الماضي والمستقبل اليهوديان
Jewish Past and Future
«الماضي اليهودي» تعبير يفترض أن لأعضاء الجماعات اليهودية ماضياً واحداًمستقلاً، أي تاريخاً واحداً مستقلاً، فإن لم يكن لهم حاضر موحَّد فهذا نتيجة لحادثةهدم الهيكل وشتاتهم. والمشروع الصهيوني محاولة لأن يكون لليهود مستقبل موحَّد. ولكنالدراسة المتأنية تبين أن أعضاء الجماعات اليهودية ليس لهم ماض واحد. فماضيهم فيبولندا، أي تجربتهم التاريخية وموروثهم الحضاري والديني في بولندا، يختلف عن ماضييهود الفلاشاه، وتجربة هذين الفريقين تختلف عن تجربة الجماعة اليهودية في الولاياتالمتحدة. وليس لأعضاء الجماعات اليهودية حاضر واحد، فلكل جماعة يهودية مشكلاتهاونصيبها المختلف من الأفراح والأتراح. وتدل المؤشرات كافة على أن هذه الجماعات لنيكون لها مستقبل واحد. فيهود الولايات المتحدة (أكبر تجمُّع يهودي في العالم) يعتبرون أمريكا وطنهم القومي. وبرغم تعاطف أعداد كبيرة منهم مع إسرائيل والصهيونية،فإنهم لا ينوون الهجرة إليها، شأنهم في هذا شأن يهود أستراليا ونيوزلندا. أما يهودأمريكا اللاتينية وجنوب أفريقيا، على سبيل المثال، فهم يواجهون مشاكل في بلادهم قدتضطرهم إلى الهجرة ولكنهم لا يهاجرون إلى إسرائيل. بينما لا يمانع يهود الفلاشاه فيالهجرة إلى إسرائيل إذ يراودهم حلم الحراك الاجتماعي. ويدل كل هذا على أن لكل جماعةيهودية مستقبلاً مستقلاً.

ومع هذا، تصر الكتابات الصهيونية على تأكيد وجودماض ومستقبل ومصير يهودي واحد منفصل عن ماضي ومستقبل ومصير المجتمعات التي يعيشفيها أعضاء الجماعات اليهودية. ولدعم هذا الرأي، تؤكد الكتابات الصهيوينة أهميةالنظر إلى الهجمات التي تحدث ضد اليهود، كالإبادة النازية ليهود أوربا، باعتبارهاجزءاً من ماض مشترك ونمط متكرر لا يمكن الخروج منه إلا بالحركة المشتركة فيالمستقبل.

المصيـــر اليهــودي (الوحـدة والتشـابـك(
Jewish Destiny (Unity and Entanglement)
«المصير (أو القَدَر) اليهودي» عبارة تعني أن أعضاء الشعب اليهودي لهم مصير واحد، فريد ومشترك، وأنهم خاضعون لمسارواحد، ولهم تطلعات مشتركة، ويلقون نهاية واحدة. وفكرة المصير اليهودي مرتبطة بفكرةالشعب المختار، فهذا الشعب قد اختاره الإله وحلّ فيه ليكون محط عنايته واهتمامه (وأحياناً اضطهاده)، وهو بالتالى شعب ذو مصير خاص، مقرَّر مسبقاً، يبدأ تاريخهبالخروج من مصر وينتهي بعودة الماشيَّح. وبين البداية والنهاية، يلاقي اليهودمصيرهم الموعود من اضطهاد وطرد وتهجير وهجرة، فهم أداة خلاص العالم. وقد عمقتالقبَّالاه اللوريانية هذا المفهوم، وربطت بين مصير الإله ومصير الشعب.

وقدتمت علمنة هذا المفهوم الديني ليكون مصير اليهود التاريخي المشـترك مفهوماًدنيوياً، وهـو مصير مسـتقل عن تواريخ الشعوب الأخرى، ولذا يُفسَّر ما يحدث لليهودبمعزل عن الظروف الحضارية والاجتماعية التي أدَّت إلى هذا الحدث، والتي لا تقعبالضرورة داخل حدود التاريخ اليهودي. فحادثة مثل الخروج من مصر، يُنظَر إلىها خارجحركيات التطور في الشرق الأدنى القديم. ولا يُنظَر إليها في علاقتها باكتشاف الحديدالذي أدَّى إلى تدهور الدولة المصرية، وكذلك طرد الهكسوس من مصر وتركهم موالىهم منالعبرانيين وراءهم، ثم ظهور شعوب البحر. ويصبح تهجير اليهود إلى بابل وكأنه عقاب منالإله لليهود على ما اقترفوه من آثام وجزء من مصيرهم. وتسقط من الصورة حركيات ظهورالإمبراطوريتين الآشورية والبابلية وصراعهما مع الدولة المصرية، كما تسقط من الصورةالأقوام الأخرى التي تم سبيها بحيث تظهر حادثة السبي وكأنها حدث فريد مقصور علىاليهود لا يمكن فهمه إلا في إطار المصير اليهودي الفريد.

ومن أهم الوقائعالتي تفسَّر بهذه الطريقة، واقعة الإبادة النازية ليهود أوربا، إذ تصر الأدبياتاليهودية على عدم ذكر الملايين الأخرى التي أبيدت تحت نفس الظروف. كما أن هذهالأدبيات لا تتحدث أبداً عن سبب العداوة الشرسة من قبل النازيين لليهود وكأن ذلكأمر غير مرتبط بأزمة المجتمع الصناعي الغربي في الثلاثينيات والرؤية المعرفيةالإمبريالية.

وتحاول هذه الأدبيات، انطلاقاً من النموذج نفسه، أن تؤكد بعضالسمات الأساسية التي تتسم بها بعض الجماعات اليهودية باعتبارها جزءاً من المصيراليهودي وتعبيراً عنه. فاليهودي مكتوب علىه الانعزال وعدم الاندماج، شاء أم أبى،وهو دائماً يعزل نفسه عن الآخرين بسبب تركيبية شخصيته اليهودية، وهي مقولة وجدتطريقها إلى الأدبيات العربية التي تتناول الشأن اليهودي. ولكن الدارس المدقق يعرفأنها مقولة لا أساس لها من الصحة، فلو لم يندمج اليهود ولم ينصهروا في مجتمعاتهملبلغ عددهم الآن مئات الملايين، فقد كان عددهم مع بداية العصر المسيحي (في بعضالتقديرات) يزيد على سبعة ملايين. كما أن تنوع اليهود الإثني والعرْقي والحضاري لايمكن فهمه إلا في إطار اندماجهم. فالفلاشاه يختلفون عن يهود الهند الذين يختلفونبدورهم عن يهود الولايات المتحدة. ومع هذا، تصر الأدبيات الصهيونية على أن مصيراليهودي وقدره هو العزلة وعدم الاندماج، وبالتالى تصبح الدولة الصهيونيـة نتيجـةحتمـية ومفهومة وأمراً طبيعياً، فهي الإطـار الذي يمكن لهذا المنعزل الأزلي أنيعبِّر عن شخصيته اليهودية من خلاله.

ويظهر قصور المقدرة التفسيرية لنموذجالمصير اليهودي إذا ما درسنا السلوك الفعلي لأعضاء الجماعات اليهودية خارج إطار هذهالمقولات الأسطورية. فيهود الولايات المتحدة قد ربطوا مصيرهم كليةً بمصير بلدهم،برغم كل ادعاءاتهم الصهيونية. كما أن اليهود الأمريكيين الذين اشتركوا في الحربالعالمية الثانية بلغ عددهم خمسمائة وخمسين ألفاً، جرح منهم أربعة وعشرون ألفاً،وحصل ستة وثلاثون ألفاً على نياشين، وقتل منهم عشرة آلاف وخمسمائة من أجل وطنهم،وهو عدد يفوق عدد جملة اليهود الذين ماتوا دفاعاً عن الوطن القومي اليهودي. كذلك،فإن يهود الولايات المتحدة لا يهاجرون الى هذا الوطن القومي، علماً بأن عدد من يزورمنهم هذا الوطن للسياحة لا يزيد على 10% وابتداءً من العقود الأخيرة من القرنالتاسع عشر، أخذ المصير اليهودي (أو مصير الأغلبية العظمى من يهود العالم) يرتبطبالمصيرالأمريكى، إذ أن ملايين المهاجرين اتجهوا إلى الولايات المتحدة وتجاهلوا أرضالميعاد تماماً عدا أعداداً قليلة للغاية. ولا يزال هذا البلد الذهبي (جولدن مدينا) الغريم الأكبر للدولة الصهيونية حيث يهاجر مواطنوها بأعداد متزايدة إلى أرض الميعادالأمريكية التي تحقق للجميع قسطاً أكبر من الأمن. وكذلك يفعل يهود أمريكا اللاتينيةوجنوب أفريقيا. كما أن المهاجرين من روسيا وأوكرانيا يتجهون أساساً، هم أيضاً، إلىالولايات المتحدة متى سنحت لهم الفرصة. فإذا أضفنا إلى هذا الاتفاق الإستراتيجي بينالدولة الصهيونية والولايات المتحدة، والاعتماد شبه الكامل لهذه الدولة على الدعمالأمريكي بحيث أصبح مصيرها في يد راعيها الأكبر، فإننا نستطيع أن نقول بكثير منالإطمئنان إن المصير اليهودي، إن كان ثمة مصير مستقل، هو نفسه المصير الأمريكي. فالمصير اليهودي خاضع تماماً للإرادة الأمريكية. وهو، على كلٍّ، أمر متوقَّع بعد أنقامت المنظمة الصهيونية العالمية بتوقيع عقد صامت مع الحضارة الغربية يتحول بمقتضاهأعضاء الجماعات اليهودية إلى جماعة وظيفية استيطانية في فلسطين، أو إلى جماعاتتوطينية خارجها، تدافع عن المصالح الغربية نظير أن تضمن هذه الحضارة أمن وبقاءالدولة الصهيونية.

وقد أصبحت مقولة «المصير اليهودي» مقولة أساسية فيالخطاب السياسي الإسرائيلي وتتبدَّى في عبارة مثل «إين بريرا»، أي «لا خيار»، وهيالعبارة التي يصف بها المستوطنون الصهاينة حالة الحرب الدائمة التي يعيشونها. وقدتعمق هذا المفهوم في أدبيات جوش إيمونيم، إذ يصبح المصير اليهودي جوهر حياةالمستوطنين، فهو تعبير عن عبء الميثاق بين الإله والشعب، وهو عبء لا يحمله كل الشعباليهودي، وإنما يحمله المستوطنون وحدهم، فيذهبون إلى الضفة الغربية، ويضربون خيامهمبجوار البركان. وهو أمر مكتوب عليهم، فقد جاء في العهد القديم: « هو ذا شعب وحدهوبين الشعوب لا يسكن ». ولذا، فالحرب الدائمة مع العرب جزء من المصير المحتوم.

ولقد حوَّلت المحكمة العليا فكرة المصير اليهودي إلى معيار ارتضته أساساًلتعريف الهوية اليهودية. ومن هنا، رُفض طلب الأخ دانيال أن يُعترَف به يهودياً، رغمأنه وُلد لأم يهودية، وذلك لأنه تبنَّى ديناً آخر ولم يربط مصيره بمصير الشعباليهودي. ومع هذا، صرح شامير بأن الدولة الصهيونية لا يمكنها أن تدافع عن كل يهودالعالم، إذ أنها مشغولة بالدفاع عن نفسها، أي أنه رفض اشتباك مصير الشعب اليهوديبالدولة اليهودية.

ويُلاحَظ أن الجماعات الوظيفية عادةً ما يكون لديهاإحساس متضخم بخصوصية مصيرها. فالساموراي، في شعر الهايكو، يتحدثون دائماً عن مصيرهمالموعود، كما تتحدث العاهرات عن نصيبهن المكتوب على الجبين. وهذه جميعاً محاولاتإنسانية لعقلنة وضع غير عقلاني وغير إنساني لا تمكن عقلنته إلا بهذه الطريقة. ولعلاضطلاع أعضاء الجماعات اليهودية بدور الجماعات الوظيفية في الحضارة الغربية،واضطلاع الدولة الصهيونية بدور الدولة الوظيفية، السبب الكامن وراء تضخُّم الحديثالصهيوني عن المصير اليهودي الفريد والمشترك.

ونحن نفرِّق بين وحدة المصيراليهودي وبين تشابك المصائر، إذ أن أحوال إحدى الجماعات اليهودية تؤثر أحياناً علىجماعة يهودية أخرى، وذلك رغم وجودهما في مسارين تاريخيين مختلفين، وبرغم انتمائهماإلى حركيات تاريخية مختلفة. وعلى سبيل المثال، فإن حركيات التحديث المتعثر في شرقأوربا قذفت بملايين اليهود الفائضين إلى غربها، فاشتبك مصيرهم بمصير يهود هذهالبلاد دون أن يتَّحد المصيران بالضرورة، وبذل يهود غرب أوربا أقصى جهدهم للتخلص منالوافدين الجدد. وظهرت، في هذا الإطار، الصهيونية الخارجية التوطينية التي يُطلَقعليها مصطلح «صهيونية الدياسبورا»، وهي صهيونية لا تطلب من المؤمن بها الاستيطان،وإنما تطلب منه المساهمة في توطين الفائض البشري اليهودي الذي يهدِّد مكانتهبالخطر. وقد أثر المشروع الاستيطاني الصهيوني، وهو مشروع إشكنازي غربي بالدرجةالأولى، في الجماعات اليهودية في العالم العربي، إذ أن مصيرهم اشتبك مع مصيرالمستوطنين الإشكناز، الأمر الذي اضطرهم إلى الخروج من بلادهم العربية وإلى استيطانأعداد منهم فلسطين. ومع هذا، ظل الوضع الاقتصادي المتدني والهوية الحضارية المستقلةداخل المُستوطَن الصهيوني، وهو ما يعني أن مصيرهم ليس متوحداً بعد مع مصير الإشكنازوإن كان الوضع قد بدأ في التغير في الآونة الأخيرة (وقد يصبحون جزءاً من المُستوطَنالصهيوني لهم نفس مصيره). ومع هذا، فثمة عناصر تتفاعل داخل المُستوطَن الصهيونيوتوسِّع الهوة بين الإشكناز ويهود العالم الإسلامي، وتفرض على كلٍّ مصيراً مختلفاً.