(6)


مسلمة إلزامية موضوعية لا يسع دعاة الدولة المدنية إلا التسليم بها:

1- إذا كان نص فلاسفة الدولة المدنية كتوماس هوبز حين يقول : «
إنَّ الكتابَ المقدسَ لا يصبحُ قانونًا إلَّا إذا جعلَتْهُ السُّلطةُ المدنيَّةُ الشرعيَّةُ كذلِكَ» (ص/258) .)
2- واسبينوزا حين يقول : «
إنَّ الدينَ لا تكونُ لَهُ قوةُ القانونِ إلَّا بإرادةِ مَنْ لَهُ الحقُّ في الحكمِ» [(ص/422) ، وانظرْ : (ص/424)] .
3- ونفس الحقيقة يقررها أحد أشهر العلمانيين ودعاة الدولة المدنية المصريين وهو المستشار سعيد العشماوي حين يقول : ((
الحكومة المدنية أو نظام الحكم المدني هو النظام الذي تقيمه الجماعة، مستنداً إلى قيمها، مرتكزاً إلى إرادتها، مستمراً برغبتها، حتى ولو طبق أحكاماً دينية أو قواعد شرعية)) [ الخلافة الإسلامية (ص/18)].

هذه النصوص الثلاثة بينة جداً في أن الحاكم أو البرلمان أو حتى الشعب بالديمقراطية المباشرة إذا اختار أحكاماً دينية وجعلها قوانين للحكم = أن ذلك لا يُخرج الدولة عن وصف المدنية؛ لأن اختيار السلطة العليا لها هو الذي أكسبها صفة الإلزام، وهذه هي آليات الدولة المدنية، ورفض الأحكام الدينية التي اختارها الشعب أو البرلمان لمجرد أنها دينية سيكون حينئذ عدواناً على إرادة الشعب ومصادرة لها واستبداد لا يتفق وأبجديات المدنية.


ورغم أننا من ناحية الأصول الشرعية نرى أن الأحكام الشرعية ملزمة بنفسها لا تتوقف إلزاميتها على استفتاء أو اختيار من أحد = إلا أننا نتنزل معكم لنلزمكم بأبسط أبجديات الدولة المدنية التي تؤمنون بها فنقول :

خلوا بين الشعب واختياره، ولا تصادروا إرادته، وليطرح كل بضاعته ، وما تختاره الأمة = لا يسعكم إلا التسليم به؛ لأن هذه هي الآليات التي تؤمنون بها، وإن أبيتم فالسؤال قائم : بأي حق إذاً تمارسون المدنية والحرية بهذه الانتقائية العجيبة وذلك التحيز غير الموضوعي ؟!!

هذا آخر ما أردتُ تقريره، والحمد لله رب العالمين..



وكتب..

أبو فهر السلفي
عصر السبت السادس عشر من ربيع الأول لعام ألف وأربعمائة واثنين وثلاثين بالتأريخ الهجري الموافق 19/2/2011 م.




________________________
( [1]) وانظرْ : ((الأعمال الكاملة-الكتابات السياسية)) دراسة الدكتور محمد عمارة (ص/103)،وانظر : الرد على هاناتو في المجلد الثالث من الأعمال الكاملة .
( [2]) يقول الشيخ محمد الغزالي رحمه الله حين كان يرد على الشيخ خالد محمد خالد، تحت عنوان (شبهات حول الحكم الدِّيني): ((يقع في الوهم أن الحكم الدِّيني إذا أقيم فسيكون رجاله هم أنفسهم أولئك الذين نسميهم الآن (رجال الدِّين) وقد تثبت في الخيال صور لعمائم كبيرة ولحى موفورة وأردية فضفاضة.
وقد تتوارد هذه الصور وملابساتها الساخرة فنظن أن الوزراء في هذه الحكومة سيديرون عجلة الحياة إلى الوراء، وينشغلون بأمور لا تمت إلى حقائق الدنيا وشئون العمران بصلة.
ومن يدري؟ فقد يشتغلون بالوعظ ومحاربة البدع والاستعداد للحياة الآخرة.
وحسبهم ذلك من الظفر بالحكم!
وهذا وهم مضحك، ولعله بالنسبة إلى الإسلام خطأ شائن.
فنحن لا نعرف نظاما من الكهنوت يحمل هذا الاصطلاح المريب (رجال الدِّين).
وقد يوجد فريق من الناس يختص بنوع من الدراسات العلمية المتعلِّقة بالكتابوالسنة، ولكن هذا النوع من الدراسات لا يعدو أن يكون ناحية محدودة من آفاق الثقافة الإسلامية الواسعة، تلك الثقافة التي تشمل فنونا لا آخر لها من حقائق الحياتين ومنالمعرفة المادية وغير المادية.
والعلماء بالكتاب والسنة يمثلون فريقا من المسلمين قد يكون مثل غيره أو دونه أو فوقه، ولم يكن التقدم الفقهي مُرشِحا للحكم في أزهى عصور الإسلام.
وقد كان أبو هريرة وابن عمر وابن مسعود من أعرف الصحابة بالكتاب والسنة، ومن أكثرهم تحديثا عن النبي صلى الله عليه وسلم فهل كانت منزلتهم في بناء الدولة الإسلامية منزلة الخلفاء الأربعة أو منزلة سعد بن أبي وقاص أو خالد بن الوليد أو أبي عبيدة بنالجراح؟ الواقع أن المسلمين كافة رجال لدينهم -أو ذلك ما يجب أن يكون -والذي يخدمدينه في ميدان القتال أو السياسة أو الحكم أو الصناعة أو العلم هو لا ريب رجل لدينهلا غبار عليه.
وليس أحد أحق من أحد بهذا الوصف، ولا كان احتكارا لطائفة دون أخرى يوما ما.
والصورة الصادقة للحكومة -كما يقيمها الإسلام- صورة رجال أحرار الضمائر والعقول، يفنونأشخاصهم ومآربهم في سبيل دينهم وأمتهم.
صورة كفايات خارقة، وثروات عريضة، من بعد النظر، ودقة الفَهم، وعظم الأمانة، تسعد بها المبادئ والشعوب.
صورة أفرادلهم مهارة عبد الرحمن بن عوف في التجارة، وابن الوليد في القيادة، وابن الخطاب فيالحكم؛ قد يولدون في أوساط مجهولة فلا تبرزهم إلا مواهبهم ومَلَكاتهم في مناحيالدنيا وميادين العمل.
إن الحكم الدِّيني ليس مجموعة من الدراويش والمتصوفة والمنتفعين في ظل الخرافات المقدسة ... ويوم يكون كذلك فالإسلام منه بريء))[من هنا نعلم (ص/27)].

( [3]) يقول سيد قطب في ((المعالم)) (ص/60) : ((ومملكة الله في الأرض لا تقوم بأن يتولى الحاكمية في الأرض رجال بأعيانهم -هم رجالالدِّين- كما كان الأمر في سلطان الكنيسة، ولا رجال ينطقون باسم الآلهة، كما كان الحال فيما يعرف باسم (الثيوقراطية) أو الحكم الإلهي المقدس!! ولكنها تقوم بأن تكون شريعة الله هي الحاكمة، وأن يكون مردُّ الأمر إلى الله وفق ما قرَّره من شريعة مبينة)) .

( [4]) وقد يُعتذر عنهم –وهو وجيه- بأن سياق كلامهم هو جمع بين التقرير وبين الحوار ،وأن من قرأ السياق بتمامه سيصل لمفهوم الدولة المدنية الخاص بهم وسيفهم أنه خاص بهم ،وأن مرادهم ليس نفي أصل إيراد العلماني وإنما مرادهم إثبات القدر المشترك بين المدنية بالمعنى الفلسفي وبين دولة الإسلام.

( [5]) والعلماني يقع في نفس المغالطة بصورة أسوأ،حين يصر على أن الإسلام دولة دينية بالمعنى محل البحث الذي هو الثيوقراطي القائم على إحدى النظريات السابقة.

( [6]) وانظرْ : (2/611)، و «الدرءَ» : (1/223، 229، 242) ، و«الفتاوَى» : [(5/229»، و (6/36) ، (16/426) ، (17/304) ] .

( [7]) انظر : تفسيرُ سورةِ الإخلاصِ «مجموعُ الفتاوَى» : (17/355)، وانظر: الفرقانُ بينَ الحقِّ والباطلِ «مجموع الفتاوى » : (13/ 145).

( [8]) طريقة الشيخ أبي الأعلى المودودي هي عكس طريقة الفقهاء السابقين، فهم جعلوا الحكومة الإسلامية مدنية بقيد، وهو جعلها دينية ثيوقراطية بقيد ،فيقول : ((الثيوقراطية الأوروبية تختلف عنها الحكومة الإلهية (الثيوقراطية الإسلامية) اختلافاكليا، فإن أوروبا لم تعرف منها إلا التي تقوم فيها طبقة من السدنة مخصوصة يشرعونللناس قانونا من عند أنفسهم حسب ما شاءت أهوائهم وأغراضهم، ويسلطون ألوهيتهم على عامة أهل البلاد متسترين وراءالقانون الإلهي، فما أجدر مثل هذه الحكومة أن تسمى بالحكومة الشيطانية منها بالحكومة الإلهية وأما الثيوقراطية التي جاء بها الإسلام فلا تستبد بأمرها طبقة من السدنة أوالمشايخ، بل هي التي تكون في أيدي المسلمين عامة، وهم الذين يتولون أمرها والقيامبشئونها وفق ما ورد به كتاب الله وسنة رسوله. ولئن سمحتم لي بابتداع مصطلح جديدلآثرت كلمة (الثيوقراطية الديمقراطية) أو (الحكومة الإلهية الديمقراطية) لهذاالطراز من نظم الحكم، لأنه قد خوَّل فيها للمسلمين حاكمية شعبية مقيدة. وذلك تحتسلطة الله القاهرة وحكمه الذي لا يغلب، ولا تتألف السلطة التنفيذية إلا بآراءالمسلمين، وبيدهم يكون عزلها من نصبها، وكذلك جميع الشئون التي يوجد عنها فيالشريعة حكم صريح، لا يقطع فيها بشيء إلا بإجماع المسلمين وكلما مست الحاجة إلى إيضاح قانون أو شرح نص من نصوص الشرع، لا يقوم ببيانهطبقة أو أسرة مخصوصة فحسب، بل يتولى شرحه وبيانهكل من بلغ درجة الاجتهاد من عامة المسلمين ،فمن هذه الوجهة يعد الحكم الإسلامي (ديمقراطياً )). انظر : ((نظرية الإسلام وهديه في السياسة والقانون والدستور)) لأبي الأعلى المودودي(ص/34-36)،وانظر : عرض رأيه ونقده من وجهة نظر الطبقة التي عرضنا رأيها عند فهمي هويدي في ((القرآن والسلطان)) (ص/139) ،والقرضاوي في ((التطرف العلماني)) (ص/80-81).

( [9]) ((بيان الدليل)) (ص/20