المبارزة بين موسى والسحرة وإعلان إيمانهم علناً



{ قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى(65)قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى(66)فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى(67)قُلْنَا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الأَعْلَى(68)وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى(69)فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى(70)قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى (71) قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا(72) إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى(73)إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا(74)وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ الدَّرَجَاتُ الْعُلا(75)جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أبداً وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى(76)}



{قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى} أي قال السحرة لموسى: إِمَّا أن تبدأ أنتَ بالإِلقاء أو نبدأ نحنُ؟ خيرَّوه ثقةً منهم بالغلبة لموسى لأنهم كانوا يعتقدون أنَّ أحداً لا يقاومهم في هذا الميدان {قَالَ بَلْ أَلْقُوا} أي قال لهم موسى: بل ابدأوا أنتم بالإِلقاء، قال أبو السعود: قال ذلك مقابلةً للأدب بأحسنَ من أدبهم حيث بتَّ القول بإِلقائهم أولاً، وإِظهاراً لعدم المبالاة بسحرهم ليُبرزوا ما معهم، ويستفرغوا أقصى جهدهم وقصارى وسعهم، ثم يُظهر الله سلطانه فيقذف بالحق على الباطل فيدمغه {فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} في الكلام حذفٌ دلَّ عليه المعنى أي فألقوا فإِذا تلك الحبال والعصيُّ التي ألقوها يتخيلها موسى ويظنُّها - من عظمة السحر - أنها حياتٍ تتحرك وتسعى على بطونها، والتعبيرُ يوحي بعظمة السحر حتى إن موسى فزع منها واضطرب {فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى} أي أحسَّ موسى الخوف في نفسه بمقتضى الطبيعة البشرية لأنه رأى شيئاً هائلاً {قُلْنَا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الأَعْلَى} أي قلنا لموسى: لا تخفْ ممّا توهمت فإِنك أنت الغالب المنتصر {وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا} أي أَلقِ عصاك التي بيمينك تبتلعْ بفمها ما صنعوه من السحر { إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ} أي إِنَّ الذي اخترعوه وافتعلوه هو من باب الشعوذة والسحر {وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} أي لا يسعد الساحر حيث كان ولا يفوز بمطلوبه لأنه كاذب مضلِّل {فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى} أي فألقى موسى عصاه فابتلعت ما صنعوا فخرَّ السحرة حينئذٍ سجداً لله ربّ العالمين لما رأوا من الآية الباهرة، قال ابن كثير: لما ألقى موسى العصا صارت ثعباناً عظيماً هائلاً، ذا قوائم وعُنق ورأس وأضراس، فجعلت تتَّبع تلك الحبال والعصي حتى لم تبق شيئاً إِلا ابتلعته، والناس ينظرون إِلى ذلك عياناً نهاراً، فلما عاين السحرة ذلك وشاهدوه علموا علم اليقين أن هذا ليس من قبيل السحر والحيل وأنه حقٌّ لا مرية فيه، فعند ذلك وقعوا سجداً لله، فقامت المعجزة واتضح البرهان، ووقع الحق وبطل السحر، قال ابن عباس: كانوا أول النهار سحرة، وفي آخر النهار شهداء بررة {قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ} أي قال فرعون للسحرة: آمنتم بموسى وصدقتموه بما جاء به قبل أن أسمح لكم بذلك وقبل أن تستأذنوني؟ {إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ} أي إِنه رئيسكم الذي علَّمكم السحر فاتفقتم معه لتذهبوا بملكي، قال القرطبي: وإِنما أراد فرعون بقوله هذا أن يُلبِّس على الناس حتى لا يتبعوهم فيؤمنوا كإِيمانهم، ثم توعَّدهم وهدَّدهم بالقتل والتعذيب، فقال {فَلأقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ} أي فوالله لأقطعنَّ الأيدي والأرجل منكم مختلفات بقطع اليد اليمنى، والرجل اليسرى أو بالعكس {وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} أي لأعلقنكم على جذوع النخل وأقتلنكم شرَّ قِتْلة {وَلَتَعْلَمنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى} أي ولتعلمُنَّ أيها السحرة من هو أشدُّ منا عذاباً وأدوم، هل أنا أم ربُّ موسى الذي صدقتم به وآمنتم {قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ} أي قال السحرة: لن نختارك ونفضّلك على الهدى والإِيمان الذي جاءنا من الله على يد موسى ولو كان في ذلك هلاكنا {وَالَّذِي فَطَرَنَا} قسمٌ بالله أي مقسمين بالله الذي خلقنا {فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ} أي فاصنع ما أنت صانع {إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} أي إِنما ينفذ أمرك في هذه الحياة الدنيا وهي فانية زائلة ورغبتنا في النعيم الخالد، قال عكرمة: لما سجدوا أراهم الله في سجودهم منازلهم في الجنة فلذلك قالوا ما قالوا {إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا} أي آمنا بالله ليغفر لنا الذنوب التي اقترفناها وما صدر منا من الكفر والمعاصي {وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ} أي ويغفر لنا السحر الذي عملناه لإِطفاء نور الله { وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} أي والله خيرٌ منك ثواباً وأبقى عذاباً، وهذا جوابُ قوله {ولتعلمُنَّ أيُّنا أشدُّ عذاباً وأبقى} {إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ} هذا من تتمة كلام السحر عظةً لفرعون أي من يلقى ربه يوم القيامة وهو مجرمٌ باقترافه المعاصي وموته على الكفر، فإِن له نار جهنم {لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا} أي لا يموت في جهنم فينقضي عذابه، ولا يحيا حياة طيبة هنيئة {وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ} أي ومن يلقى ربه مؤمناً موحّداً وقد عمل الطاعات وترك المنهيات {فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ الدَّرَجَاتُ الْعُلا} أي فأولئك المؤمنون العاملون للصالحات لهم المنازل الرفيعة عند الله {جَنَّاتُ عَدْنٍ} بيانٌ للدرجات العُلى أي جناتُ إِقامة ذات الدرجات العاليات، والغُرف الآمنات، والمساكن الطيبات {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} أي تجري من تحت غرفها وسُرُرها أنهار الجنة من الخمر والعسل، واللَّبن، والماء {خَالِدِينَ فِيهَا أبداً} أي ماكثين في الجنة دوماً لا يخرجون منها أبداً {وَذَلِكَ جزَاءُ مَنْ تَزَكَّى} أي وذلك ثواب من تطهَّر من دنس الكفر والمعاصي، وفي الحديث (الجنة مائة درجة، ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض، والفردوس أعلاها درجة فإِذا سألتم الله فاسألوه الفردوس).


المناسَبَة:

لا تزال الآيات الكريمة تتحدث عن قصة موسى وفرعون، وتشير الآيات هنا إِلى عناية الله تعالى بموسى وقومه، وإِنجائهم وإِهلاك عدوهم، وتذكّرهم بنعم الله العظمى ومننه الكبرى على بني إِسرائيل، وما وصّاهم به من المحافظة على شكرها وتحذيرهم من التعرض لغضب الله بكفرها، ثم تذكر الآيات انتكاس بني إِسرائيل بعبادتهم العجل، وقد طوى هنا ما فصَّل في ءايات أخر.



المسير ببني إسرائيل وإغراق فرعون وجنوده ونعم الله على بني إسرائيل



{وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لا تَخَافُ دَرَكًا وَلا تَخْشَى(77)فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ(78)وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى(79)يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنجَيْنَاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الأَيْمَنَ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمْ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى(80)كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى(81)وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى(82)}



{وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي} أي أوحينا إِلى موسى بعد أن تمادى فرعون في الطغيان أنْ سرْ ببني إِسرائيل ليلاً من أرض مصر {فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا} أي اضرب البحر بعصاك ليصبح لهم طريقاً يابساً يمرون عليه {لا تَخَافُ دَرَكًا وَلا تَخْشَى} أي لا تخاف لحاقاً من فرعون وجنوده، ولا تخشى الغرق في البحر {فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ} أي فلحقهم فرعون مع جنوده ليقتلهم فأصابهم من البحر ما أصابهم، وغشيهم من الأهوال ما لا يعلم كُنهه إِلا الله، والتعبير يفيد التهويل لما دهاهم عند الغَرق {وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى} أي أضلهم عن الرشد وما هداهم إِلى خيرٍ ولا نجاة، وفيه تهكم بفرعون في قوله {وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلا سَبِيلَ الرَّشَادِ} {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنجَيْنَاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الأَيْمَنَ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمْ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى} خطابٌ لبني إِسرائيل بعد خروجهم من البحر وإِغراق فرعون وجنوده، والمعنى اذكروا يا بني إِسرائيل نعمتي العظيمة عليكم حين نجيتكم من فرعون وقومه الذين كانوا يسومونكم سوء العذاب {وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الأَيْمَنَ} أي وعدنا موسى للمناجاة وإِنزال التوراة عليه جانب طور سيناء الأيمن، وإنما نسبت المواعدة إِليهم لكون منفعتها راجعة إِليهم إِذْ في نزول التوراة صلاحُ دينهم ودنياهم {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمْ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى} أي رزقناكم وأنتم في أرض التيه بالمنِّ وهو يشبه العسل، والسلوى وهو من أجود الطيور لحماً تفضلاً منا عليكم .. وفي هذا الترتيب غايةُ الحسن حيث بدأ بتذكيرهم بنعمة الإِنجاء، ثم بالنعمة الدينية، ثم بالنعمة الدنيوية {كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} أي وقلنا لكم كلوا من الحلال اللذيذ الذي أنعمتُ به عليكم {وَلا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي} أي لا تحملنكم السعة والعافية على العصيان لأمري فينزل بكم عذابي {وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى} أي ومن ينزل عليه غضبي وعقابي فقد هلك وشقي {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى} أي وإِني لعظيم المغفرة لمن تاب من الشرك وحسُن إِيمانه وعمله، ثم استقام على الهدى والإِيمان، وفي الآية ترغيب لمن وقع في وهدة العصيان ببيان المخرج كيلا ييأس.



مفاجأة موسى لربه وفتنة السامري



{ وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى(83)قَالَ هُمْ أُولاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى(84)قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمْ السَّامِرِيُّ(85)فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا أَفَطَالَ عَلَيْكُمْ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي(86)قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ(87)فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ(88)أَفَلا يَرَوْنَ أَلا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلا وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا(89)}



{وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى} أيْ أيُّ شيءٍ عجَّل بك عن قومك يا موسى؟ قال الزمخشري: كان موسى قد مضى مع النقباء الذين اختارهم من قومه إِلى الطور على الموعد المضروب ثم تقدمهم شوقاً إِلى كلام ربه {قَالَ هُمْ أُولاءِ عَلَى أَثَرِي} أي قومي قريبون مني لم أتقدمهم إِلا بشيء يسير وهم يأتون بعدي {وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى} أي وعجلتُ إِلى الموضع الذي أمرتني بالمجيء إِليه لتزداد رضىً عني .. اعتذر موسى أولا،ً ثم بيَّن السبب في إِسراعه قبل قومه وهو الشوق إِلى مناجاة الله ابتغاءً لرضى الله {قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ} أي ابتليناهم بعبادة العجل من بعد ذهابك من بينهم {وَأَضَلَّهُمْ السَّامِرِيُّ} أي وأوقعهم السامريُّ في الضلالة بسبب تزيينه لهم عبادة العجل، وكان السامري ساحراً منافقاً من قومٍ يعبدون البقر، قال المفسرون: كان موسى حين جاء لمناجاة ربه قد استخلف على بني إِسرائيل أخاه هارون، وأمره أن يتعهدهم بالإِقامة على طاعة الله، وفي أثناء غيبة موسى جمع السامريُّ الحليَّ ثم صنع منها عجلاً ودعاهم إِلى عبادته فعكفوا عليه وكانت تلك الفتنة وقعت لهم بعد خروج موسى من عندهم بعشرين يوماً {فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا} أي رجع موسى من الطور بعدما استوفى الأربعين وأخذ التوراة غضبان شديد الحزن على ما صنع قومه من عبادة العجل {قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا} أي ألم يعدْكم بإِنزال التوراة فيها الهدى والنور؟ والاستفهام للتوبيخ {أَفَطَالَ عَلَيْكُمْ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي} أي هل طال عليكم الزمن حتى نسيتم العهد أم أردتم بصنيعكم هذا أن ينزل عليكم سخط الله وغضبه فأخلفتم وعدي؟ قال أبو حيان: وكانوا وعدوه بأن يتمسكوا بدين الله وسنّة موسى عليه السلام، ولا يخالفوا أمر الله أبداً، فأخلفوا موعده بعبادتهم العجل {قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا} أي ما أخلفنا العهد بطاقتنا وإِرادتنا واختيارنا بل كنا مكرهين {وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا} أي حملنا أثقالاً وأحمالاً من حُليِّ آل فرعون فطرحناها في النار بأمر السامري، قال مجاهد: أوزاراً: أثقالاً وهي الحلي التي استعاروها من آل فرعون {فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ} أي كذلك فعل السامري ألقى ما كان معه من حلي القوم في النار، قال المفسرون: كان بنو إِسرائيل قد استعاروا من القبط الحُليّ قبل خروجهم من مصر، فلما أبطأ موسى في العودة إِليهم قال لهم السامري: إِنما احتُبس عليكم لأجل ما عندكم من الحلي فجمعوه ودفعوه إِلى السامري، فرمى به في النار وصاغ لهم منه عجلاً، ثم ألقى عليه قبضةً من أثر فرس جبريل عليه السلام فجعل يخور فذلك، قوله تعالى {فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ} أي صاغ لهم السامري من تلك الحليّ المذابة عجلاً جسداً بلا روح له خوارٌ وهو صوت البقر {فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ} أي هذا العجل إِلهكم وإِله موسى فنسي موسى إِلهه هنا وذهب يطلبه في الطور، قال قتادة: نسي موسى ربه عندكم، فعكفوا عليه يعبدونه، رداً عليهم وبياناً لسخافة عقولهم في عبادة العجل {أَفَلا يَرَوْنَ أَلا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلا وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا} أي أفلا يعلمون أن العجل الذي زعموا أنه إِلههم لا يردُّ لهم جواباً، ولا يقدر أن يدفع عنهم ضراً أو يجلب لهم نفعاً فكيف يكون إِلهاً؟ والاستفهام للتوبيخ والتقريع.

*
*
*