذج التاريخ اليهودي يُبسِّط هذا الواقع ويختزلهويجعله تافهاً، كما أنه يُضخِّم جوانب ثانوية منه ويتجاهل عناصر أساسية فيه. إناستقلالية أي بناء تاريخي تعني استقلالىة أبنيته الاقتصادية والاجتماعية، وكذلكاستقلالية الأبنية الحضارية والرمزية المرتبطة به، كما تعني تجانسها النسبي في كلمرحلة من مراحله. وكذلك فإن استقلالية أي بناء تاريخي تعني أن هذا البناء يضم جماعةمن الناس لا وجود لها خارجه ولا يمكن فهم سلوكها إلا في إطار تفاعلها معه. ولكن منالثابت تاريخياً أن الجماعات اليهودية المنتشرة في العالم كانت تتَّسم بعدم التجانسوعدم الترابط وبأن أعضاءها كانوا يوجدون في مجتمعات مختلفة تسودها أنماط إنتاجيةوأبنية حضارية اختلفـت باختلاف الزمان والمكـان. فيهـود اليمن، في القرن التاسععشر، كانوا يعيشون في مجتمع صحراوي قَبَلي عربي. أما يهود الولايات المتحدة فيالفترة نفسها، فكانوا يعيشون في مجتمع حضري رأسمالى غربي. فإذا بحث المرء في العنصرالمشترك بين يهود الىمن ويهود الولايات المتحدة، لوجد أنه هو الدين اليهودي وحسب،وهو عنصر واحد ضمن عناصر عديدة تحدد سلوك اليهودي. بل إن الأنساق الدينية اليهوديةذاتها، بسبب تركيب اليهودية الجيولوجي التراكمي وبسبب غياب سلطة مركزية دينية،تختلف اختلافاً حاداً وجوهرياً من حضارة إلى أخرى، ومن هنا نشأت قضية الهويةاليهودية. ولكل هذا، نجد أن سلوك اليهودي اليمني تحكمه عناصر البناء التاريخيالعربي الذي يعيش فيه، تماماً كما تحكم سلوك يهود الولايات المتحدةمكوناتالبناء التاريخي الغربي والأمريكي. غير أن نموذج التاريخاليهودي، بما يفترضه من وحدة وتجانس، يجعل المؤرخ يهمل كل عناصر عدم الوحدة وعدمالتجانس التي تُشكِّل الجانب الأكبر في مكوِّنات واقع أعضاء الجماعات اليهودية، وهيعناصر نتصور أنها أهم من عناصر الوحدة والتجانس، ولها قيمة تفسيرية ورصدية أعلى.

ومن المعروف أن أعضاء الجماعات اليهودية لم يكونوا من صناع القرار في عصورالتاريخ المختلفة، وخصوصاً في الغرب. فقد كانوا يقتربون أحياناً من أعضاء النخبةالحاكمة ومؤسسات صنع القرار باعتبارهم جماعة وظيفية، وكانوا يبتعدون عنها أحياناًأخرى. ولكن القرار ظل دائماً في يد هذه النخبة. ومما له دلالته أن أول تاريخ لأعضاءالجماعات اليهودية في العصر الحديث، والذي كتبه أسحق ماركس يوسط (1793 ـ 1860)، بدأبالعبارة التالية: « هل يمكن أن يُكتب تاريخ مستقل للعبيد؟ ». والواقع أن الردّبالنفي إن أراد المؤرخ أن ينظر إلى تاريخ العبيد خارج الإطار السياسي والاجتماعيوالحضاري للمجتمعات التي يوجدون فيها، ذلك أن تاريخ العبيد ليس تاريخاً مستقلاً بلهو جزء من تاريخ المجتمع ككل. وما يهمنا هنا هو تأكيد أن الأحداث الكبرى التي تقعللجماعات اليهودية تكمن جذورها وأسبابها في مجتمع الأغلبية. ويمكن القول بأن نموذجالتاريخ اليهودي المستقل يُوجِّه رؤية المؤرخ توجيهاً خاطئاً، إذ يذهب هذا النموذجإلى أن الأحداث التاريخية الكبرى التي قررت مصير الجماعات اليهودية (كظهور الدولةالآشورية أو ظهور الإمبريالية الغربية) تقع خارج نطاق هذا التاريخ اليهودي. وتصبحهذه الأحداث، رغم مركزيتها وقدرتها التفسيرية، أحداثاًً هامشية ذات أهميةثانوية.