رسالة السماء إلى الشعوب الميتة





الاربعاء 02 فبراير 2011-

مفكرة الاسلام




من أروع المشاهد القرآنية في كتاب الله عز وجل، تلك المشاهد التي تتكلم عن أحوال يوم القيامة وتفاصيلها، والمواقف المؤثرة والمعبرة التي تقع في هذا اليوم الآتي لا محالة، وروعة القرآن تتجلي في تلك المشاهد أنها تقدم للمستمع كأنها رأي العين وتقع في التو واللحظة، رغم أنها ستحدث يوم القيامة، فالتعبير بالمضارع عن المستقبل واحد من أروع الأساليب القرآنية في الإقناع والتأثير، حتى يعتبر الناس ويرتدعوا عن السير في الطريق الذي سيوردهم التورط في أمثال هذه المشاهد يوم القيامة.

تخاصم أهل النار

يعتبر مشهد تخاصم أهل النار، من أكثر المشاهد القرآنية تأثيراً في الشعوب والجماعات والأمم، ذلك أن الخطاب فيها يوجه إنذاراً شديد القوة والرهبة ليس للأفراد وحدهم فحسب، ولكن للشعوب الضعيفة والجماهير المستذلة والجماعات الخائفة، من مواجهة الطغيان والجبروت الذي عليه النخب والزعامات، تحذير سماوي لهؤلاء الذين يظنون أن السير في ركاب الظالمين، والركون إليهم والسكوت علي مفاسدهم ومظالمهم، يحقق الأمن والأمان والسلامة والمعافاة، لأن هؤلاء الظلمة والطواغيت لن ينفعوهم لا في دنيا ولا في آخرة، وتنازعهم وتخاصمهم في عرصات يوم القيامة سيكون مشهدا من أروع مشاهد اليوم الآخر.

وقد أخذ هذا المشهد عدة صور في القرآن الكريم وتكرر في عدة مواضع في كتاب الله عز وجل، كل موضع منها يخاطب الوحي الشعوب والجماعات والأمم، بسياقات ودلالات مختلفة تجتمع تحت مفهوم واحد وهو: رفض اليأس والاستسلام، وفي كل موضع يتضح المعني مرة بعد مرة.

المشهد الأول: تخاصم الأتباع مع قادة الفكر الضال

الأتباع الذين سلموا عقولهم ورؤوسهم وتفكيرهم، إلى أصحاب الأهواء والأفكار الضالة ومروجي الانحرافات، الأتباع الذين تنازلوا عن أخص ما ميز الله به الإنسان؛ وهو التفكير والعقل، وتركوا غيرهم يعبث به ويفسد فيه ويملئه ضلالاً وانحرافاً وضياعاً وباطلاً، حتى صاروا مثل الببغاء يردد ما يقوله هؤلاء القادة المضللون بلا وعي ولا تدبر ولا فهم، يتلقون علومهم ومعارفهم من هؤلاء الضالين المضللين، يعتمدون فقط علي ما تبثه وسائل إعلامهم، فلا يسمعون إلا صوتهم، ولا يعملون إلا برأيهم، هؤلاء الأتباع الذين باعوا رؤوسهم، وتنازلوا عن تكرمة الله لهم بالعقل، يحذرهم الله عز وجل في عدة مواضع من كتابه العزيز، فيقول في سورة الصافات من الآيات 27 حتى 32 : (وأقبل بعضهم علي بعض يتساءلون ـ قالوا إنكم كنتم تأتوننا عن اليمين ـ قالوا بل لم تكونوا مؤمنين ـ وما كان لنا عليكم من سلطان بل كنتم قوما طاغين ـ فحق علينا قول ربنا إنا لذائقون ـ فأغويناكم إنا كنا غاوين).

وقال الله عز وجل للأتباع عديمي العقل مسلوبي الإرادة أتباع كل ناعق في سورة سبأ من الآيات 31 حتى 33 : ( ولو ترى إذ الظالمون موقوفون عند ربهم يرجع بعضهم إلى بعض القول يقول الذين استضعفوا للذين استكبروا لولا أنت لكنا مؤمنين ــ قال الذين استكبروا للذين استضعفوا أنحن صددناكم عن الهدي بعد إذ جاءكم بل كنتم مجرمين ــ وقال الذين استضعفوا للذين استكبروا بل مكر الليل والنهار إذ تأمروننا أن نكفر بالله ونجعل له أنداداً وأسروا الندامة لما رأوا العذاب ...)

المشهد الثاني: تخاصم السادة الأقوياء والعبيد الضعفاء

السادة من الملوك والزعماء والأمراء وشيوخ العشائر والحكام والسلاطين، وغيرهم ممن ولي من أمر الناس شيئاً، وهو يتسلط علي العباد بالظلم والطغيان والفساد وكبت الحريات وتكميم الأفواه ونهب الخيرات والاستئثار بالمنافع والثروات، ورغم كل هذه الجرائم يكون من شعوبهم ورعيتهم من يواليهم ويشد أزرهم ويرضي بأفعالهم الشريرة الآثمة، ولكن أي شعوب تلك التي ترضي بالهوان والاستسلام للطغيان، إنها الشعوب التي ذكرها الله عز وجل في كتابه العزيز في سورة إبراهيم الآية 27 : (وبرزوا لله جميعاً فقال الضعفاء للذين استكبروا إنا كنا لكم تبعاً فهل أنتم مغنون عنا من عذاب الله من شيء ــ قالوا لو هدانا الله لهديناكم سواء علينا أجزعنا أم صبرنا ما لنا من محيص) وقوله عز وجل في سورة الأحزاب من الآية 66 حتى 68 قوله :(يوم تلقب وجوههم في النار يقولون يا ليتنا أطعنا الله وأطعنا الرسولا ـ وقالوا ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبرائنا فأضلونا السبيلا ـ ربنا آتهم ضعفين من العذاب والعنهم لعناً كبيراً).

ولنقرأ ما قاله المفسرون في تفسير هذا المشهد العظيم :(الضعفاء هم الذين تنازلوا عن أخص خصائص الإنسان الكريم على الله حين تنازلوا عن حريتهم الشخصية في التفكير والاعتقاد والاتجاه وجعلوا أنفسهم تبعاً للمستكبرين والطغاة، وإنما هم ضعفاء لأن الضعف في أرواحهم وفي قلوبهم وفي نخوتهم وفي اعتزازهم بأخص خصائص الإنسان، فإن المستضعفين كثرة والطواغيت قلة فمن ذا الذي يخضع الكثرة للقلة، إنما يخضعها ضعف الروح وسقوط الهمة وقلة النخوة والتنازل الداخلي عن الكرامة، إن الطغاة لا يملكون أن يستذلوا الجماهير إلا برغبة هذه للجماهير فهي دائماً قادرة على الوقوف لهم لو أرادت؛ فالإرادة هي التي تنقص القطعان، إن الذل لا ينشأ إلا عن قابلية للذل في نفوس الأذلاء، وهذه القابلية هي وحدها التي يعتمد عليها الطغاة).

وتتوالى المشاهد بين الضعفاء والأقوياء، والسادة والعبيد، والأتباع والمتبوعين، والزعماء والرعية المطيعة، والجميع يتخاصمون ويتلاومون ويتعاتبون، ويلعن بعضهم بعضاً ويتبرأ بعضهم من بعض، ويبلغ أعلي درجات التبكيت والحسرة علي الشعوب الجبانة المؤثرة للموت علي الحياة عندما يقوم فيهم إبليس خطيباً وواعظاً ومعلناً براءته منهم ومن أفعالهم وطاعتهم لهم واغترارهم بأمانيه ووعوده الكاذبة.

الشعوب بين الموت والحياة:

الشعوب العربية ظلت توصف لفترة طويلة بأنها شعوب ميتة لا حراك فيها، قابليتها للاستكانة والذلة أصبحت مثل الميراث الذي تتناقله الأجيال، كأن الجبن والضعف مثل الجين الوراثي الذي يورث في السلالات العربية، علي الرغم من أن الوعاء المعرفي والخلفية الثقافية لتلك الشعوب تحمل كل معاني الصمود والعزة والكرام ورفض الطغيان.

ظلت تلك الصفة لازمة ولاصقة بالشعوب العربية حتى جاءت ثورة الشعب التونسي التي حطمت كافة القيود وأزالت جدر المخاوف التي كانت تكبل الإرادة الحقيقية لهذه الشعوب، ولعل سر عظمة هذه الثورة أن شعب تونس كان متفائلاً وصامداً ورافضاً لكل دعاوي اليأس والاستجابة لصوت العقل العاجز، وكل محاولات الإحباط التي كانت تخرج من هنا وهناك والتي دوماً ما كانت ترفع لافتة "لا فائدة"، صامداً أمام التشاؤم، ضارباً المثل الأعلى في إمكانية الشعوب أن تغير وتتحرك، حتى في ظل أعتى النظم الاستبدادية وأكثرها ديكتاتورية في المنطقة، ولعل تفاؤل الإرادة الذي كان عليه التوانسة هو سر نجاح هذه الثورة الشريفة، فالشعب التونسي قد فضل الحياة على الموت، العزة على الذلة، والكرامة على المهانة.

والشعوب العربية الأخرى إذا أرادت أن تحذو حذو الشعب التونسي فعليها أن تختار بين الحياة والموت، عليها أن تعرف أن الخلاص والنصر إذا لا يأتي بالأحلام والأماني بل لابد من وجود تلك الروح الإيمانية الفعالة والمؤثرة التي ترمي بكل سهم من أجل التغيير، وهو الحلم الذي لا تناله إلا الشعوب الحية، وليس للشعوب الميتة فيه من نصيب، ولعل رسالات السماء إلى الشعوب الميتة من سوء المصير أقوى دافع لها أن تتحرك وتتغير قبل أن يكون المشهد الحتمي يوم القيامة إلا وهو مشهد تخاصم أهل النار.

</B></I>