السؤال الواحد والثلاثون :
-ماهو ضابط وشروط الزّواج من الأجنبيّات ( النّصرانيّات )؟

الجواب :
الأصل هو حِلّ نساء أهل الكتاب عند جمهور أهل العلم، لقوله تعالى: { الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ }.
ولكنّ هناك شروطا متّفقا عليها، وذلك لنصّ القرآن أو السنّة عليها، وإنّ هناك شروطا مختلفا فيها، وشروطا اشترطها الفقهاء من بعد لتغيّر الزّمان وأحوال النّاس، ومجمل هذه الشّروط ما يلي:
1- الإحصان: وهذا شرط نصّت عليه الآية، والمقصود من قوله تعالى: { وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ } [المائدة: من الآية5]، والمقصود بالإحصان هنا: العفّة والحرّية.
وهذا الشّرط ليس بغريب فهو يشترط أيضا في نكاح المسلمة أيضا، في اشتراط العفّة:{ الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ } [النور:3]، ولا يتسامح في هذا الشّرط بحال من الأحوال لا مع المسلمة ولا مع غيرها.
و في اشتراط الحرّية:{ وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَات} [النّساء: من الآية25]، وهذا الشّرط يتسامح فيه مع المسلمة إذا لم يستطع المسلم نكاح الحرّة وخشي على نفسه العنت، وإن كان يُفضي إلى أن يصير ابنها عبدا تابعا لها فيملكه مالكها.
ولا يُتسامح في هذا الشّرط مع الكتابيّة، لسببين اثنين:
أوّلا: لدخول النّقص عليها من جهتين: جهة الكفر، وجهة الرقّ.
ثانيا: أنّ الأمة المسلمة إذا ولدت يصبح ولدها ملكا لمالكها وهو المسلم، فحتّى لو باعها فإنّه لا يبيعها لكافر، أمّا الأمة الكافرة يمكن بيعها لكافر، وهناك يدخل الولد تحت ولاية الكافر تبعا لأمّه، والله يقول:{وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً } [النساء: من الآية141].
وممّن فسّر الإحصان بالعفّة عمر بن الخطّاب رضي الله عنه، فقد أخرج البيهقيّ في " سننه " (7/172) وابن أبي شيبة في "المصنّف" (3/474) عن أبي وائل قال: تزوّج حذيفة رضي الله عنه يهوديّة، فكتب إليه عمر رضي الله عنه أن يفارقها، فقال: ( إِنِّي أَخْشَى أَنْ تَدَعُوا المُسْلِمَاتِ، وَتَنْكِحُوا المُومِسَاتِ ) قال البيهقيّ: " وهذا من عمر رضي الله عنه على طريق التّنـزيه والكراهية، ففي رواية أخرى أنّ حذيفة رضي الله عنه كتب إليه: أحرام هي ؟ قال: ( لا، ولكنّي أخاف أن تعاطوا المومسات منهنّ ) قال أبو عبيدة: يعني العواهر.
وقال الشّعبي في قوله تعالى:{ وَالمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ }: " إحصان اليهودية والنّصرانية: أن تغتسل من الجنابة وأن تحصن فرجها.." [ " أحكام القرآن " للجصّاص (2/324) ]، وممّن قال بذلك: السدّي، ومجاهد وسفيان.
2- ألاّ تكون في دار الحرب:
إنّ آية المائدة الّتي دلّت على جواز زواج المسلم بالكتابية، لم تفرّق بين أن يتزوّجها في دار الإسلام أو في دار الحرب.
ولكن دار الحرب تختلف عن دار الإسلام، بأنّ السّيطرة في دار الإسلام للمسلمين الذين هم أهل الحل والعقد، يحكمون بشريعة الله التي أنزلها في كتابه وفي سنة رسوله صلّى الله عليه وسلّم ، وتظهر فيها شعائر الإسلام، واحتمال ميل الزوجة إلى دين زوجها المسلم وارد، كما أن احترامها لآداب الإسلام، وعدم مجاهرتها بما يخالفها أقرب، إرضاءً لزوجها الذي يغيظه مخالفة دينه في الأخلاق وارتكاب المحرمات، وإن تساهل فيه مراعاة لمعتقدها الذي تزوجها مع علمه به.
وهذا بخلاف دار الحرب التي تكون الهيمنة والسيطرة فيها للكفار الذين هم أهل الحل والعقد، والحكم فيها إنما يكون بقوانينهم التي تخالف الإسلام، كما أن الشعائر الظاهرة فيها هي شعائر الكفر، وليست شعائر الإسلام، والأخلاق السائدة فيها هي أخلاق الكفار.
ولهذا تكون الزوجة الكتابية في بلاد الحرب، أكثر تمسكا بدينها وأخلاقها وعاداتها، وأقل ميلا إلى دين زوجها وأخلاقه بل إنه ليخشى على زوجها المسلم أن يتأثر بمحيط الكفر الذي يعيش فيه، ويخشى أكثر على ذريته من التدين بدين أمهم التي تربيهم عليه.
ولهذا اختلف العلماء الذين أجازوا زواج المسلم بالكتابية في دار الإسلام، في زواجه بها في دار الحرب.
- فقد ذكر القرطبي رحمه الله: أن ابن عبّاس رضي الله عنه سئل عن نكاح أهل الكتاب إذا كانوا حربا ؟ فقال: " لا يحلّ-وتلا قوله تعالى:{ قَاتِلُوا الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلاَ بِاليَوْمِ الآخِرِ} إلى قوله تعالى:{ وَهُمْ صَاغِرُونَ } قال الرّاوي عنه: حدّثت بذلك إبراهيم النّخعي فأعجبه-يعني أنّ إبراهيم يقول بالتّحريم كذلك- وكره مالك تزوّج الحربيات، لعلّة ترك الولد في دار الحرب، ولتصرفها في الخمر والخنزير. اهـ [ الجامع لأحكام القرآن 3/69 ].
فمذهب ابن عبّاس وعليّ بن أبي طالب رضي الله عنهما وإبراهيم النخعي، تحريم زواج المسلم بالكتابية في دار الحرب، ويحتمل أن تكون كراهة الإمام مالك رحمه الله لذلك، كراهة تحريم.
كما أنّ امرأته الحربيّة قد تنشئ أولاده وتربّيهم على النّصرانية وبغض المسلمين، وغير ذلك من المفاسد المترتبة على زواجه بالحربية في دار الحرب.
وقد صرّحت كتب المذاهب الفقهية بكراهة الزواج بالكتابية في دار الجرب، إلا أن بعضهم يفسرون الكراهة بكراهة التحريم، وبعضهم يفسرونها بكراهة التنزيه، ورجّح الفقيه الحنفي محمّد أمين المشهور بابن عابدين رحمه الله أنّ الكراهة هنا كراهة تحريمية، وليست كراهة تنزيه. [حاشية رد المحتار على الدر المختار (3/45)].
وصرّح الدكتور وهبة الزحيلي في كتابه " الفقه الإسلامي وأدلّته " (7/145) أن الحنفية يحرمون الزواج بالحربية في دار الحرب.
وقال في " الشّرح الصّغير " (2/420) في المذهب المالكي: " وتأكد الكره-أي الكراهة-إن تزوجها بدار الحرب، لأن لها قوة بها لم تكن بدار الإسلام، فربما ربت ولده على دينها، ولم تبال باطلاع أبيه على ذلك ".
وقال النووي رحمه الله في " المنهاج " (2/187): "وتحل كتابية، ولكن تكره حربية، وكذا ذمية على الصحيح" وقال في الحاشية: "لكن الحربية أشد كراهة منها ". وكذلك قال ابن قدامة في " المغني " (9/292-293).
وقال ابن القيم رحمه الله في " أحكام أهل الذمّة " (2/420):
"وإنّما الّذي نصّ عليه أحمد، ما رواه ابنه عبد الله، قال: أكره أن يتزوّج الرّجل في دار الحرب، أو يتسرّى من أجل ولده، وقال في رواية إسحاق بن إبراهيم: لا يتزوّج ولا يتسرّى الأسير، ولا يتسرّى بمسلمة، إلاّ أن يخاف على نفسه، فإذا خاف على نفسه لا يطلب الولد ".
وبهذا يظهر أن مذهب الإمام أحمد، أكثر صراحة في تحريم زواج المسلم بالكتابية في دار الحرب، بل لا يبيح له وطء أمته المسلمة أو امرأته في دار الحرب إلا للضرورة، مع توقي إنجاب الولد. ويلي مذهب الإمام أحمد في الصراحة بالتجريم المذهب الحنفي.
أسباب تحريم العلماء زواج المسلم بالكتابية في دار الحرب.
والذي دعا العلماء إلى القول بتحريم زواج المسلم بالكتابية في دار الحرب أو كراهته، يتلخص في ثلاثة أمور رئيسة:
الأمر الأول: الخوف على ذرية المسلم المولودين في دار الحرب.
من أن يُرَبُّوا على غير دين أبيهم، فيكون بذلك قد غرس لأعداء الإسلام غرسا يكثر به سوادهم، ويخسر بذلك المسلمون الذين هم أولى بتكثير سوادهم، وقد علم أن حفظ النسل ضرورة من ضرورات الحياة التي يجب حفظها وحمايتها، والمقصد الأساسي من حفظ النسل البشري في الأرض، أن يكون النسل محققا لعبادة الله، لأن الله تعالى إنما خلق الخلق لعبادته، كما :{ وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ}[الذّاريات: 56].
الأمر الثاني: الخوف من اختيار المسلم المقام بين ظهراني الكفار الحربيين، لما في ذلك من المفاسد:
المفسدة الأولى: مخالفة الأمر بالهجرة إلى بلاد الإسلام. وفي ذلك تعريض المسلم نفسه لعذاب الله وسخطه، وإذلال نفسه لعدوه.
المفسدة الثانية: تكثير سواد الكافرين، وتقليل سواد المسلمين، وفي ذلك تقوية للكفار، وإضعاف للمسلمين.
المفسدة الثالثة: تعريض ذريته للكفر، أو الاسترقاق، ولو كانوا مسلمين، ذلك أن امرأته قد يأسرها المسلمون وهي حامل، فيكون ولدها رقيقا.
المفسدة الرابعة: ما قد يتعرض له المسلم من المنكر، ومن ذلك تعاطي المحرمات التي قد لا يستطيع الإفلات من تعاطيها، ومشاهدة المنكرات الكثيرة التي تجعله يألفها ولا ينكرها قلبه، بل قد يموت قلبه فيرضى بها لكثرتها.
المفسدة الخامسة: ما تمارسه امرأته من منكرات، فقد تمارس أنواعا كثيرة من تلك المنكرات، وقد يميل مع طول الوقت والمعايشة، إلى كثير من تلك المنكرات المخالفة لدينه، إن سلم من الارتداد عنه.
ومن هنا يبدو رجحان القول بتحريم زواج المسلم بالكتابية في دار الحرب، لأن زواجه بالكتابية في دار الإسلام مباح مع الكراهة، ومعلوم أن تناول المباح إذا أدى إلى مفاسد تفوق المصلحة من تناوله، غلب جانب المفسدة الراجحة فيدخل في الحرام بذلك، ومفاسد نكاح الكتابية في دار الحرب تفوق المصالح المترتبة عليه كما هو واضح مما تقدم، و الله تعالى أعلم.
فلا غرابة من اشتراط الباحثين والعلماء اليوم شروطا كثيرة في جواز الزّواج من كتابيّة، فهي كلّها مستقاة من تلكم المقاصد الّتي بُثَّت في كتب العلماء القدماء حيث النّقاء والصّفاء، فكيف في عصر ذاعت فيه الفحشاء، ومجملها:
التأكّد من كونها من أهل الكتاب.
الإحصان.
ألاّ تكون حربيّة.
توفّر شروط العقد.
عدم الخشية على الأولاد: من الانسلاخ من الدّين، وأكل الحرام.
رجاء إسلام تلك المرأة.
أن يكون المسلم متين العقيدة.
أن يكون مستقيما على تعاليم الإسلام.
وإلاّ، فإنّه آثم بزواجه ووقع فيما حذّر الله منه:{ أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ } [البقرة: من الآية221].