ثم حتى ولو سلمنا بصحة الرواية السابقة،فلقد بتر الأستاذ أبو رية سياق القصة بتراً شنيعاً،وسياقها هو أنه جاءت إلى أبي بكر امرأة عجوز تلتمس أن تورث ميراثاً معيناً، فقال: ما أجد لك في كتاب الله شيئاً، وما علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر لك شيئاً. ثم سأل الناس فقام المغيرة، فقال: حضرت رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطيها السدس، فقال له هل معك أحد، فشهد محمد بن مسلمة بمثل ذلك، فأنفذه لها ووفاها حقها كاملاً،ولاحظوا مقدار حرص صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم على المال العام،فضلاً عن حرصه على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم من التحريف وإدخال ما ليس منها فيها،نقول لهؤلاء،لقد احترنا معكم،فتارة تقولون بأن الصديق ومن معه من الصحابة حرفوا في السنة المطهرة وزادوا فيها وأنقصوا منها وبدلوا الكلم عن مواضعه ومقاصده،وتارة تقولون بأنه بالغ في حرصه وتشدد وغلا فيه حتى حرم الزهراء رضي الله عنها ميراث فدك وغير هذا من الترهات،هل هذا الحرص الذي تدعون بأنه غلو وتشدد أمر يعاب عليه الصديق رضي الله عنه وأرضاه يا أحفاد المرتدين؟!
الشبهة الثالثة عشرة:قال محمد صدقي : " كان أفاضلهم أقلهم حديثاً ويصدفون عنه، ولو كان واجباً لما كان هذا حالهم ".
الجواب:إن جمع هذا الرجل بين فضيلة الصحابة رضوان الله عليهم وكثرة تحديثهم وقلته يدل على مبلغ جهله حتى بالقرآن الذي أفرده بالصحة على حد زعمه من عدة وجوه.
أولاً:لقد سمع الصحابة رضوان الله عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول-في حجة الوداع-:"ألا ليبلغ الشاهد منكم الغائب"كما ثبت في الصحيحين وغيرهما،وهذه المقولة وإن كان ظاهرها خاصاً بلا شك في وصيته في حجة الوداع،فهي تُحمل على العموم لأنه هو من قال:" بلغوا عني ولو آية"كما صح عنه أيضاً في الصحيحين وغيرهما،لكنه في المقابل قال:" ومن كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار"كما هو في سياق الرواية السابقة ومصادرها،ومن هنا نعلم أن قلة حديث بعضهم من باب الحرص في الدرجة الأولى.
ثانياً:يقول الله تبارك وتعالى:"فَلَوْلا نَفَـرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَـةٍ مِنْهُمْ طَائِفـَةٌ لِيَتَفَقَّهُـوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْـذِرُوا قَوْمَهـُمْ إِذَا رَجَعُـوا إِلَيْهِـمْ لَعَلَّهُـمْ يَحْذَرُونَ".
فحقيقة منهجنا أننا لا نريد على الإطلاق لهذه الأمة أن يكونوا جميعاً على المنابر خطباءاً أو وعاظاً أو علماء،بل كل في موقعه وكل على ثغره مع حرص كل واحد على تعلم ما يلزمه وتعليمه والدعوة إليه بقدر استطاعته والله لا يكلف نفساً إلا وسعها،ونقول لهؤلاء،يا أجهل الناس بحقيقة وجوهر وروح وأهداف الإسلام،كما أن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وأرضاه كان أعلم الناس بالقرآن وأين نزلت كل آية وفيم نزلت ،وكما أن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما كان ترجمان القرآن وحبر الأمة،وكما أن أبا هريرة رضي الله عنه وأرضاه كان أحفظ الناس لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم،وكما أن معاذ بن جبل رضي الله عنه وأرضاه كان فقيهاً علم الحلال والحرام ،كان خالد بن الوليد رضي الله عنه وأرضاه سيف الله المسلول على أعدائه من الروم والفرس الذين نذرتم أنفسكم لخدمة أحفادهم،وكان حسان بن ثابت رضي الله عنه وأرضاه الشاعر المفوه الذي ذاد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والإسلام بالشعر الذي كان مثله مثل أقوى وسائل الإعلام في عصرنا هذا....فأين تذهبون؟!.
الشبهة الرابعة عشرة: قال محمد صدقي:"من كان من الصحابة كثير الحديث ملوا منه ونهوه وزجروه كما فعل عمر بأبي هريرة، وشكوا فيه وقالوا إنه يضع الشيء في غير موضعه، ونسبوه للجنون كما في كتبهم".
الجواب:لقد تبعه في هذه الشبهة كل من محمود أبو رية وأحمد أمين والكثير من الروافض ومنكري السنة خذلهم الله جميعاً،ونود أن نقول،إن الحديث عن هذا الجيل الرباني القرآني الفريد من نوعه ،ألا وهو جيل الصحابة ومن تبعهم بإحسان رضوان الله عليهم ،يستلزم من صاحبه صفاءاً في العقيدة،ونقاء في العقل،وأمانة في النقل،وعماد أدلتهم على بهتانهم السابق هو رواية ذكرها أبو رية بأن أبا هريرة رضي الله عنه كثرت أحاديثه فقال:" وقد أفزعت كثرة رواية أبي هريرة عمر بن الخطاب فضربه بالدرة وقال له: "أكثرت يا أبا هريرة من الرواية وأَحْرِ بك أن تكون كاذباً"ولم يكتف بذلك بل زاد في موضع آخر فقال:"ومن أجل ذلك كثرت أحاديثه بعد وفاة عمر وذهاب الدرة إذ أصبح لا يخشى أحداً بعده "وإليكم أخوتي وأخواتي أقوال أهل العلم والاختصاص والإنصاف في هذه الرواية،لقد عزاها أبو رية إلى كتاب "شرح النهج"لابن أبي حديد حكايةً عن أبي معروف الإسكافي،وابن أبي حديد من دعاة الاعتزال والرفض وهو من أصحاب ابن العلقمي وما أدراك ما ابن العلقمي ،وأبو معروف الإسكافي أيضاً من دعاة الاعتزال والرفض!!!والمضحك في الأمر هو أن ابن أبي حديد نفسه ذكر في كتابه النهج(1/360 )طعوناً لأبي معروف الإسكافي في أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه،ثم يأتي ليلفق هذه الرواية عن الفاروق رضي الله عنه متباكياً على أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه كما تعودنا منهم ،يقتلون القتيل ثم يشيعون جنازته،مثلما قتلوا الحسين رضي الله عنه بعد ما وعدوه ورغبوه بالمجيء إلى الكوفة ،ثم غدروا به، ثم جاءونا مطالبين بثأره،ومن طرائفهم أنهم كانوا على سفح الجبل لما كان الحسين وآل البيت رضي الله عنهم يقاتلون جيش الكوفة الغدار،كانوا على سفح الجبل ينظرون إلى المعركة ويقولون:"اللهم أنزل نصرك"فصرخ فيهم رجل عجوز قائلاً:"ويحكم،ألا تنزلون فتنصرونه؟!"ونقول لأبو رية ولكل من على شاكلته،ليس مثل أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه من يُضرَب بدرة الفاروق رضي الله عنه وأرضاه،بل هي لسلفك الذين كانوا يجلسون في المسجد في غير وقت الصلاة ليطلبوا من الله أن يمطر عليهم الذهب والفضة، ثم لو سلمنا جدلاً بصحة هذا الإفك والافتراء والبهتان،فبما أن عمراً رضي الله عنه وأرضاه قد اشتشهد رحمه الله تعالى،وصار أبو هريرة رضي الله عنه وأرضاه يحدث براحة تامة وحرية مطلقة،فلقد تم حفظ السنة وليس عليها أي غبار فمم تشتكون وما هو وجعكم يا خدم المجوس؟!
الشبهة الخامسة عشرة:وهي حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الوارد في صحيح مسلم القائل:" أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بقوم يلقحون فقال لو لم تفعلوا لصلح قال فخرج شيصاً فمر بهم فقال ما لنخلكم ؟ قالوا قلت كذا وكذا قال: أنتم أعلم بأمر دنياكم"قالوا:"إن رسول الله صلى الله عليه وسلم تكفل بالأمور التعبدية فقط وأخرج أمور الدنيا بأسرها.
الجواب:أولاً:لا بد من توضيح بعض المعاني،الشيص هو الرديء من التمر،وكانوا يلقحونه بأيديهم،فاقترح عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتركوه دون تلقيح فلم تثمر ثمراً جيداً،فقال:"أنتم أعلم بأمر دنياكم"وهذه أسخف شبهة بين الشبهات المذكورة كما سنرى،ولولا أن العلمانيين تناقلوها بين منتدياتهم لما ذكرتها.
ثانياً:عصمة رسول الله صلى الله عليه وسلم مخصوصة بالتبليغ والوحي ولا غبار عليها،وأما بالنسبة للحديث السابق فإن هؤلاء لو فقهوا معناه وتدبروه لوجدوا أنه ضبط أمور الدنيا ضبطاً محكماً،فكما أنه أقر تلك الحادثة العينية وتركها،كذلك حرم الخمر،والميسر،والربا،وضبط السياسة الشرعية ،...وغيرها الكثير الكثير من الأمور الدنيوية،فهل يجرؤ هؤلاء على إنكار تحريم وضبط كل هذه الأمور وغيرها الكثير الكثير؟!والواقع أن هناك من ينكر تحريم الخمر فعلاً ،وهناك الكثير الكثير من الناس إلى يومنا هذا وبسبب هؤلاء الحمقى يتأولون الربا ويتلاعبون بأحكامه وضوابطه ويقسمونه إلى أقسام ومسميات ترغيبية مثل "الفائدة"،يعني أنهم يستدلون بعبارة:"أنتم أعلم بأمر دنياكم"على خروج الدين من الأمور الدنيوية،هذا كما لو أنهم سمعوا قارئاً يقرأ "فويل للمصلين"فأسرع وركض وصار ينادي هنا وهناك بأن الصلاة لا تجوز على الإطلاق،بل إن ابن تيمية رحمه الله استخرج قاعدة أصولية ذهبية تقول:"الأصل في العبادات التحريم والمنع إلا بدليل شرعي،والأصل في المعاملات الحل مالم تُحرم بدليل شرعي"ونحن في يومنا هذا ،نعلم بأن البسكويت وركوب الطائرات لم يكن موجوداً في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم،ولا المخدرات ولا التبغ ولا الحشيش،وبكل بساطة ويسر وسهولة،نسمع حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم القائل في الحديث الموجود في السنن بسند حسن:"لا ضرر ولا ضرار"فنعلم بأن البسكويت والآيس كريم والشوكولا حلال،ونعلم بأن المخدرات والهيروين والحشيش والتبغ حرام.
أدلة وجوب قبول خبر الآحاد بل وخبر الواحد في العقائد والأحكام:
الدليل الأول:وهو ما ذكره ابن القيم رحمه الله في كتابه الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة(2/362):" فممن نص على أن خبر الواحد يفيد العلم مالك والشافعي وأصحاب أبي حنيفة وداود بن علي وأصحابه كأبي محمد بن حزم ونص عليه الحسين بن علي الكرابيسي والحارث ابن أسد المحاسبي، قال ابن خواز منداد في كتاب "أصول الفقه"، وقد ذكر خبر الواحد الذي لم يروه إلا الواحد والاثنان : ويقع بهذا الضرب أيضاً العلم الضروري نص على ذلك مالك، وقال أحمد في حديث الرؤية نعلم أنها حق ونقطع على العلم بها"وقال في نفس المصدر:" أن المسلمين لما أخبرهم الواحد وهم بقباء في صلاة الصبح أن القبلة قد حولت إلى الكعبة قبلوا خبره وتركوا الحجة التي كانوا عليها واستداروا إلى القبلة، ولم ينكر عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم"
الدليل الثاني::" يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين"فالذي يأتي إلى المؤمنين بشكل عام هو رجل واحد،وقال لنا:"فتبينوا" صحة قول هذا الرجل،ولم يقل أطلبوا منه أن يأتي بشاهد آخر أو شهوداً يبلغ عددهم حد التواتر.
الدليل الثالث::" فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ"ونحن إلى يومنا هذا نأتي إلى العالم الواحد الذي نثق بسعة علمه وقوته،فنسأله ونستفتيه في الأمور الخطيرة ونأخذ بجوابه بكل راحة وسكينة وطمأنينة وثقة ولله الحمد....يتبع
المفضلات