الحوار بين فرعون وموسى عليه السلام حول الربوبية
{قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى(49)قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى(50)قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الأُولَى(51)قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنسَى(52)الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلا وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى(53)كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآَيَاتٍ لأُوْلِي النُّهَى(54)مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى(55)}.
{قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى} أي قال فرعون: ومنْ هذا الربُّ الذي تدعوني إِليه يا موسى؟ فإِني لا أعرفه؟ ولم يقل: من ربيّ لغاية عتوّه ونهاية طغيانه بل أضافه إِلى موسى وهارون {فَمَنْ رَبُّكُمَا} {قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} أي ربُّنا هو الذي أبدع كل شيءٍ خَلقه ثم هداه لمنافعه ومصالحه، وهذا جوابٌ في غاية البلاغة والبيان لاختصاره ودلالته على جميع الموجودات بأسرها، فقد أعطى العين الهيئة التي تطابق الإِبصار، والأُذُن الشكل الذي يوافق الاستماع، وكذلك اليد والرجل والأنف واللسان، قال الزمخشري: ولله درُّ هذا الجواب ما أخصره وأجمعه وأبينه لمن ألقى الذهن ونظر بعين الإِنصاف { قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الأُولَى} أي ما حال من هلك من القرون الماضية لِم لَمْ يُبعثوا، ولم يُحاسبوا إِن كان ما تقول حقاً؟ قال ابن كثير: لما أخبر موسى بأن ربه الذي أرسله هو الذي خلق ورزق، وقدَّر فهدى، شرع فرعون يحتج بالقرون الأولى كأنه يقول: ما بالهم إِذْ كان الأمر كذلك لم يعبدوا ربَّك بل عبدوا غيره؟ {قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ} أي قال موسى: علم أحوالها وأعمالها عند ربي مسطرٌ في اللوح المحفوظ {لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنسَى} أي لا يخطئ ربي ولا يغيب عن علمه شيءٌ منها .. ثم شرع موسى يبينّ له الدلائل على وجود الله وآثار قدرته الباهرة فقال {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ مَهْدًا} أي جعل الأرض كالمهد تمتهدونها وتستقرون عليها رحمة بكم {وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلا} أي جعل لكم طُرقاً تسلكونها فيها لقضاء مصالحكم {وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} أي أنزل لكم من السحاب المطرَ عذباً فراتاً {فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى} أي فأخرج بذلك الماء أنواعاً من النباتات المختلفة الطعم والشكل والرائحة كلُّ صنف منها زوج، وفيه التفاتٌ من الغيبة إِلى المتكلم تنبيهاً على عظمة الله {كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ} أي كلوا من هذه النباتات والثمار واتركوا أنعامكم تسرح وترعى من الكلأ الذي أخرجه الله، والأمر للإِباحة تذكيراً له بالنِّعم { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لأُوْلِي النُّهَى} أي إِنَّ فيما ذُكر لعلامات واضحة لأصحاب العقول السليمة على وجود الله ووحدانيته {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ} أي من الأرض خلقناكم أيها الناس وإليها تعودون بعد مماتكم فتصيرون تراباً {وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى} أي ومن الأرض نخرجكم مرة أخرى للبعث والحساب.
اتهام موسى بالسحر
{وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ ءاياتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى(56) قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى(57)فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ مَكَانًا سُوًى(58)قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى(59)}.
ثم أخبر تعالى عن عتوِّ فرعون وعناده فقال {وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ ءاياتِنَا كُلَّهَا} أي والله لقد بصَّرْنا فرعون بالمعجزات الدالة على نبوةّ موسى من العصا، واليد، والطوفان، والجراد، وسائر الآيات التسع {فَكَذَّبَ وَأَبَى} أي كذَّب بها مع وضوحها وزعم أنها سحر، وأبى الإِيمان والطاعة لعتوِّه واستكباره {قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى} أي قال فرعون: أجئتنا يا موسى بهذا السحر لتخرجنا من أرض مصر؟ {فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ} أي فلنعارضنَّك بسحرٍ مثل الذي جئت به ليظهر للناس أنك ساحر ولستَ برسول {فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا} أي عيِّنْ لنا وقت اجتماع {لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ مَكَانًا سُوًى} أي لا نخلف ذلك الوعد لا من جهتنا ولا من جهتك ويكون بمكان معيَّن ووقت معيَّن {قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى} أي قال موسى: موعدنا للاجتماع يوم العيد - يومُ من أيام أعيادهم - وأن يجتمع الناس في ضحى ذلك النهار، قال المفسرون: وإِنما عيَّن ذلك اليوم للمبارزة ليظهر الحق ويزهق الباطل على رؤوس الأشهاد، ويشيع ذلك في الأقطار بظهور معجزته للناس.
جمع فرعون السحرة وتحذير موسى لهم
{فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى(60)قَالَ لَهُمْ مُوسَى وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنْ افْتَرَى(61)فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى(62) قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمْ الْمُثْلَى(63)فَأَجْمِعُوا كيدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنْ اسْتَعْلَى(64)}.
{فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى} أي انصرف فرعون فجمع السَّحرة ثم أتى الموعد ومعه السحرة وأدواتهم وما جمعه من كيد ليطفئ نور الله، قال ابن عباس: كانوا اثنين وسبعين ساحراً مع كل ساحر منهم حبال وعصىّ {قَالَ لَهُمْ مُوسَى وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ} أي قال موسى للسحرة لما جاء بهم فرعون: ويلكم لا تختلقوا على الله الكذب فيهلككم ويستأصلكم بعذاب هائل {وَقَدْ خَابَ مَنْ افْتَرَى} أي خسر وهلك من كذب على الله.. قدَّم لهم النصح والإِنذار لعلَّهم يثوبون إلى الهُدى، ولما سمع السَّحرة منه هذه المقالة هالهم ذلك ووقعتْ في نفوسهم مهابته ولذلك تنازعوا في أمره {فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى} أي اختلفوا في أمر موسى فقال بعضهم: ما هذا بقول ساحر وأخفوا ذلك عن الناس وأخذوا يتناجون سرّاً {قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا} أي قالوا بعد التناظر والتشاور ما هذان إِلاّ ساحران يريدان الاستيلاء على أرض مصر وإِخراجكم منها بهذا السحر {وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمْ الْمُثْلَى} أي غرضُهما إِفسادُ دينكم الذي أنتم عليه والذي هو أفضل المذاهب والأديان، قال الزمخشري: والظاهر أنهم تشاوروا في السرِّ وتجاذبوا أهداب القول ثم قالوا { إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ} فكانت نجواهم في تلفيق هذا الكلام وتزويره خوفاً من غلبة موسى وهارون لهما وتثبيطاً للناس من اتباعهما {فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا} أي أحْكموا أمركم واعزموا عليه ولا تتنازعوا وارموا عن قوسٍ واحدة، ثم ائتوا إلى الميدان مصطفين ليكون أهيب في صدور الناظرين {وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنْ اسْتَعْلَى} أي فاز اليوم من علا وغلب، قال المفسرون: أرادوا بالفلاح ما وعدهم به فرعون من الإنعامات العظيمة والهدايا الجزيلة مع التقريب والتكريم كما{أَئِنَّ لَنَا لأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنْ الْمُقَرَّبِينَ}.
*
*
*
المفضلات