البناء الفردي أساس البناء الاجتماعي، بناء الفرد أساس بناء الأسرة، بناء الأسرة أساس بناء المجتمع...
بعضهم يرى أن الكثافة السكانية في بلد ما تندرج مع الخسائر، وبعضهم يراها تندرج مع الأرباح، والحقيقة أنها ليست هكذا، وليست هكذا، الكثافة السكانية تعني الشخص، الإنسان الفرد إذا آمن بالله، وطبق منهجه، وزكى نفسه، وجند نفسه لخدمة أمته هو مع الأرباح، أما إن لم يكن مؤمناً، ولا ملتزماً ولا مطبقاً، ولا مزكياً نفسه مع الخسائر، الإنسان الجاهل عبء على الأمة، مجرم، محتال، يبتز أموال الناس بالباطل.
هؤلاء الذين أمضوا في مكة المكرمة 13 سنة وأكثر؛ بنى النبى عليه الصلاة والسلام فيها إيمانهم، أصبح الواحد كالألف بقوة الإيمان بالله ورسوله وقوة تحمل الشدائد والصبر على المكروه والزهد فى كل نعيم زائل والشوق لرضى الله، الآن يبدء النبى صلى الله عليه وسلم فى بناء المجتمع الإسلامى.
بناء مجتمع جديد...
قد أسلفنا أن نزول رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة في بني النجار كان يوم الجمعة [12 ربيع الأول سنة 1 هـ/ الموافق 27 سبتمبر سنة 622م]، وأنه نزل في أرض أمام دار أبي أيوب، وقال: [هاهنا المنزل إن شاء الله]، ثم انتقل إلى بيت أبي أيوب رضي الله عنه.
من مواقف النبى فى بيت أبى أيوب الأنصارى، وقد كان مقامه فيها سبعة أشهر:
عن زيد بن ثابت: إنتقل صلى الله عليه وسلم إلى بيت أبي أيوب لم يدخل منزل رسول الله صلى الله عليه وسلم هدية إلا وأرسل معظمها إلى أبي أيوب وما جاءه طعام إلا أطعم منه أصحابه الكرام، وإذا كان قليلا أكل، وأرسل الباقي إلى أبي أيوب، هكذا القيادة. – ما عاب طعاما قط:
من آدابه صلى الله عليه وسلم في الطعام: قيل لأم أيوب: أي الطعام كان أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنكم عرفتم ذلك لمقامه فيكم ؟ ماذا كان يأكل ؟ وماذا كان يحب ؟ قالت: ما رأيته أمر بطعام ليصنع له بعينه، ولا رأيناه أوتي بطعام فعابه.
أى ن:
وعن جابر بن سمرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا أكل طعاما بعث فضله إلى أبي أيوب، فأوتي يوما بقصعة فيها ثوم، فبعث بها كلها إلى أبي أيوب فقال: يا رسول الله أحرام هو؟ قال: لا، ولكني أكره ريحه، قال: وإني أكره ما تكره يا رسول الله، يعني مراعاة لأصحابه ما أكل طعاما في ثوم، من أجل رائحته.
عن النبي صلى الله عليه وسلم قال من أكل من هذه البقلة الثوم وقال مرة من أكل البصل والثوم والكراث فلا يقربن مسجدنا فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم.
ما هذه اللباقة؟ ما هذا الحس الراقي؟
وعن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أكل وشرب، قال: الحمد لله الذي أطعمنا، وسقانا، وسوغه، وجعل له مخرجا.
وكان عليه الصلاة والسلام لا يأكل منفردا، وكان يحضر عشاءه من خمسة إلى ستة عشرة رجلا، ولم يكن يأكل وحده.
هكذا أخلاق القائد والمعلم
بناء المسجد النبوي...
بناء المسجد..
وأول خطوة خطاها رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك هو بناء المسجد النبوي، واختار له المكان الذي بركت فيه ناقته صلى الله عليه وسلم، فاشتراه من غلامين يتيمين كانا يملكانه، وأسهم في بنائه بنفسه، فكان ينقل اللبن والحجارة ويقول:
"اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة ** فاغفر للأنصار والمهاجرة"
وكان يقول:
"هذا الحمال لا حمال خيبر ** هذا أبر ربنا وأطهر"
وكان ذلك مما يزيد نشاط الصحابة في العمل، حتى إن أحدهم ليقول:
"لئن قعدنا والنبي يعمل ** لذاك منا العمل المضلل"
وكانت في ذلك المكان قبور للمشركين، وكان فيه خرب ونخل وشجرة من غرقد، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقبور المشركين فنبشت، وبالخرب فسويت، وبالنخل والشجرة فقطعت، وصفت في قبلة المسجد، وكانت القبلة إلى بيت المقدس، وجعلت عضادتاه من حجارة، وأقيمت حيطانه من اللبن والطين، وجعل سقفه من جريد النخل، وعمده الجذوع، وفرشت أرضه بالرمال والحصباء، وجعلت له ثلاثة أبواب، وطوله مما يلى القبلة إلى مؤخره مائة ذراع، والجانبان مثل ذلك أو دونه، وكان أساسه قريبا من ثلاثة أذرع.
وبني بجانبه بيوتا بالحجر واللبن، وسقفها بالجريد والجذوع، وهي حجرات أزواجه صلى الله عليه وسلم، وبعد تكامل الحجرات انتقل إليها من بيت أبي أيوب.
ولم يكن المسجد موضعا لأداء الصلوات فحسب، بل كان جامعة يتلقى فيها المسلمون تعاليم الإسلام وتوجيهاته، ومنتدى تلتقى وتتآلف فيه العناصر القبلية المختلفة التي طالما نافرت بينها النزعات الجاهلية وحروبها، وقاعدة لإدارة جميع الشئون وبث الانطلاقات، وبرلمان لعقد المجالس الاستشارية والتنفيذية.
وكان مع هذا كله دارا يسكن فيها عدد كبير من فقراء المهاجرين اللاجئين الذين لم يكن لهم هناك دار ولا مال ولا أهل ولا بنون.
دور المسجد في حياة الأمة..
وأهم دورٍ للمسجد هو الحفاظ على إيمان المسلمين، وهذا هو الأساس الرئيسي الذي اجتهد النبي أن يغرسه في نفوس أصحابه في مكّة، وفي نفوس الأنصار في بيعتي العقبة، إنه الإيمان بالله. والمسجد كما يظهر من اسمه أي مكان السجود لرب العالمين، والرضوخ الكامل له والطاعة المطلقة لكل أوامره، فإذا لم تكن تربيتي داخل المسجد فقد ضاع مني دور كبير جدًّا من أدوار المسجد، ومن الصعب جدًّا أن يجلس المسلمون في بيت الله لكى يأخذوا قرارًا أو يعتمدوا رأيًا، ثُمَّ هم يخالفون ما أراده الله تعالى منهم. هذا المكان (المسجد) يحفظ على المسلمين دينهم؛ لأجل هذا كانت حياة المسلمين تدور في مجملها حول محور المسجد، الصلاة في المسجد، ولا تقبل الأعذار في التخلف عن هذه الصلاة إلا في ظروف ضيقة ومحدودة جدًّا. المسجد يقوي وينمي الروابط والأواصر بين المسلمين، ويذيب الفوارق بينهم، فالحاكم يصلي بجوار المحكوم، والوزير بجوار الغفير. المسجد يتعاون فيه المسلمون على البرّ والتقوى دون النظر إلى الفوارق الطبقية التي بينهم.
المسجد يُعدّ مدرسة لتعليم المسلمين كل أمور حياتهم..
المسجد مكان لقيادة الأمة..
فزعماء الأمة الإسلاميّة كانوا دائمًا في زمان ازدهار الأمة الإسلاميّة، سواء أيام الرسول عليه الصلاة والسلام أو في أيام الخلفاء الراشدين، أو في أي عصر من عصور النهضة والحضارة الإسلاميّة كانوا دائمًا يرتبطون بالمسجد ارتباطًا قويًّا، إنها مأساة حقيقية ألا يدخل زعماءُ الأمة المساجد إلا في المناسبات..
صلاح الدين الأيوبي كان يصلي في المسجد..
نور الدين محمود كان يصلي في المسجد..
عبد الرحمن الداخل كان يصلي في المسجد..
عبد الرحمن الناصر كان يصلي في المسجد..
يوسف بن تاشفين كان يصلي في المسجد..
قلج أرسلان كان يصلي في المسجد..
أيُّ بطل من أبطال الإسلام والمسلمين، وأيّ قائد رفع رأس الأمة فترة من الزمن كان مرتبطًا بالمسجد.
إن سياسة الأمة الإسلاميّة كلها من عهد الرسول وبعد ذلك كانت تُدار من داخل المسجد، فتسير الجيوش من داخل المسجد، وقرارات الحرب من المسجد، والمعاهدات من داخل المسجد، واستقبال الوفود في داخل المسجد، والقضاء في المسجد، مقرّ الحكم في الإسلام وبيت الحكم هو بيت الله.
ولم يكن المسجد مقرًّا للحكم والسياسة والقضاء فحسب، بل كان المسجد أيضًا مكانًا لإعلان أفراح المسلمين..
ومكانًا لتربية الأطفال، ومكان للترفيه أيضًا بأدب..
كان المسجد مأوى للفقراء وعابري السبيل، وكان مكانًا لمداواة المرضى..
وقد كان ينهى عليه الصلاة والسلام عن المبالغة في تزيين المساجد، كان يقول: "لاَ تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَتَبَاهَى النَّاسُ بِالْمَسَاجِدِ". وهذا الحديث في مسند أحمد بن حنبل رحمه الله، وفي سنن أبي داود والنسائي وابن ماجه وصححه ابن حبان عن أنسٍ؛ ولفظ ابن خزيمة: "يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ يَتَبَاهَوْنَ فِيهِ بِالْمَسَاجِدِ ثُمَّ لاَ يَعْمُرُونَهَا إِلاَّ قَلِيلاً". فربما تجد إنسانًا يقوم ببناء مسجد كبير، ثم لا تجد المصلين إلا صفًّا أو صفين. وقال: "مَا أُمِرْتُ بِتَشْيِيدِ الْمَسَاجِدِ"؛ ومعنى التشييد الرفع فوق الحاجة. وقال ابن عباس: "لَتُزَخْرِفُنَّهَا كَمَا زَخْرَفَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى" أي نهتمّ بالشكليات من رخامٍ ومرمرٍ وحليٍّ ونجفٍ وما إلى ذلك، ولا نهتم بالتربية في داخل المسجد.
بعض الدروس من بناء المسجد:
أولاً: البساطة في البناء، وكان الاهتمام الكامل بالجوهر لا بالشكل، وكان المسجد مبنيًّا بالطوب اللبن والجريد، ومع هذا أخرج هذا المسجد عمالقة حكموا العالم كله بعد ذلك.
ثانيًا: رسول الله.. الزعيم والقائد لهذه الأمة، والذي يتمنى الجميع أن يفديه بالنفس والمال، ويحميه بروحه ويتمنى ألا يصيبه أي تعب أو نصب، نزل بنفسه مع شعبه يبني المسجد، يحمل معهم التراب وينقل معهم الحجارة، ويقيم الأعمدة ويخطط للبناء، كل هذا مع شعبه، وهذا الأمر من أبلغ الوسائل لتربية الشعوب، وهذه هي المشاركة الحقيقية، والمعاناة الكاملة مع الشعب، وهذه النقطة مستمرة معنا في كل السيرة النبويّة.
المفضلات