وأما قولهم على صفة الاستواء بأن استوى تعني استولى فهو تفسير باطل أيضاً،واستدلوا ببيت من الشعر ألا وهو:
قد استوى بشر على العراق ... من غير سيف أو دم مهراق
وبشر هو بشر بن مروان أحد الأمراء الأمويين،والصواب أن كلمة استوى في اللغة تعني: علا – ارتفع – صعد – استقر ،وتفسير هؤلاء:
أولاً : مخالف لإجماع السلف الصالح رضوان الله عليهم.
ثانياً : مخالف لظاهر اللفظ في اللغة العربية،فاستوى إذا تعدت بعلى فهي تعني الاستقرار والعلو.
ثالثاً : إذا سلمنا جدلاً بأن استوى تعني استولى،فهذا يعني أن العرش كان مع غيره ثم استولى عليه بعد مصارعة وغلبة!وتلزم بأن الله أيضاً كما أنه استولى على العرش،فكذلك استولى على الجمل،وعلى الأرض ....
رابعاً :هل ثبت سند البيت الشعري وقد ثبتت أسانيد أقوال السلف رضوان الله عليهم؟ومن قائله؟وفي أي زمن وأي عصر وأي مصر؟ونحن نعلم بأن اللسان العربي يتغير بتغير المكان والزمان.
خامساً : لا يلزم استواءه على العرش أن يكون العرش يحمله،لأن الأرض والسماوات والكرسي والعرش قبضته جميعاً كما ثبتت النصوص.
ومن هنا نعلم بأن كلمة "استوى على" تعني علا واستقر وارتفع.
واستوى إلى :قال ابن جرير :"ارتفع إلى"وقال ابن كثير :"الاستواء هنا هو القصد الكامل لأن حرف إلى يفيد الغاية".
استوى الماء والخشب:يعني تساوى الماء والخشب.
استوى مجردة :تعني اكتمل،"ولما بلغ أشده واستوى أعطيناه حكماً وعلماً".
وقال بعضهم:"خلق الله السماوات ثم استوى يستلزم أن الله لم يكن عالياً قبلها"فالجواب: لا،بل يدل على أنه لم يكن مستوياً،فالاستواء أخص من العلو،وعلو الله أزلي قبل العرش وبعده.
وإن قيل:هل كان الله عالياً على العرش قبل خلق العرش؟الجواب:الله أعلم،وفي النهاية،هذه أشياء لم نرها ولم نعاينها،ومن العبث والحماقة أن نجلس ونحاول معرفتها ونشغل عقولنا فيها عن أشياء أهم وأهم وأهم!
صفة العلو ثابتة،حساً ومعنى،ولا نعلم كيفيتها،ومعنى حساً أي بذات الله دون تشبيه،ومعنى معنوية ،أي علو القهر والسيطرة ،وأدلتها أكثر من أن تحصر،ونكتفي بأن فرعون أمر هامان ببناء صرح ليطلع على الله جل في علاه،فإن قال البعض:"إن دعوى أن الله فوق ،تجسيد وتجسيم،قلنا:
أولاً : لا يجوز شرعاً إبطال النصوص بمثل هذا الكلام الفارغ.
ثانياً : لو كان ذكر العلو في القرآن لازماً للتجسيم،فهذا تكذيب صريح للقرآن،فلو سلمنا جدلاً بأن القرآن نصب هذا الفخ لنا،ألا وهو أنه ذكر العلو وهو لا يعني العلو كما فهمه السلف الصالح،فهذا أيضاً إثبات لتكذيب القرآن ،وكمثال على ذلك،اليهود لم يقتلوا المسيح عيسى بن مريم عليه وعلى آمه الصلاة والسلام يقيناً،ولكنهم باءوا بإثم دمه لمجرد نية القتل،فهل ترضون هذا للوحي من أنزله ومن أنزل عليه ومن يتلوه آناء الليل وأطراف النهار!!
ثالثاً:إذا لم يكن فوق،فهو إما مساوِ أو تحت،وإن قالوا،هو ليس فوق ولا مساوِ ولا تحت،قلنا،فأي إله تعبدون! و كيف تفسرون النصوص الكثيرة بأنه فوق ،وأعلى ،وينزل إلى السماء الدنيا ،ويصعد إليه الكلم الطيب ،ونرفع أيدينا إليه في الدعاء،وأين دليلكم على أنه ليس فوق،ولا مساوِ ولا تحت!
رابعاً : قولهم:"من في السماء"ظاهرها أن السماء محيطة بالله أو أنها تحمله فهذا باطل،ويوضحه قوله تعالى:"قل سيروا في الأرض"فهي لا تعني أن نحفر خنادق ونمشي في باطن الأرض،ولا تعني بأن الأرض تحملنا بالضرورة،فمن يعيش في ناطحة سحاب،ومن يركب الطائرة والسيارة،لا تحمله الأرض ولا تحويه!
خامساً : احتجاجهم بالآية :"وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله"باطل أيضاً من وجهين،الأول: مثاله قولنا :"فلان أمير في حلب ودمشق" وربما كان يجلس في حمص،والثاني: الإله هو المعبود كما وضحنا في بداية الموضوع،يعني هو في السماء معبود،وفي الأرض معبود،فهل في هذا إشكال!
وهنا أحب أن أتناول قضية تتعلق بمبحث العلو ألا وهي مسألة وحدة الوجود،
وحدة الوجود مذهب فلسفي لا ديني يقول بأن الله والطبيعة حقيقة واحدة، وأن الله هو الوجود الحق، ويعتبرونه – تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً – صورة هذا العالم المخلوق، أما مجموع المظاهر المادية فهي تعلن عن وجود الله دون أن يكون لها وجود قائم بذاته.
وهو مخالف لعقيدة أهل السنة والجماعة في أن الله مستو على عرشه،بائن عن خلقه.
إن فكرة وحدة الوجود قديمة جداً، فقد كانت قائمة بشكل جزئي عند اليونانيين القدماء، وهي كذلك في الهندوسية الهندية. وانتقلت الفكرة إلى بعض الغلاة من متصوفة المسلمين من أبرزهم: محي الدين بن عربي وابن الفارض وابن سبعين والتلمساني. ثم انتشرت في الغرب الأوروبي على يد برونو النصراني وسبينوزا اليهودي.

يقول ابن عربي : ( العارف من يرى الحق في كل شيء ، بل في كل شيء ، بل يراه عين كل شيء )في كتابه الفتوحات المكية ( 2 / 332 )

ويترتب على هذه العقيدة أمور في غاية الخطورة، وهي أنه لو كان الله والطبيعة شيئا واحدا حاشا لله ،فهذا يستلزم أحد أمرين لاثاني لهما:
إما أن يكون الله متبعضاً (جزء من الله هنا وجزء هناك)
أو أن يكون الله متعدداً (الله في الجبل,الله في العمارة ،الله في المكان كذا)حاشا لله
وسامحوني إذا قلت ان أصحاب هذه العقيدة لم يستثنوا الأماكن (ونستغفرالله)القذرة،حتى أن ابن سبعين كان يتمشى مع تلامذته فأبصر أحدهم كلباً ميتاً فسأل ذلك التلميذ شيخه ابن سبعين"هل الله عين هذا الكلب يا شيخنا"فبهت ابن سبعين،ويؤكد هذا المعنى قول ابن عربي الذي قال عنه الإمام الذهبي رحمه الله(سيد القائلين بوحدة الوجود) يقول : ( ألا ترى الحق يظهر بصفات المحدثات ، وأخبر بذلك عن نفسه ، وبصفات النقص وبصفات الذم ) فصوص الحكم بشرح القشاني ص 84 .
ثم إذا حل الفناء بالوجود "كل من عليها فان"فأين يذهب الله إذا كان متحدا مع الوجود؟؟؟!!!

ومن مستلزمات هذه العقيدة الشنيعة أنه إذا كان الله قد حل في الصنم الفلاني أو البقرة الفلانية أو الضريح الفلاني فلا ضير في عبادتها لأنها والله واحد حاشا لله .
يقول ابن عربي أيضا"إن الحق في كل معبود وجهاً يعرفه من عرفه ، ويجهله من جهله " فصوص الحكم بشرح القاشاني ص 67.
كما أن إيمان ابن عربي بوحدة الوجود يقوده إلى اعتقاد سقوط العبادة عنه ، لأنه وصل للرأي بأن العابد هو المعبود ، والشاكر هو المشكور ، يقول ابن عربي في كتابه الفتوحات المكية ( 6/236 ):
الرب حق والعبد حق ...ياليت شعري من المكلف
إن قلت عبد فذاك ميت ... أو قلت رب أنى يكلف

والسؤال :أين موطن هذه العقيدة بين الموحدين؟
الجواب :يقول أحد الشعراء:
الله ربي لا أريد سواه....هل في الوجود حقيقة إلاه

ولننظر إلى الشطر الثاني ،إذا كان الله حقيقة فماذا عن الأنبياء ،والجنة والنار و....الخ؟
إذا كانت وهما فهذا القول كفر والعياذ بالله.
وإذا قلنا أنها حقيقة مستمدة وجودها من الله وقعنا في مصيبة وحدة الوجود.
ويقول شاعر آخر:ألا كل شيء ماخلا الله باطل......وكل نعيم لا محالة زائل
للنظر إلى الشطر الأول ،إذا كان كل ماخلا الله باطل فماذا عن رسل الله صلوات الله وسلامه عليهم؟والجنة والنار ويوم الحساب و و....الأمر واضح إن شاء الله
وأما عن علاقة الحلول بوحدة الوجود،فالحلول عام وخاص،وحاشا لله،من قال بأن الله حل في كل شيء،فهذا حلول عام،وهو عين وحدة الوجود،ومن قال بأن الله حل في شخص معين مثل علي رضي الله عنه وأرضاه فهذا حلول خاص وهو المقصود بكلمة حلول عندما تذكر مجردة في الغالب،وخلاصة قولنا،نحن أهل السنة والجماعة نعتقد بأن الله مستوٍ على عرشه،بائن عن خلقه،علواً واستواءاً يليق بمقام ربوبيته ولا نعلم كيفيته ولا تجسيم،و إثبات صفة العلو حساً ومعنى من كمال الله ،حتى في الجيش عندما يقال لجندي:"الأوامر تأتي من فوق" لا يستطيع تجاوزها لو أمره برمي نفسه إلى الموت فكيف بعلو الله سبحانه وتعالى!
وهنا إشكال عند الكثير من الناس يستحون من سؤال أحد عليه،ألا وهو أن من يعيش في القطب الشمالي يرفع يديه إلا فوق،و من يعيش في القطب الجنوبي أيضاً يرفع يديه إلى فوق،ونحن نعلم أن علو الله ثابت بالحس والمعنى،فما تأويل ذلك؟الجواب:أولاً:"والله بكل شيء محيط"لكن دون تكييف ولا تجسيم،وثانياً:في فصل الصيف،عندما تسأل الذي يعيش في القطب الشمالي :"أين موضع الشمس وقت الظهيرة حسب توقيتك؟"فسيقول لك:"إنها فوقي تماماً"يعني الشمس بالنسبة له علو حساً ومعنى،والقطب الجنوبي بالنسبة له دنو،وكذلك الأمر بالنسبة لمن يعيش في القطب الجنوبي،الشمس في وقت الظهيرة بالنسبة له علو،والقطب الجنوبي بالنسبة له دنو،ونعيد ونكرر ونقول،دون تشبيه للخالق بالمخلوقات،ولله المثل الأعلى وإنما للتوضيح.
وصفة الكلام أيضاً ،والله يتكلم بكلام حقيقي متى شاء ،بم شاء،كيف شاء،وبأي لغة شاء،بحرف وصوت لا يشبه كلام المخلوقين ولا أصواتهم،وقوله تعالى:"وتمت كلمة ربك صدقاً وعدلاً"الصدق في الأخبار،والعدل في الأحكام.
قال المعتزلة:"الله يتكلم بحرف وصوت مسموع متعلق بمشيئته لكنه مخلوق".
قال الأشاعرة:"كلام الله ليس حرفاً ولا صوتاً ولا يتعلق بمشيئته بل هو من صفاته اللازمة كالحياة والعلم والذي يسمعه نبي الله موسى عليه الصلاة والسلام أصوات يخلقها الله ،وحروف يخلقها الله أيضاًَ ليعبر بها عن نفسه وهذا يشمل حتى القرآن والتوراة والإنجيل على حد زعمهم،وقولهم فاسد،والسبب ببساطة هو أن الكلام يضاف لمن يقوله ابتداءاً لا نقلاً وإن كان رسولاً،فلا يقال لمن ينشد أبياتاً لأحمد شوقي بأنه صاحبها ومؤلفها إلا إذا أراد أن يغش الناس ويخدعهم ويكذب عليهم!
الدليل على أن الكلام باعتبار آحاده صفة فعلية طارئة،هي أن الله كلم موسى عليه الصلاة والسلام بعد أن خلقه وهرب من فرعون،والدليل على أن الله يتكلم بحرف وصوت،هو قوله تبارك وتعالى:"وناديناه من جانب الطور الأيمن وقربناه نجياً" ... يتبع



</b></i>