الشبهة الخامسة:قال محمد صدقي:" وقال جميع المحدثين: إن الموضوع منها كثير، وتمييزه عسير، وفي بعض الأحوال مستحيل، راجع ما ذكرناه في الكلمة الرابعة".
الجواب:هذه أشهر شبهة لديهم،بل هي تعتبر عماد باطلهم وركنه وعموده وذروة سنامه،وهي تركهم للسنة المطهرة بحجة دخول الوضع والكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم،ونرد عليهم من عدة وجوه.
أولاً:يقول القرآن الذي تدعون أنه الدين لوحده: "إن علينا جمعه وقرآنه * فإذا قرأناه فاتبع قرآنه * ثم إن علينا بيانه" تكفل في هذه الآية رب العزة جل شأنه بتبيان القرآن،ثم يقول مخاطباً رسول الله صلى الله عليه وسلم" وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون"نقول لهؤلاء،هل من المعقول، يا أصحاب العقول،أن يقول الله يتكفل الله بتبيان القرآن ،ثم يقول بأن التبيان على رسول الله صلى الله عليه وسلم،ثم يحيلنا رب العزة جل شأنه إلى ما هو ضحل أو مكدر وقد تكفل لنا بحفظه وتبيانه على لسان وأفعال رسول الله صلى الله عليه وسلم؟!نحن لا نجد لكم سلفاً وأخواناً في نسبة هذه الأخطاء العظيمة إلى الله تعالى سوى الروافض الذين قالوا بالبداء على الله تعالى،وهو أن الله يقدر الأمر ثم يبدو له بأنه خطأ فيرجع عنه ويغيره،وسبق الروافض في هذا وغيره اليهود والنصارى،الذين قالوا بأن الله له ولد وصاحبة،وأنه جسم يمشي ويضحك ويحزن ويبكي ويذرف الدمعة فتسقط إلى الأرض وتهتز لها البحار ويقول"لماذا خلقت بن آدم"،وينزل إلى الأرض ويصارع يعقوب عليه الصلاة والسلام فيغلبه يعقوب ويمسكه ولا يستطيع أن يفلت من بين يديه،وإن ادعيتم محبة الله وحرصكم على تطبيق شريعته في الأرض"على الوجه الصحيح"،ولا فرق عندنا بينكم وبين الذين قالوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه جاء بالسحر ،وأنه كذاب،وأنه مجنون،وأنه كاهن،وأن الوحي الذي يأتيه هو شيطان حاشا لجبريل عليه الصلاة والسلام،وإن ادعيتم أنتم ومن وراءكم وأمامكم محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم وآل بيته الأطهار رضي الله عنهم وأرضاهم.
ثانياً:هذه المقولة المفتراة على المحدثين قديماً وحديثاً تعد أكبر وأعظم دليل على أنهم أجهل الناس على وجه الأرض بعلوم الحديث،فلو أراد الله عز وجل أن يحفظ السنة في كتاب واحد كما حفظ القرآن لفعل ذلك بكل يسر وسهولة،ولو أردنا الكلام عن حكمة الله في هذا الأمر فلن تكفينا ولا مئات الصفحات،ونذكر فقط أنه أراد الحركة والحيوية للأمة بالنهوض بهذه المهمة العظيمة وتحصيل الأجر والثواب منها إلى يوم الدين ،يقول عبد الله بن المبارك رحمه الله وقد سُئل عن دخول الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم:"تعيش لها الجهابذة"لقد حفظ الله السنة بأن قيض لها رجالاً على مر الأزمنة والعصور يغربلونها غربلة،ويميزون صحيحها من سقيمها بموازين بلغت غاية القوة والصدق والأمانة العلمية من الدقة بكل ما آتاهم الله من ملكة وإبداع وقوة وتحمل لمشاق طلب الحديث، ولقد شهد لهم بذلك الكثير من الكتاب والمفكرين النصارى واليهود الغرب واستفادوا منهم أيضاً،بل وكتب التاريخ مليئة بأسفارهم ورحلاتهم من أجل حتى كلمة واحدة،نذكر لكم قصة بَقِيّ بن مخلد رحمه الله فقط،وعلى سبيل المثال ،لقد جاء هذا الأسد من الأندلس إلى العراق ليأخذ الحديث عن أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى،لكن الإمام أحمد كان وقتها يواجه محنة خلق القرآن التي أثارها المعتزلة،وكان الخليفة وقتها قد منعه من الذهاب إلى المسجد والتعليم والحديث للناس فالتزم رحمه الله أمر الحاكم لأنه صاحب سنة ولم يكن في سفاهة الخوارج ولم يرد إثارة فتنة رغم أن تلامذته كانوا 60 ألف تلميذ،وكان بإمكانه أن يجهزهم جيشاً يقتلع بني العباس غفر الله لهم ويستأصل شأفتهم في أيام معدودة رغم أنهم تنقصوا من كتاب الله بغير علم وقصد،ورغم أنهم جلدوه على أمام تلامذته وهم يبكون على معلمهم،وسجنوه،ورغم أنه بلغ وقتها الستين من العمر،فلما جاء ابن مخلد رحمه الله إلى الإمام أحمد،وهو يعلم أنه لا يحدث بأمر الخليفة، وقرع عليه الباب وبين له أنه جاءه طالباً للحديث من أقصى المغرب،طلب منه الإمام أحمد رحمه الله أن يأتيه كل يوم على هيئة متسول،ويقدم له الإمام أحمد رحمه الله أوراقاً تتضمن الحديث على أنه طعام وخبز ونحوه،وظل ابن مخلد رحمه الله لسنوات استمرت مع محنة خلق القرآن يأخذ الحديث بهذه الطريقة ،ولقد وضع أهل العلم الدواوين الكثيرة التي تؤرخ لكل من يروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أو أصحابه رضوان الله عليهم أو حتى التابعين رحمهم الله جميعاً،من تاريخ ميلاده،إلى تاريخ وفاته،وأدق المعلومات عنه ،وعن عبادته وأصحابه،وأقاربه،وأسفاره،وذنوبه التي ارتكبها كبيرة كانت أو صغيرة،وبدعته فيما إذا كان صاحب بدعة،وقسموا بدعته إلى أقسام ودرجات وفيما إذا كانت تدفعه للكذب بما يتوافق مع هواه أو كان صادقاً في رواياته رغم بدعته،لدرجة أن أهل البلد كانوا يقولون لهم:"أتريدون أن تزوجوه؟!"ومن يقرأ كتاباً واحداً في الجرح والتعديل أو التراجم والعلل أومعرفة الرجال سيعلم يقيناً أنني لا أبالغ أبداً،ثم يأتي هؤلاء الحثالة المتعالمون المتثاقفون الأغبياء الحمقى ليقولوا:"إن السنة النبوية لم تحفظ ولم يتم تمييز صحيحها من سقيمها"،ونقول لهؤلاء،كيف تصدقون ما دونه العرب في الجاهلية وحفظه من الأشعار والمعلقات والأيام والغزوات والأخبار والغزل والهزل،وتصدقون أن قائد الحملة الفرنسية على مصر هو نابليون بونابرت،وتسلمون بتفاصيل ما جاءكم عن أخبار الحرب العالمية الأولى والثانية وغيرها،وتعجز عقولكم يا أهل العقول عن التصديق بأن الصحابة رضوان الله عليهم ومن جاء بعدهم حفظوا السنة في صدورهم وسطورهم؟!مع العلم بأن لدينا العديد من الأدلة المتواترة القطعية الثبوت على حفظ الله للوحيين من القرآن والسنة،وفي المقابل فنحن نتحداكم أن تأتونا بدليل واحد فقط، متواتر أو غير متواتر،على أن الله تكفل بحفظ أي شيء آخر لا على التعيين،ولا حتى التوراة والإنجيل ،أم أن حسد أسيادكم اليهود والنصارى على صفاء شريعتنا وحفظ الله لها تسرب إليكم وصرتم تنعقون وتنبحون ابتغاء مرضاتهم؟! أين تذهب بكم عقولكم يا أصحاب العقول؟!ولصالح من كل هذا التنطع والتكلف والغلو والتشدد في أمر بديهي من مسلمات العقل والفطرة ؟!
الشبهة السادسة:قال محمد صدقي:" وقال أبو حنيفة وأضرابه من أهل الرأي والقياس: إن الصحيح منها قليل جداً، حتى إنه لم يأخذ إلا ببضعة عشر حديثاً".
الجواب:هذا بهتان وافتيات آخر على إمام عظيم من أئمة الأمة وعلى تلامذته الأسود،ونرد عليه من عدة وجوه.
أولاً:نقول لهؤلاء،يا من لا تقبلون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا ما هو متواتر،أين الأسانيد المتواترة أو غير المتواترة عن أبي حنيفة و"أضرابه"رحمهم الله جميعاً،بل أين مصادرها التي تدعون بأنها صرحت بذلك؟!
ثانياً:صحت عن أبي حنيفة رحمه الله مقولة: "إذا صح الحديث فهو مذهبي" ابن عابدين في " الحاشية " 1 / 63وغيرها كثير من الأقوال التي تدل على حرص الرجل وحرص تلامذته الفحول وعلى رأسهم القاضي أبو يوسف يعقوب ومحمد بن الحسن الشيباني على احترام الأدلة ونبذ التقليد،بل إن محمد بن الحسن وأبا يوسف رحمهما الله خالفا أبا حنيفة رحمه الله في نحو ثلثي مذهبه وأقواله فأين تذهبون.
ثالثاً:يا من تدعون بأن أبا حنيفة و"أضرابه"رحمهم الله قالوا بأن الصحيح الذي يؤخذ به من الآحاد قليل جداً،هذا اعتراف صريح منكم ببطلان قاعدتكم بأن الآحاد لا يحتج به على الإطلاق لأنكم استثنيتم جزءاً منها،وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على غبائكم وتخبطكم وسفاهة عقولكم وضياعكم وتناقضكم ،ولا نجد لكم مثلاً إلا قوله تعالى:" مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا".
رابعاً:يا من تدعون بأن أبا حنيفة و"أضرابه"رحمهم الله قالوا بأن الصحيح من الآحاد قليل جداً،هل قرأتم واستقرأتم كتب الفقه وأصوله للأحناف رحمهم الله حتى خرجتم بهذا الاكتشاف العبقري الذي لم يسبقكم إليه أحد؟!ثم هل قرأتم مصنفات أسانيد الحديث للأحناف وعنايتهم بها؟!ولا بأس من أن نذكر شيئاً من جهود الأحناف لحفظ السنة المطهرة،فلمحمد بن الحسن رحمه الله مصنف كامل يضم موطأ مالك بروايته،إذ أن موطأ الإمام مالك رحمه الله له روايتان،إحداهما لمحمد بن الحسن رحمه الله،والأخرى للإمام يحيى الليثي رحمه الله،والموطأ من كتب الحديث المعتبرة كما هو بديهي عندنا،كما ألف الإمام الطحاوي الحنفي رحمه الله كتابان في علوم الحديث هما:شرح معاني الآثار" في أربعة أجزاء، و"مشكل الآثار" في ستة عشر مجلداً .
الشبهة التاسعة:قال محمد صدقي:" قال مالك: إن عمل أهل المدينة مقدم عليها(يعني الآحاد)، وكذلك أهل الرأي والقياس يقدمون القياس الجلي عليها".
الجواب:هذا بهتان وافتراء وتدليس آخر يدل على شدة جهل هؤلاء بعلم الحديث والجرح والتعديل وهو مردود من عدة وجوه.
أولاً:الإمام مالك رحمه الله هو من قال: " إنما أنا بشر أخطئ وأصيب فانظروا في رأيي فكل ما وافق الكتاب والسنة فخذوه وكل ما لم يوافق الكتاب والسنة فاتركوه" جامع بيان العلم (2/39)، ابن حزم في إحكام الأحكام ( 6/860 ).فهو لم يستثنِ نفسه من العصمة حتى يستثني أهل المدينة أو غيرهم بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثانياً:الإمام مالك رحمه الله تعالى هو من قال:"إنني لأعرف في المدينة أناساً يُستسقى بهم الغيث(بدعائهم طبعاً وبحسن ظنه فيهم)،ويُستنصر بهم على الأعداء،ولا يُؤخذ منهم حرف واحد"فكما هو معروف بأنه كما أن العدالة بما تضمنته من الصدق والتقوى شرط للرواية،فكذلك يُشترط الضبط وقوة الحفظ وعدم الخلط أيضاً،وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على قوة مالك رحمه الله ومنهجيته وحرصه على السنة وتحريها،وأما عن تقديمه لأعمال أهل المدينة رحمهم الله على السنة،فهو لم يقدم عمل أي شخص في المدينة لا على التعيين،بل قدم عمل الثقات على آثار قابلة لأن تكون مرجوحة وبالتالي هي أقل منها في المرتبة،والترجيح بين الآثار أمر بديهي عند أجهل جهال أهل الحديث فضلاً عن العوام،لكن الذي يسمعكم وأنتم تقولون:" إن عمل أهل المدينة مقدم عليها"يظن بأنه يقدم عمل أي شخص في المدينة لا على التعيين ولا التوثيق على أي خبر كان من أخبار الآحاد،ثم يا من تدعون بأنكم لا تقبلون إلا ما تواتر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم،أين الأسانيد المتواترة أو الآحاد عن أهل القياس الذين تدعون بأنهم قدموا عمل أهل المدينة على الآحاد ،بل أين مصادرها؟!ليس هنالك أمر أسهل من رمي الكلام المرسل والبهتان والشبهات،ولكن الحكمة تقول:"ثبت العرش،ثم انقش"ولسنا نرى لكم عرشاً ولا نراكم حتى تجيدون النقش يا من استهنتم بوعيد رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصحيحين وغيرهما:" من تعمد علي كذباً فليتبوأ مقعده من النار"واستمروا في هذا البهتان واتباع الهوى والظن وخطوات الشيطان والمشي على شفا حفرة إن كنتم تملكون نفساً واحداً من أنفاسكم،وسنستمر بعون الله ونبقى على التمسك بكتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم إلى أن نلقى الله ونحن على هذا....يتبع
المفضلات