الشبهة الثالثة و الخمسون (53):
- إن رِدَّة عبد الله بن أبى السرح تدل على أن القرآن اجتهاد بشرى, لأنه كان يكتب القرآن لمحمد, فأكمل من عنده آية, فوجدها مثل ما قالها له محمد, فعلم أنه من تأليفه, وارتد لهذا السبب.

الرد:

- إن عبد الله بن أبى السرح - رضي الله عنه - كان يكتب الوحى لرسول الله – صلى الله عليه وسلم - وذات مرة كان الرسول – صلى الله عليه وسلم - يُمْلى عليه قول الله تبارك وتعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ{12} ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ{13} ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ} [المؤمنون:12-14] فأُعجِبَ عبد الله بهذا الكلام, فقال: {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} فأمره الرسول – صلى الله عليه وسلم - أن يكتبها كما قالها, لأنها هكذا نزلت, فشكَّ عبد الله فى القرآن, وظن أنه من عند سيدنا محمد – صلى الله عليه وسلم - فارتد عن الإسلام, وفَرَّ إلى مكة, وقد كان الرسول – صلى الله عليه وسلم - يعلم نهاية الآية قبل أن ينطق بها عبد الله, فلم يأخذها منه, ولكنها وافقت قوله, وقد حدث مثل هذا الأمر مع عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فى عدة مواقف, ولكنه لم يرتد كما ارتد عبد الله. فمثلاً: عندما استشار الرسول – صلى الله عليه وسلم - أبا بكر وعمر فى أُسارى بدر, فأشار عليه أبو بكر - رضي الله عنه - بقبول الفِديَة, وأشار عليه عمر بقتلهم, فوافق القرآن قول عمر - رضي الله عنه - ووافقه فى فرض الحجاب على النساء, وعلى القول الفصل فى تحريم الخمر, وقد كان كُتّاب الوحى سبعة, والصحابة بالآلاف, ولم يرتد منهم أحد, فليس معنى موافقة القرآن لقول عبد الله أن القرآن من تأليف سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم - فإن الإنسان بفطرته يعلم كثيراً من الحلال والحرام بغير وحى من السماء, كما نرى ذلك فى بعض البلدان الشيوعية أو البوذية التى تحرم القتل والزنى والسرقة وغير ذلك من المنكرات. ثم إن عبد الله رجع إلى الإسلام بعد فتح مكة, وحَسُنَ إسلامه, واستعمله أبو بكر وعمر بعد موت الرسول – صلى الله عليه وسلم - , والله أعلم.



الشبهة الرابعة والخمسون (54):
- هل كفر عمر بن الخطاب حين أقسم أن هناك آية للرجم يُعمَلُ بها, ولم تُكتَب فى المصحف, لأن هناك غَنَمَة أكلت صحيفة من صُحُف القرآن - كما جاء فى الحديث الذى روته عائشة - أم أن القرآن أخطأ حين قال: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}؟

الرد:
- إن عمر بن الخطاب لم يكفر - وحاشاه - حين قال ما معناه: (لولا أن يقال إنى زدتُ فى المصحف لكتبتُ آية الرجم على هامشه) ولم يخطئ القرآن حين قال: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9] إن آية الرجم التى يقصدها عمر هى {الشيخ والشيخة إذا زَنَيَا فارجموهما البتَّة} وقد كانت من الآيات التى نُسِخَت تلاوة وبَقِيَت حُكماً (كما أشرنا إلى ذلك فى الشبهة رقم 31) وقد عمل الرسول بهذه الآية, وعمل بها من بعده الخلفاء الراشدون ومَن بعدَهم من السلف الصالح, وقد قال عمر قولته هذه خشية أن يُترَكَ العمل بها, فأراد أن يكتبها على الهامش ليُذكِّر الناس بها, ولم يُرِد أن يكتبها فى صُلب نصوص القرآن لعلمه بنسخها, وإلا- فلماذا لم يُشِر على زيد ابن ثابت أن يكتبها فى المصحف, وهو الذى أشار على أبى بكر بتدوين القرآن فى مصحف واحد, عندما قتل سبعون من الحفظة فى حرب الردة؟ وفى بادئ الأمر رفض أبو بكر الفكرة, لأن الرسول لم يفعلها, ولكن مع إلحاح عمر عليه قَبِلها, وأمر زيد بن ثابت بجمع القرآن وجعله فى مصحف واحد, وكان زيد لا يقبل أى آية إلا إذا شهد بها اثنان علىالأقل من الصحابة , فلم يثبت قط أن عمر بن الخطاب عرض هذه الآية عليه, بغض النظر هل كان زيد سيجد شاهداً عليها أم لا. وبفرض أن الداجن أكلت ما فى الصحيفة, وكان فيها آية الرجم, فهل هذا يعنى أنها كانت الصحيفة الوحيدة التى لا مثيل لها فى بيوت الصحابة ؟ لقد كان القرآن فى صدورهم, ومدوَّن على اليعاسيب وسعف النخيل والأكتاف والرقاع, وبهذا كان القرآن محفوظاً فى الصدور والسطور, وما فى الصدور كان أقوى مما فى السطور, فهل كان عمر هو الوحيد الذى يعلم هذه الآية؟ لقد كانوا يعلمونها, ولكنهم كانوا يعلمون بنسخها, وبقاء حكمها (موضوع الداجن التى أكلت الصحيفة تم الرد عليه فى الشبهة رقم (62) ولله الحمد والمنَّة), والله أعلم.



الشبهة الخامسة و الخمسون (55):
- إن القرآن يعترف بأن اليهود والنصارى على حق, فيقول: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة:62] ويقول: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالصَّابِؤُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وعَمِلَ صَالِحاً فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} [المائدة:69]

الرد:
- إن أرجح الأقوال فى الصابئين أنهم عُبّاد النجوم, فهل من يعبد النجوم يؤمن بالله واليوم الآخر؟ وهل له منهج ليعمل صالحاً؟ إن معنى الآيات الكريمة هو فتح باب التوبة لكل هؤلاء أن يؤمنوا بالله ورسوله – صلى الله عليه وسلم - ويعملوا صالحاً. فلم يَرِد فى القرآن الكريم كله ذكر {الَّذِين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ} إلا بمعنى الإيمان بالله ورسوله محمد – صلى الله عليه وسلم - , والعمل الصالح هو ما وافق هديه – صلى الله عليه وسلم - , حتى لو أن أحد المسلمين عمل عملاً يظن أنه صالح, ولكنه لم يوافق هديه – صلى الله عليه وسلم - فلن يقبل منه, كأن يصلى العشاء خمس ركعات, أو يحج فى شهر رجب, أو يصوم إلى العصر... إلخ. : {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [آل عمران:31] فشرط قبول أى عمل أن يكون موافقاً لهدى النبى – صلى الله عليه وسلم - وأن يكون خالصاً لوجه الله الكريم {فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} [الكهف:110] {عَمَلاً صَالِحاً} هو ما وافق هدى النبى – صلى الله عليه وسلم - {وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} هو الإخلاص لله فى هذا العمل, قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم - : ((من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رَدّ)) [صحيح الجامع:6398] ((فهو رد)) أى مردود عليه غير مقبول. وقد مر عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - على حَبر من أحبار اليهود, فوجده على حاله من الهزال والشحوب, مما أصابه من كثرة العبادة, فبكى عليه, وتلا قوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ{2} عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ{3} تَصْلَى نَاراً حَامِيَةً} [الغاشية:2-4] لأن كل عبادته لن تنفعه, طالما أنه لم يؤمن بالرسول – صلى الله عليه وسلم - . وقد ضربنا لذلك مثلاً بالطالب الذى عنده امتحان لغة عربية, وظَلَّ يذاكر طوال العام مادة أخرى, كالكيمياء أو غيرها, هل ينجح فى الاختبار؟ أو المسافر الذى تعب واجتهد فى إصلاح سيارته, ثم اتجه بها إلى طريق خاطئ, وهو يظن أنه سيوصله لغايته, ولكن هيهات هيهات, لقد ضلَّ الطريق منذ البداية, فأنَّى له الوصول فى النهاية؟, والله أعلم.


يتبع