المؤاخاة بين المسلمين..
ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم بجانب قيامه ببناء المسجد: مركز التجمع والتآلف، قام بعمل آخر من أروع ما يأثره التاريخ، وهو عمل المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، قال ابن القيم: ثم أخي رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار في دار أنس بن مالك، وكانوا تسعين رجلا، نصفهم من المهاجرين، ونصفهم من الأنصار، أخي بينهم على المواساة، ويتوارثون بعد الموت دون ذوى الأرحام إلى حين وقعة بدر، فلما أنزل الله عز وجل: {وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض} [الأنفال: 75] رد التوارث إلى الرحم دون عقد الأخوة.
وقد قيل: إنه أخي بين المهاجرين بعضهم مع بعض مؤاخاة ثانية... والثابت الأول، والمهاجرون كانوا مستغنين بأخوة الإسلام وأخوة الدار وقرابة النسب عن عقد مؤاخاة فيما بينهم، بخلاف المهاجرين مع الأنصار.
ومعنى هذا الإخاء أن تذوب عصبيات الجاهلية، وتسقط فوارق النسب واللون والوطن، فلا يكون أساس الولاء والبراء إلا الإسلام. وقد امتزجت عواطف الإيثار والمواساة والمؤانسة وإسداء الخير في هذه الأخوة، وملأت المجتمع الجديد بأروع الأمثال.
روى البخاري: أنهم لما قدموا المدينة أخي رسول الله صلى الله عليه وسلم بين عبد الرحمن وسعد ابن الربيع، فقال لعبد الرحمن: إني أكثر الأنصار مالا، فاقسم مالى نصفين، ولى امرأتان، فانظر أعجبهما إليك فسمها لي، أطلقها، فإذا انقضت عدتها فتزوجها، قال: بارك الله لك في أهلك ومالك، وأين سوقكم؟ فدلوه على سوق بني قينقاع، فما انقلب إلا ومعه فضل من أقط وسمن، ثم تابع الغدو، ثم جاء يوما وبه أثر صفرة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: [مهيم؟] قال: تزوجت. قال: [كم سقت إليها؟] قال: نواة من ذهب.
وروى عن أبي هريرة قال: قالت الأنصار للنبى صلى الله عليه وسلم: اقسم بيننا وبين إخواننا النخيل. قال: [لا]، فقالوا: فتكفونا المؤنة ونشرككم في الثمرة. قالوا: سمعنا وأطعنا.
وهذا يدلنا على ما كان عليه الأنصار من الحفاوة البالغة بإخوانهم المهاجرين، ومن التضحية والإيثار والود والصفاء، وما كان عليه المهاجرون من تقدير هذا الكرم حق قدره، فلم يستغلوه ولم ينالوا منه إلا بقدر ما يقيم أودهم.
حقا فقد كانت هذه المؤاخاة حكمة فذة، وسياسة حكيمة، وحلا رشيدا لكثير من المشاكل التي كان يواجهها المسلمون، والتي أشرنا إليها..
مواقف من المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار
أولاً: التقريب بين المهاجرين والأنصار:
أنزل الله i قرآنًا يتلى لحل هذه الأمور، لكي يتوحد المسلمون في كيان قوي، ولكي يرفع الله من معنويات المهاجرين، الذين شعروا بشيء من الذلة والضعف، نتيجة لتركهم أهلهم وأموالهم وذويهم، من أجل اعتناقهم هذا الدين الجديد، فيجب أن يعرف أنه مكرَّم ومعظَّم عند الله بسبب اعتناقه للإسلام، ولهذا أنزل الله على رسوله آيات رفعت من قدر المهاجرين، فالمهاجر أصبح يفتخر أنه مهاجر، والأنصاريّ أصبح يفتخر بأنه آوى مهاجرًا، انظر إلى كلام رب العالمين في كتابه الكريم: {فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللهِ وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ} [آل عمران: 195].
ويقول ربنا: {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [الحج: 58].ويقول: {الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} [التوبة: 20]، إلى آخر الآيات.هذه الآيات وغيرها رفعت جدًّا من معنويات المهاجرين، وأصبح أمر الهجرة مدعاة للفخر، ليس هذا فحسب، بل وتهيئة للأنصار أيضًا، بل إن الله تعالى في سورة الحشر: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحشر: 8].
هؤلاء هم المهاجرون..
ثم يقول عز من قائل: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر: 9].
إذن تسابق المهاجرون للهجرة، وتسابق الأنصار للنصرة أجمعين.هذا الأمر ليس موجودًا إلا في المنهج الإسلامي، فإذا نظرنا لحال اللاجئين في بقاع العالم المختلفة سنعجب كل العجب، فأيّ مجموعة من اللاجئين لأي ظرف من الظروف سواء كانت عسكريّة أو سياسيّة أو اقتصاديّة، عندما ينتقلون إلى بلد آخر يمثلون عبئًا ثقيلًاً على أهل هذه البلد، يشعر اللاجئون بذلة وضعف وهوان؛ لكونهم تركوا ديارهم وأرضهم وعشيرتهم وما يمتلكون، والدولة المضيفة تشعر بعبءٍ اقتصاديّ وعبء سياسيّ كبير جدًّا، والضغوط عليها من هنا وهناك، هذا الأمر لأنهم ليسوا مرتبطين برب العالمين، والأمر في النهاية يعود إلى الإيمان، الأصل الذي تحدثنا عنه كثيرًا، والذي يُعدّ من أهم أصول بناء الأمة الإسلاميّة، بل هو أهمها على الإطلاق.
انظر إلى كلام رب العالمين في سورة الأنفال: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ} أي المهاجرين، ثم يقول: {وَالَّذِينَ آَوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [الأنفال: 74].
ولهذا فإنه يستحيل بناء أي دولة إسلاميّة أو تشريع إسلامي بدون هذه الأصول، والقواعد التي تقوم عليها أمة الإسلام، وهي الإيمان بالله، والإيمان بالرسول، والإيمان بالبعث، وغير ذلك من القواعد التي تحدثنا عنها سابقًا.
وهكذا، كان أول ما قام به رسول الله بوحي من الله تعالى أنه هيَّأ الأنصار والمهاجرين لقبول فكرة ترك الديار في مكة، والانتقال إلى المدينة المنوّرة، وهو أمر صعب، لكن بفضل الله كانت قوة إيمان المهاجرين والأنصار كفيلة أن تطبق هذا المعنى، كما أراد الله رب العالمين.
ثانيًا: الكفالة السريعة للمهاجرين
يجب أن يُهيِّئ رسول الله لهذه الأعداد الضخمة التي دخلت المدينة مأوًى ميسورًا، وكان حل هذا الأمر بطريقة عجيبة لم تتكرر في التاريخ أبدًا، وكان الرسول أول من بدء هذا الأمر، ولم نسمع عنه إلا في أمة الإسلام وهو: المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، كانت تلك الفكرة عجيبة، إذ جمع الرسول المهاجرين والأنصار، وجعل كل واحد من المهاجرين أخًا لواحد من الأنصار، وجعل الأخوة في كل شيء حتى وصل الأمر إلى الميراث، فلو مات أحد المهاجرين ورثه أخوه الأنصاري والعكس، وقد تمَّ بعد ذلك نَسْخ حكم الميراث هذا، لكن في بداية الأمر كان هذا من مظاهر الأخوة.
ثالثًا: الأخوة في الله
أعطى رسول الله كمًّا هائلًاً من الأحاديث التي تحمِّس على الأخوة، وترفع من أجر الأخوة في الله، قال رسول الله: "لاَ يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ.
وبذلك ربط الأخوة بالإيمان..
بل إنه قال في رواية مسلم عن أبي هريرة: "لاَ تَدْخُلُون الْجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا، وَلاَ تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا، أَوَلاَ أَدُلُّكُمْ عَلَى شَيْءٍ إِذَا فَعَلْتُمُوهُ تَحَابَبْتُمْ، أَفْشُوا السَّلاَمَ بَيْنَكُمْ"
وعلى هذا النسق أحاديث كثيرة تحثُّ على الإخاء في الله.
كان صحابة النبي من المهاجرين والأنصار يرجون بأخوتهم هذه الأجر والثواب من الله، فرفعوا في قيمة الأخوة بينهم، وبالتالي كان لها أثر فعال حقيقيّ واقعيّ في حياتهم. لكن رسول الله رأى أن ذلك كله ليس كافيًا لتثبيت دعائم الأخوة في الدولة الإسلاميّة، وذلك أن الدولة ستواجه تحديات خطيرة لا يستقيم أبدًا أن يترك الأمر فيها للنفس. فلا بد من وضع قوانين ودساتير مكتوبة.
قال العلماء: المؤاخاة هي حاجة الأنصار إلى التفكر في الدين، وحاجة المهاجرين إلى مأوى، وإلى مساعدة، وإلى بيت..
حارب النبى عليه الصلاة والسلام العنصرية فالبشر يمكن أن يصنفوا تصنيفين، لا ثالث لهما، تصنيف إنساني وتصنيف عنصري، من هو العنصري ؟ هو الذي يرى نفسه متميزاً على من حوله، يحق له ما لا يحق لهم، وهو معفى مما يجب عليهم، ينبغي أن يأكل وحده، وأن يسكن وحده، وأن يستمتع بالحياة وحده، وأن يشتري من الأشياء الثمينة ما يحلو له وحده، وأن يبني مجده على أنقض الآخرين، وأن يبني غناه على فقرهم، وأن يبني حياته على موتهم، وأن يبني أمنه على موتهم، وأن يبني عزه على ذلهم، هذا عنصري.
الذي نعانيه من الغرب العنصرية، يعاملون شعوبهم معاملة تفوق حد الخيال، ويعاملون بقية الشعوب معاملة تترفع عنها الوحوش، يستخدمون أسلحة الدمار الشامل لإفناء البشر، وإبقاء الحجر، لذلك لا يمكن أن تنهض أمة بأناس من طبقتين: قوي وضعيف، لا بد من أن يكون الناس سواسية كأسنان المشط.(( فلا فضل لعربي على أعجمي، ولا أحمر على أسود إلا بالتقوى ))
(رواه الطبراني عن ابي سعد )(( وأيْمُ الله لَوْ أنّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا ))
(مُتَّفَقٌ عَلَيه )وكان إذا وزّعَ الماء بين أصحابه كان آخرهم شربا....وكان يجلس حتى ينتهي به المجلس، هذا مجتمع المسلمين، ما في تفرقة أبداً.هذا مجتمع العدل والسواسية، بهذا نقوى على أعدائنا، بهذا نواجههم، بهذا نقف صفاً واحداً، بهذا لا نخترق من قبلهم.
راعى النبي صلى الله عليه وسلم في الظروف الاجتماعية، لكل أسرة حينما استقبلوا المهاجرين، فالمهاجرون الشباب الذين لم تزوجوا نزلوا على سعد بن خثيمة، وكان عزباً، لا زوجة له، وسميت داره باسم دار الأعزاب، ونزل المهاجرون مع زوجاتهم وأولادهم على الأنصار أصحاب الأهل والسعة في المسكن والرزق.
تعفف المهاجرين فقد روى أن بعض الذين آخى بينهم النبي عليه الصلاة والسلام هو عبد الرحمن بن عوف، آخى بينه وبين سعد بن الربيع، وقد عرض عليه سعد بن الربيع أحد بيتين، وأحد دكانين، وأحد بستانين، لم يُثبت التاريخ الإسلامي أن مهاجراً أخذ من أنصاري نصف ماله، قال له: بارك الله لك بمالك يا أخي، ولكن دلني على السوق، ما هذه العفة ؟ الأنصار بذلوا نصف ما يملكون، والمهاجرون تعففوا عن أموال إخوانهم، قال له: بارك الله لك في مالك، ولكن دلني على السوق، أنا أعمل.
فحينما يكون المؤمن سخياً كريماً إلى درجة أن يهب أخاه نصف أملاكه تجد الطرف الآخر عفيفاً جداً جداً، ويقول: بارك الله لك في مالك، ولكن دلني على السوق.
وها هى نزوة صغيرة في ساعة غضب، والصحابة ليسوا معصومين، قال بعض الصحابة لبلال: يا ابن السوداء، وحين بلغ ذلك النبي عليه الصلاة والسلام فقال لهذا الصحابي الجليل القرشي:(( إنك امرؤ فيك جاهلية ))
(أبو داود عن أبي ذر)فلم يرضَ هذا الصحابي بعد أن سمع هذا من رسول الله إلا أن وضع رأسه على الأرض، وأمر بلالاً أن يعض قدمه فوق رأسه، هذا هو الإسلام. فقط:
امرأة تقم المسجد، منظفة، توفيت، الصحابة الكرام اجتهدوا أن هذه المرأة من دنو مكانتها لا ينبغي أن نذكر للنبي أنها ماتت، النبي الكريم سأل عنها بعد حين، قالوا: والله ماتت يا رسول الله، فغضب، قال: هلا أعلمتموني ؟ لمَ لم تذكروا لي أنها ماتت؟ وذهب إلى قبرها، وصلى عليها صلاة الجنازة استثناء من أحكام صلاة الجنازة، صلاة الجنازة قبل الدفن، صلى عليها صلاة الجنازة بعد الدفن، هذا المجتمع المسلم.
وهكذا النبي صلى الله عليه وسلم حرص على وحدة أمته فى حياته ومن بعده، لأن الأعداء وضعونا جميعاً في سلة واحدة، وينبغي أن نقف جميعاً في خندق واحد، مشكلتهم كما قال بعض زعمائهم: مشكلة حياة أو موت، ونحن مشكلتنا أيضاً مشكلة حياة أو موت.
فعن ابن عباس رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(( لا تَرْجِعُوا بَعْدي كُفَّاراً، يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقابَ بَعْض ))
(( كُلُّ المُسْلِمِ على المُسْلِمِ حَرَامٌ: دَمُهُ ومَالُهُ وَعِرْضُهُ ))
(رواه مسلم عن أبي هريرة)ويقول الله عز وجل:﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ ﴾( سورة الحجرات الآية: 10 ).
المفضلات