انتفاضــة شـــميلنكي
Chmielnicki Uprising
«انتفاضة شميلنكي» انتفاضة شعبية في أوكرانيا ضد الاستعمار الاستيطاني البولنديوقوات الاحتلال التي كانت تحميه وكل المؤسسات التي تتبعه ######### الكاثوليكيةوالوكلاء اليهود). والانتفاضة من أهم الحوادث التاريخية التي أثرِّت في الجماعاتاليهودية في شرق أوربا، ولا تقل في أهميتها عن وعد بلفور أو الإبادة النازيةلليهود. وانتفاضة شميلنكي، شأنها شأن وعد بلفور أو الإبادة النازية، لا يمكن فهمهاإلا بالعودة إلى تاريخ العلاقة بين بولندا وأوكرانيا، وهو أمر لا علاقة له بمايُسمَّى «التاريخ اليهودي».

وقائد الانتفاضة هو بوجدان شميلنكي (1593 ـ 1657) «أتمان» (أي قائد) القوزاق أو زعيمهم (الذي أصبح فيما بعد، قائداً لأوكرانيابعد حصولها على الاستقلال، وداعية لتوحيدها مع روسيا). درس في مدارس اليسوعيين،وتعلم فنون الحرب أثناء غارات القوزاق على الدولة العثمانية، وعمل في الحرس الملكيالخاص بملك بولندا، ثم اشترك في الحرب ضد العثمانيين وأُسر عام 1620 وعاش عدة سنواتفي تركيا. وكان شميلنكي نفسه ثرياً، فاستقر في ضيعته (في شيجيرين) تحت حماية أحدالنبلاء البولنديين (شلاختا). وحينما اختلف معه، هوجمت ضيعته بمساعدة الأرنداتور (الوكيل) اليهودي فقُتل ابنه وأُلقى القبض على زوجته.

وتعود أسبابالانتفاضة إلى عدة أسباب من بينها تَزايُد الاستغلال الإقطاعي الواقع على الفلاحينالذين كانوا في واقع الأمر أقناناً تقترب حالتهم من العبودية الكاملة، وخصوصاً أنالنبلاء البولنديين لم تكن تربطهم علاقة إقطاعية حقيقية بهذه الأرض، فالإقطاعالبولندي في أوكرانيا كان إقطاعاً استيطانياً (وقد ضُمَّت أوكرانيا إلى بولندا فيمنتصف القرن السادس عشر)، وانصرف جل هم النبلاء البولنديين إلى تعميرها حتى تدرعائداً عليهم ويستولوا على ريعها. وكان اليهودي يقرض النبيل البولندي بضمان ضيعتهوريعـها، ثم يتولى هـو عملية إدارتها فيـما يعـرف باسم «نظام الأرندا»، الأمر الذيجعل كثيراً من اليهود يتحولون إلى ممثلين للنبلاء الإقطاعيين الغائبين في وارسو،فيقومون بتحصيل الضرائب الباهظة من الفلاحين ومنها ضريبة يدفعها الفلاحون الأرثوذكسلفتح باب الكنيسة لأداء الصلاة أو غيرها من العبادات. كما كانوا يقومون ببيع السلعالتي كان يحتكرها النبلاء، مثل الملح والخمور، بأسعار مرتفعة جداً. وقد كان اليهودمنتشرين بين الفلاحين القوزاق والأوكرانيين في مدن صغيرة (شتتلات)، لا يحملونالسلاح بل تقف إلى جوارهم فرق بولندية مسلحة لحمايتهم.

ومن الأسباب الأخرىالتي أدَّت إلى توتر الأوضاع وترديها فترة جفاف دامت عشرة أعوام، ازداد فيهاالفلاحون فقراً وسخطاً. كما أن محاولات الكنيسة الكاثوليكية الدائبة، لفرض نفوذهاعلى شرق أوربا، زادت سخط الجماهير الأرثوذكسية. وقد بدأت تظهر عناصر تشد من أزرالعناصر الشعبية الرافضة في أوكرانيا من بينها ظهور القوة الروسية الأرثوذكسية فيهذه الآونة، والحرب المستمرة بين ملك بولندا والنبلاء والتي أضعفت الطرفين، كماكانت جيوش السويد تُهدِّد بولندا من الشمال. وتذكر الموسوعة اليهودية العالمية أنغرور اليهود وصلفهم كان عنصراً مساعداً على زيادة السخط والتوتر، وإن كان من الأفضلالحديث عن طبيعة وضع اليهود كجماعة وظيفية وسيطة بين مطرقة النبلاء وسندان الأقنان،ذلك أن صلف أداة الاستغلال وحده ليس كافياً لإضرام نيران ثورة شعبية مستمرة.

ومما زاد من حدة الصراع وأوضح معالمه، ذلك التعارض الاجتماعي والدينيوالعرْقي الكامل بين وضع الجماهير القوزاقية والأوكرانية من جهة، ووضع النبلاءالبولنديين ووكلائهم من جهة أخرى. فهذه الجماهير كانت أساساً جماهير فلاحية تتحدثالأوكرانية وتنتمي إلى الكنيسة الأرثوذكسية. والمستغل الحقيقي كان النبيل الإقطاعيالبولندي الذي يتحدث البولندية ويتبع الكنيسة الرومانية الكاثوليكية، ولم يكنالوكيل اليهودي سوى أداته في الاستغلال وسوط عذابه. ولكنه مع هذا كان المستغلالمباشر المنعزل تماماً عن الجماهير، فهو يتحدث اليديشية ويدين باليهودية. وكانتالعناصر التي جرفتها الانتفاضة، هي القوة العسكرية البولندية والقساوسة الكاثوليكوالوكلاء اليهود من ناحية، ومن ناحية أخرى الأقنان القوزاق والأوكرانيون والتتر وكلالعناصر الأخرى التي انضمت لهم.

وقد نجحت انتفاضة شميلنكي بسرعة خاطفةفوافقت بولندا عاـم 1649 على أن تتمـتع عدة مقـاطعات من أوكرانيا بالحــكم الذاتي. ومع هذا فقد استمر الصراع العسكري بين بولندا والدولة الجديدة واستعان شميلنكيبالروس، فتقدمت القوات الروسية والقوزاقية، وتم ضم أوكرانيا وسمولنسك إلى روسيا عام 1667

وقد كانت انتفاضة شميلنكي في جوهرها شكلاً من أشكال الثورة الشعبية لاتختلف عن مثيلاتها من ثورات الفلاحين ضد الإقطاعيين ووكلائهم. وهي عادةً ثورات تأخذفي البداية شكل غضب شعبي عارم ورغبة شديدة في الانتقام، هو في جوهره رد فعل لا عقلله لعملية القمع القاسية اللاعقلانية التي كانت تُمارَس ضد الفلاحين. وعادةً ماينضم الفلاحون إلى جيوش الثورة الشعبية التي لا تلتزم بقوانين الحرب المختلفة (الخاصة بالأسرى وغيرها) لجهلهم بها، بل إن الثورة الشعبية بأسرها في مراحلهاالأولية تفتقر إلى البرنامج السياسي والرؤية. ولم تكن انتفاضة شميلنكي استثناءً منهذه القاعدة إذ اندلعت الثورة وعبَّر الفلاحون عن غضبهم بذبح كل من وجدوه في طريقهمممثلاً لمؤسسة القمع: نبلاء بولنديين وقساوسة كاثوليك ووكلاء يهود. ولعل عمليةالانتقام كانت أكثر سهولة ويسراً في حالة انتفاضة شميلنكي لأن العنصر المستغل (البولندي الكاثوليكي واليهودي اليديشي).كان عنصراً استيطانياً غريباً من السهلالتعرف عليه يعيش في الشتتلات. ومما يجدر ذكره أن انتفاضة شميلنكي لم تكن انتفاضةعنصرية موجهة ضد اليهود باعتبارهم يهوداً وإنما باعتبارهم ممثلين للإقطاع البولنديالاستيطاني. أي أنهم لم تكن لهم أية أهمية في حد ذاتهم، فقد كانوا مجرد أداة في يدأحد أطراف الصراع. ولذا فحينما كانت القوات البولندية تنتصر على المنتفضين كان هذايعني عادةً عودة أعضاء الجماعات اليهودية إلى الشتتلات وكان يُنَص على هذا فيالاتفاقيات المبرمة. وحينما كانت كفة المنتفضين ترجح كان أحد مطالبهم أن تُخلَىالمدن الأوكرانية من القوات البولندية والوكلاء اليهود. وحينما كتب شميلنكي رسالةإلى كرومويل، على أمل عقد تحالف بين القوتين الأرثوذكسية والبروتستانتية، فإنه لميذكر اليهود بخير أو شر.

وحسبما جاء في المصادر اليهودية المعاصرة، فقدأُبيد نحو ثلث يهود أوكرانيا. ولكن المؤرخين يميلون الآن إلى القول بأن هذه الأرقاممُبالَغ فيها، كما يميلون إلى أن أعداداً كبيرة من اليهود فرَّت ثم عادت بعد أنهدأت الأحوال قليلاً. وربما يفسر هذا استمرار تزايد أعداد اليهود بعد الانتفاضة. ولكن أعضاء الجماعة اليهودية (أكبر جماعة يهودية في أوربا) الذين عادوا كانوايشكلون جماعة مذعورة لا تحس بالطمأنينة الزائفة التي كانت تشعر بها قبل اندلاعالثورة، إذ تم تقويض روحها المعنوية، وفقدت الثقة في نفسها وفي وضعها، الأمر الذيجعل منها تربة خصبة للحركات الشبتانية والمشيحانية (ابتداءً من شبتاي تسفي وانتهاءًبالحسيدية) وجعلهما مادة خاماً مهيأة لأن تُنقَل إلى أي مكان حتى يمكنها الاستمرارفي الاضطلاع بدورها كجماعة وسيطة (وهو الحل الذي طرحته الصهيونية ثم نفذته).

وإذا نظرنا إلى انتفاضة شميلنكي من منظور التاريخ الإنساني العام فلابد أنتُصنَّف باعتبارها ثورة شعبية ضد شكل من أشكال الظلم لم تشهد له الإنسانية مثيلاً،فقائدها بطل شعبي نجح في تحرير شعبه، ولا شك في أن هذه الانتفاضة ارتكبت الكثير منأفعال القسوة التي لا يمكن إلا أن يدمغها الإنسان من الناحية الأخلاقية، مع علمناتمام العلم بأن هذا هو جزء من نمط الثورات الشعبية السائد، إلا أن عدالة الانتفاضةوأخلاقيتها وبطولة قائدها هي أمور لا يتطرق إليها الشك. وهكذا يحتفل بها شعبأوكرانيا، ولهذا السبب يقيم التماثيل الضخمة لقائدها ومحرر البلاد.

ولكنالدراسات الصهيونية تنظر إلى هذه الحادثة في إطار التاريخ اليهودي الذي يضع اليهودفي مقابل الأغيار، فنجد أن صورة اليهود في مثل هذه الدراسات، صورة اختزاليةكوميدية، إذ تُصوِّر اليهود باعتبارهم أقلية صغيرة يعيش أعضاؤها آمنين في مدنهمالصغيرة يتحدثون اليديشية، لا علاقة لهم بعالم الأغيار، وفجأة يهب هذا العالم ويذبحآلاف اليهود (وتبدو الواقعة بأسرها وكأنها شيء فجائي ليس له سبب واضح لأننا لا ندركدور اليهود الوظيفي أو علاقتهم بالأغيار البولنديين). ومن ثم فإن انتفاضة شميلنكيتصبح «مذبحة شميلنكي» ويُقارَن شميلنكي بهتلر. وحينما تُصوِّت إحدى دول شرق أورباضد إسرائيل في هيئة الأمم فهذا جزء من «ميراث شميلنكي». وتَناول كتب ما يُسمَّى «التاريخ اليهودي» لانتفاضة شميلنكي يبيِّن انعدام القيمة التفسيرية لهذا النموذج.