في ليلة لن ينساها تاريخ مصر والمنطقة, وقع في القاهرة حدث غير تاريخنا جميعا ومازلنا نشهد آثاره إلى اليوم ، إنها ليلة 23 يوليو حينما خرج الجيش من ثكناته معلنا غضبه عما يحدث في البلاد.. وتصدرت صورة اللواء محمد نجيب الصفحة الأولي لجريدة "المصري" وفوقها مانشيت: اللواء نجيب يقوم بحركة تطهيرية في الجيش
ويؤكد كتاب " الأوراق السرية لمحمد نجيب " للكاتب الصحفي محمد ثروت أنه علي الرغم من خطورة الدور الذي قام به اللواء محمد نجيب في نجاح الثورة إلا أن البعض حاول أن يقلل من دوره ..وحاولوا أن يصوروا انه لم يكن له علم بالثورة وإنما هو "ركب الموجة" والبعض حاول ادعاء أن الضباط الأحرار استخدموا نجيب مجرد واجهة لإنجاح الثورة ..بل وصل الأمر ببعضهم أن يدعي أن نجيب يوم الثورة كان مريضا في منزله وليس في ذهنه شئ عن أيه ثورة ..وربما كان أمله الوحيد في شهر يوليو أن يغادر فراشه إلي عمله في سلاح الفرسان, حتي استيقظ نجيب علي تليفون من الضباط الأحرار يقولون له : تفضل لقد قمنا بثورة واخترناك زعيما لها... وقد نتعجب حينما نعلم أن قائل هذا الكلام هو أنور السادات في كتابه "قصة الثورة كاملة" والذي كتبه في عهد عبد الناصر ..وقد نتعجب أكثر حينما نعلم أن نجيب كان صاحب الفضل في عودة السادات إلي الجيش بعد فصله منه بتهمة التجسس لصالح الألمان.!!.

نجيب سر نجاح الثورة



،، أنقد نجيب ثورة يوليو من الفشل في اللحظات الأخيرة ،،
كانت ثورة يوليو في بدايتها حركة , مجرد حركة عسكرية, لكنها لاقت قبول الشعب المصري واستقبلتها الجماهير بحفاوة بالغة وأطلقت عليها "ثورة".. فقد كان قائدها رجل شهد له الكل بالشجاعة وكان نجيب سر نجاح الثورة.. فقد كان برتبة لواء ..أما باقي الضباط الأحرار فلم يتجاوز أكبرهم رتبة بكباشي... وبفضل نجيب تحولت الحركة إلي ثورة ، وإذا كان قد قدر لثورة يوليو أن تفشل لكان جزاء محمد نجيب الإعدام رميا بالرصاص طبقا لتقاليد الجيش.
ويكشف تسجيل نادر انفرد به الصحفي محمد ثروت بكتابه أنه في ليلة 23 يوليو لعب نجيب أخطر دور في نجاح الحركة, فقد انكشف سر الثورة الساعة 9:30 مساءا , وعرف نجيب أن مؤتمرا لرئيس الأركان سيعقد في الساعة العاشرة في مقر القيادة لترتيب القبض علي الضباط الأحرار , فقام اللواء محمد نجيب علي الفور بإبلاغ يوسف صديق بالتحرك قبل ساعة الصفر بساعة , وبالفعل تحرك البطل صديق ونجح في اقتحام مركز القيادة.. ولولا هذا التحرك لفشلت الثورة ولقضي عليها قبل أن تبدأ.

لماذا استقال من الرئاسة؟

بمرور عام على قيام الثورة تركزت كل الأضواء علي اللواء نجيب باعتباره الرجل الذي قاد الثورة وطرد الملك وأنقذ مصر من عهد الظلم والطغيان وأصبح أمل البلاد في تخليصها من الاستعمار البريطاني الجاثم علي صدرها منذ 1882... كانت صور نجيب وخطبه تتصدر الصفحات الأولي من الجرائد والمجلات المصرية والعربية والأجنبية .. ومع نجاح الثورة حاول بعض الضباط أن ينسبوا لأنفسهم دورا لم يقوموا به .













غلاف مذكراته

وبعد فترة ليست بالقصيرة بدأ بعض الضباط يحاولون أن يجنوا ثمار نجاح الحركة ولو علي حساب المبادئ والأخلاق,, حتي شاع بين الناس أن الثورة طردت ملك وجاءت بثلاثة عشر ملك.. يقول نجيب في كتابه "كنت رئيسا لمصر" : لقد خرج الجيش من الثكنات ... وانتشر في كل المصالح والوزارات المدنية فوقعت الكارثة التي لا نزال نعاني منها إلي الآن في مصر,, كان كل ضابط من ضباط القيادة يريد أن يكون قويا ..فأصبح لكل منهم "شلة" وكانت هذه الشلة غالبا من المنافقين الذين لم يلعبوا دورا لا في التحضير للثورة ولا في القيام بها".

ولاحظ نجيب بعض السلوكيات الخاطئة التي يرتكبها بعض الضباط في حق الثورة وفي حق الشعب الذي وثق بهم .. فكان أول شئ فعله ضباط القيادة أنهم غيروا سياراتهم الجيب وركبوا سيارات الصالون الفاخرة, وترك أحدهم شقته المتواضعة واستولي علي قصر من قصور الأمراء حتي يكون قريبا من أحدي الأميرات التي كان قصرها قريبا من القصر الذي استولي عليه.. وصدمت هذه التصرفات باقي الضباط الأحرار الذين يتصفون بالمثالية فحمل بعضهم هذه الفضائح وواجهوا بها ضباط القيادة .. لكنهم سمعوهم وقرروا التخلص منهم مثلما حدث مع ضباط المدفعية .
كان أول خلاف بين نجيب وضباط القيادة حول محكمة الثورة التي تشكلت لمحاكمة زعماء العهد الملكي , ثم حدث خلاف ثاني بعد صدور نشرة باعتقال بعض الزعماء السياسيين وكان من بينهم مصطفي النحاس , فرفض نجيب اعتقال النحاس باشا, لكنه فوجئ بعد توقيع الكشف بإضافة اسم النحاس, وأصدرت محكمة الثورة قرارات ضاعفت من كراهية الناس للثورة منها مصدرة 322 فدانا من أملاك زينب الوكيل حرم النحاس باشا, كما حكمت علي أربعة من الصحفيين بالمؤبد وبمصادرة صحفهم بتهمة إفساد الحياة السياسية, ويضاف إلي هذه القرارات قرارات أخري صدرت رغم أن نجيب رفض التوقيع عليها منها القرار الجمهوري بسحب الجنسية المصرية من ستة من المصريين من الأخوان المسلمين, وزاد الصدام بين نجيب مجلس القيادة عندما اكتشف أنهم ينقلون الضباط دون مشورته , ورفض زكريا محي الدين أن يؤدي اليمين الدستورية أمام نجيب بعد تعيينه وزيرا للداخلية وكذلك رفض جمال سالم.... كل هذه الأمور دفعت نجيب لكي يفكر قويا في تقديم استقالته .

استقالة فبراير 1954

"بسم الله الرحمن الرحيم
السادة أعضاء مجلس قيادة الثورة
بعد تقديم وافر الاحترام , يحزنني أن أعلن لأسباب لا يمكنني أن أذكرها الآن أنني لا يمكن أن أتحمل من الآن مسئوليتي في الحكم بالصورة المناسبة التي ترتضيها المصالح القومية ..
ولذلك فإني أطلب قبول استقالتي من المهام التي أشغلها, وأني إذ أشكركم علي تعاونكم معي أسأل الله القدير أن يوفقنا إلي خدمه بلدنا بروح التعاون والأخوة"



،، بيان قيادة الثورة انتقص من دور محمد نجيب ،،
بهذه العبارات المختصرة قدم نجيب استقالته في 22 فبراير 1954 ..وفي 25 فبراير أصدر مجلس القيادة بيان أقاله نجيب , وحاول البيان الانتقاص من دور نجيب وتشويه صورته أمام الجماهير فقد أكد البيان أن نجيب طلب سلطات أكبر من سلطات أعضاء المجلس وأن يكون له حق الاعتراض علي قرارات المجلس حتي ولو كانت هذه القرارات قد أخذت بالإجماع , وادعي البيان أنه اختير قائدا للثورة قبل قيامها بشهرين , وانه علم بقيام الثورة ليلة 23 يوليو من مكالمة تليفونية من وزير الداخلية فتحرك إلي مبني القيادة وهناك تقابل مع عبد الناصر الذي وافق علي ضمه وتنازل له عن رئاسة المجلس.



هل خطط عبدالناصر لإقالة نجيب ؟

اتخذ ضباط مجلس القيادة هذا القرار وكلهم ثقة في أنهم قد نجحوا في مخططهم بإزاحة نجيب, المخطط الذي يؤكد محمد ثروت في كتابه أنه بدأ بإعلان الجمهورية حتي يكون نجيب رئيسا رمزيا لها في حين يستحوذ عبد الناصر ومجموعته علي مجلس الوزراء , وكان من ضمن المخطط إبعاد نجيب عن الجيش عن طريق تعيين الصاغ عبد الحكيم عامر قائدا عاما للجيش وبالتالي تستحوذ مجموعة عامر وعبد الناصر علي السلطة المدنية والعسكرية.
وتصور مذكرات نجيب كيف أنه حينما أذيع بيان إقالته علي الملأ خرجت الجماهير تحتج عليه وانهالت البرقيات علي المجلس ودور الصحف ترفض الاستقالة .. واندلعت المظاهرات التلقائية في القاهرة والأقاليم لمدة ثلاثة أيام تؤيد نجيب وكانت الجماهير تهتف (محمد نجيب أو الثورة) وفي السودان اندلعت مظاهرات جارفة تهتف (لا وحدة بلا نجيب), وانقسم الجيش بين مؤيد لعودة اللواء محمد نجيب وإقرار الحياة النيابية وبين المناصرين لمجلس قيادة الثورة , وكان سلاح الفرسان أكثر أسلحة الجيش تعاطفا مع نجيب فهو سلاح ثروت عكاشة وخالد محي الدين وحسين الشافعي وجميعهم من مؤيدي عودة الديمقراطية , وأشرفت البلاد علي حرب أهلية وتداركا للموقف أصدر مجلس القيادة بيانا الساعة السادسة من مساء 27 فبراير 1954 جاء فيه " حفاظا علي وحدة الأمة يعلن مجلس قيادة الثورة عودة اللواء أركان حرب محمد نجيب رئيسا للجمهورية وقد وافق سيادته علي ذلك"... وهكذا عاد نجيب إلي الحكم علي أكتاف الجماهير التي خرجت في مظاهرات شعبية لم تعدها مصر من قبل.
بعد عودة نجيب علي أكتاف الجماهير كان باستطاعته أن يتخلص من ضباط القيادة الذين وجهوا له إساءات كثيرة وحاولوا أثناء الأزمة تشويه صورته أمام الشعب إلا أن نجيب عمل علي إزالة الخلاف بين أعضاء مجلس القيادة . يقول اللواء جمال حماد المؤرخ العسكري أثناء ندوة كتاب "الأوراق السرية لمحمد نجيب " أي واحد كان يجي في هذا الموقف ويحرز هذا الانتصار الباهر... معاه سلاح الفرسان والشعب كله معاه ... ومع ذلك أنا رأيته بعيني ماسك أيديهم " أعضاء مجلس قيادة الثورة" ورفعها وقال "إحنا يد واحدة" ، وأن عبد الناصر أراد التخلص منه في مارس بعد هدوء الأزمة !!

أزمة مارس 1954