- الوجه الخامس ان هذه الاية تضمنت ان العفو عن المنافق اذا اظهر النفاق وتاب او لم يتب فذلك منسوخ بقوله تعالى ^ جاهد الكفار والمنافقين ^ كما اسلفناه وبيناه # ويؤيده انه قال ^ ان نعف ^ ولم يقل يتب وسبب النزول يؤيد ان النفاق ثبت عليهم ولم يعاقبهم النبي وذلك كان في غزوة تبوك قبل ان تنزل براءة وفي عقبها نزلت سورة براءة فامر فيها بنبذ العهود إلى المشركين وجهاد الكفار والمنافقين ونهى فيها عن الصلاة عليهم فلم يظهر أحد بعدها نفاقا # واما قوله ^ جاهد الكفار والمنافقين ^ الايتين # فالجواب عما احتج به منها من وجوه
- احدها انه سبحانه وتعالى انما ذكر انهم قالوا كلمة الكفر وهموا بما لم ينالوا وليس في هذا ذكر للسب والكفر اعم من السب ولا يلزم من ثبوت الاعم ثبوت الاخص لكن فيما ذكر من سبب نزولها ما يدل على انها نزلت فيمن سب فيبطل هذا # الوجه الثاني انه سبحانه وتعالى انما عرض التوبة على الذين يحلفون بالله ما قالوا وهذا حال من انكر ان يكون تكلم بكفر وحلف على انكاره فاعلم الله نبيه انه كاذب في يمينه وهذا كان شان كثير ممن يبلغ النبي عنه الكلمة من النفاق ولا تقوم عليه به بينة ومثل هذا لا يقام عليه حد اذ لم يثبت عليه في الظاهر شيء والنبي انما يحكم في الحدود ونحوها بالظاهر والذي ذكروه في سبب نزولها من الوقائع كلها انما فيه ان النبي اخبره بما قالوا مخبر واحد اما حذيفه او عامر بن قيس او زيد بن ارقم او غير هؤلاء او انه اوحي اليه
بحالهم وفي بعض التفاسير ان المحكي عنه هذه الكلمة الجلاس بن سويد اعترف بانه قالها وتاب من ذلك من غير بينه قامت عليه فقبل رسول الله ذلك منه وهذا كله دلالة واضحة على ان التوبة من مثل هذا مقبولة وهي توبة من لم يثبت عليه نفاق وهذا لا خلاف فيه اذا تاب فيما بينه وبين الله سرا كما نافق سرا انه تقبل توبته ولو جاء مظهرا لنفاقه المتقدم ولتوبته منه من غير ان تقوم عليه بينه بالنفاق قبلت توبته ايضا على القول المختار كما تقبل توبة من جاء مظهرا للتوبة من زنى او سرقة لم يثبت عليه على الصحيح واولى من ذلك واما من ثبت نفاقه بالبينه فليس فالاية ولا فيما ذكر من سبب نزولها ما يدل على قبول توبته بل ليس في نفس الاية ما يدل على ظهور التوبة بل يجوز ان يحمل على توبته فيما بينه وبين الله فان ذلك نافعه وفاقا وان اقيم عليه الحد كما قال سبحانه ^ والذين اذا فعلوا فاحشة او ظلموا انفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب الا الله ^
و^ ومن يعمل سوءا او يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما ^ و
^ ياعبادي الذين اسرفوا على انفسهم لا تقنطوا من رحمة الله ان الله يغفر الذنوب جميعا ^ و
^ الم يعلموا ان الله هويقبل التوبة عن عباده ^ و
^ غافر الذنب وقابل التوب ^ إلى غير ذلك من الايات مع ان هذا لا يوجب ان يسقط الحد الواجب بالبينة عمن اتى فاحشة موجبة للحد او ظلم نفسه بشرب او سرقة فلو قال من لم يسقط الحد عن المنافق سواء ثبت نفاقه ببينه او اقرار ليس في الاية ما يدل على سقوط الحد عنه لكان لقوله مساغ # الوجه الثالث انه قال سبحانه وتعالى ^ جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم ^ إلى قوله ^ يحلفون بالله ما قالوا ^ الاية وهذا تقرير لجهادهم وبيان لحكمته واظهار لحالهم المقتضي لجهادهم فان ذكر الوصف المناسب بعد الحكم يدل على انه علة له وقوله ^ يحلفون بالله ما قالوا ^ وصف لهم وهو منا سب لجهادهم فان كونهم يكذبون في ايمانهم ويظهرون الايمان ويبطنون الكفر موجب
للاغلاظ عليهم بحيث لايقبل منهم ولا يصدقون فيما يظهرونه من الايمان بل ينتهرون ويرد ذلك عليهم # وهذا كله دليل على انه لا يقبل ما يظهره من التوبة بعد اخذه اذ لا فرق بين كذبه فيما يخبر به عن الماضي انه لم يكفر وفيما يخبره من الحاضر انه ليس بكافر فاذا بين سبحانه وتعالى من حالهم ما يوجب ان لا يصدقوا وجب ان لا يصدق في اخباره انه ليس بكافر بعد ثبوت كفره بل يجري عليه حكم قوله تعالى ^ والله يشهد ان المنافقين لكاذبون لكن بشرط ان يظهر كذبه فيها فاما بدون ذلك فانا لم نامر ان ننقب عن قلوب الناس ولا نشق بطونهم وعلى هذا فقوله تعالى ^ فان يتوبوا يك خيرا لهم ^ اي قبل ظهور النفاق وقيام البينه به عند الحاكم حتى يكون للجهاد موضع وللتوبة موضع والا فقبول التوبة الظاهرة في كل وقت يمنع الجهاد لهم بالكلية # الوجه الرابع انه سبحانه وتعالى قال بعد ذلك ^ وان يتولوا يعذبهم الله عذابا اليما في الدنيا والاخرة ^ وفسر ذلك في قوله تعالى ^ ونحن نتربص بكم ان يصيبكم الله بعذاب من عنده او بايدينا ^ وهذا يدل على ان هذه التوبة قبل ان نتمكن من تعذيبهم بايدينا لان من تولى عن التوبة حتى اظهر النفاق وشهد عليه به واخذ فقد تولى عن التوبة التي عرضها الله عليه فيجب ان يعذبه الله عذابا اليما
في الدنيا والقتل عذاب اليم فيصلح ان يعذب به لان المتولى ابعد احواله ان يكون ترك التوبة إلى ان يتركه الناس لانه لو كان المراد به تركها إلى الموت لم يعذب في الدنيا لان عذا ب الدنيا قد فات فلا بد ان يكون التولي ترك التوبة وبينه وبين الموت مهل يعذبه الله فيه كما ذكره سبحانه فمن تاب بعد ان اخذ ليعذب فهو ممن لم يتب قبل ذلك بل تولى فيستحق ان يعذبه الله عذابا اليما في الدنيا والاخرة ومن تامل هذه الاية والتي قبلها وجدهما دالتين على ان التوبة بعد اخذه لا ترفع عذاب الله عنه # واما كون هذه التوبة مقبولة فيما بينه وبين الله وان تضمنت التوبة من عرض الرسول فنقول اولا وان كان حق هذا الجواب ان يؤخر إلى المقدمة الثانية هذا القدر لا يمنع اقامة الحد عليه اذا رفع الينا ثم اظهر التوبة بعد ذلك كما ان الزاني والشارب وقاطع الطريق اذا تاب فيما بينه وبين الله قبل ان يرفع الينا قبل الله توبته واذا اطلعنا عليه ثم تاب فلا بد من اقامة الحد عليه ويكون ذلك من تمام توبته وجميع الجرائم من هذا الباب # وقد يقال ان المنتهك لاعراض الناس اذا استغفر لهم ودعا لهم قبل ان يعلموا بذلك رجي ان يغفر الله له على ما في ذلك من الخلاف
المشهور ولو ثبت ذلك عليه عند السلطان ثم اظهر التوبة لم تسقط عقوبته وذلك ان الله سبحانه لابد ان يجعل للمذنب طريقا إلى التوبة فاذا كان عليه تبعات للخلق فعليه ان يخرج منها جهده ويعوضهم عنها بما يمكنه ورحمة الله من وراء ذلك ثم ذلك لا يمنع ان نقيم عليه الحد اذا ظهرنا عليه ونحن انما نتكلم في التوبة المسقطة للحد والعقوبة لا في التوبة الماحية للذنب # ثم نقول ثانيا ان كان ما اتاه من السب قد صدر عن اعتقاد يوجبه فهو بمنزلة ما يصدر من سائر المرتدين وناقضي العهد من سفك دماء المسلمين واخذ اموالهم وانتهاك اعراضهم فانهم يعتقدون في المسلمين اعتقادا يوجب اباحة ذلك ثم اذا تابوا توبة نصوحا من ذلك الاعتقاد غفر لهم موجبه المتعلق بحق الله وحق العباد كما يغفر للكافر الحربي موجب اعتقاده اذا تاب منه مع ان المرتد او الناقض متى فعل شيئا من ذلك قبل الامتناع اقيم عليه حده وان عاد إلى الإسلام سواء كان لله او لادمي فيحد على الزنى والشرب وقطع الطريق وان كان في زمن الردة ونقض العهد يعتقد حل ذلك الفرج لكونه وطئه
بملك اليمين اذا قهر مسلمة على نفسها ويعتقد حل دماء المسلمين واموالهم كما يؤخذ منه القود وحد القذف وان كان يعتقد حلهما ويضمن ما اتلفه من الاموال وان اعتقد حلها # والحربي الاصل لا يؤخذ بشيء من ذلك بعد الإسلام وكان الفرق ان ذاك كان ملتزما بايمانه وامانه ان لايفعل شيئا من ذلك فاذا فعله لم يعذر بفعله بخلاف الحربي الاصل ولان في اقامة هذه الحدود عليه زجرا له عن فعل هذه الموبقات كما فيها زجر للمسلم المقيم على إسلامه بخلاف الحربي الاصل فان ذلك لا يزجره بل هو منفر له عن الإسلام ولان الحربي الاصل ممتنع وهذان ممكنان # وكذلك قد نص الإمام احمد على ان الحربي اذا زنى بعد الاسر اقيم عليه الحد لانه صار في ايدينا كما ان الصحيح عنه وعن أكثر اهل العلم ان المرتد اذا امتنع لم تقم عليه الحدود لانه صار بمنزلة الحربي اذ
الممتنع يفعل هذه الاشياء باعتقاد وقوة من غير زاجر له ففي اقامة الحدود عليهم بعد التوبة تنفير واغلاق لباب التوبة عليهم وهو بمنزلة تضمين اهل الحرب سواء وليس هذا موضع استقصاء هذا وانما نبهنا عليه واذا كان هذا هنا هكذا فالمرتد والناقض اذا اذيا الله ورسوله ثم تابا من ذلك بعد القدرة توبة نصوحا كانا بمنزلتهما اذا حاربا باليد في قطع الطريق او زنيا وتابا بعد اخذهما وثبوت الحد عليهما ولا فرق بينهما وذلك لان الناقض للعهد قد كان عهده يحرم عليه هذه الامور في دينه وان كان دينه المجرد عن عهد يبيحها له # وكذلك المرتد قد كان يعتقد ان هذه الامور محرمة فاعتقاده اباحتها اذا لم يتصل به قوة ومنعه ليس عذرا له في ان يفعلها لما كان ملتزما له من الدين الحق ولما هو به من الضعف ولما في سقوط الحد عنه من الفساد وان كان السب صادرا عن غير اعتقاد بل سبه مع اعتقاد نبوته او سبه باكثر مما يوجبه اعتقاده او بغير ما يوجبه اعتقاده فهذا من أعظم الناس كفرا بمنزلة ابليس وهو من نوع العناد او السفه وهو بمنزلة من شتم بعض المسلمين او قتلهم وهو يعتقد ان دمائهم واعراضهم حرام # وقد اختلف الناس في سقوط حد المشتوم بتوبة الشاتم قبل العلم به سواء كان نبيا اوغيره فمن اعتقد ان التوبة لا تسقط حق الادمي له ان يمنع هنا ان توبة الشاتم في الباطن صحيحة على الاطلاق وله ان
يقول ان النبي ان يطالب هذا بشتمه مع علمه بأنه حرام كسائر المؤمنين لهم ان يطالبوا شاتمهم وسابهم بل ذلك اولى وهذا القول قوي في القياس وكثير من الظواهر تدل عليه # ومن قال هذا من باب السب والغيبة ونحوهما مما يتعلق باعراض الناس وقد فات الاستحلال فليأت للمشتوم من الدعاء والاستغفار بما يزن حق عرضه ليكون ما ياخذه المظلوم من حسنات هذا بقدر ما دعا له واستغفر فيسلم له سائر عمله فكذلك من صدرت منه كلمة سب
او شتم فليكثر من الصلاة والتسليم ويقابلها بضدها فمن قال ان ذلك يوجب قبول التوبة ظاهرا وباطنا ادخله في قوله تعالى ^ ان الحسنات يذهبن السيئات ^ واتبع السيئة الحسنة تمحها ومن قال لا بد من القصاص قال قد اعد له من الحسنات ما يقوم بالقصاص وليس لنا غرض في تقرير واحد من القولين هنا وانما الغرض ان الحد لا يسقط بالتوبة لانه ان كان عن اعتقاد فالتوبة منه صحيحة مسقطة لحق الرسول في الاخرة وهي لاتسقط الحد عنه في الدنيا كما تقدم وان كانت من غير اعتقاد ففي سقوط حق الرسول بالتوبة خلاف
- فان قيل لا يسقط فلا كلام وان قيل يسقط الحق ولم يسقط الحد كتوبة الاول واولى فحاصله ان الكلام في مقامين # احدهما ان هذه التوبة اذا كانت صحيجة نصوحا فيما بينه وبين الله هل يسقط معها حق المخلوق وفيه تفصيل وخلاف فان قيل لم يسقط فلا كلام وان قيل يسقط فسقوط حقه بالتوبة كسقوط حق الله بالتوبة فتكون كالتوبة من سائر انواع الفساد وتلك التوبة اذا كانت بعد القدرة لم تسقط شيئا من الحدود وان محت الاثم في الباطن # وحقيقة هذا الكلام ان قتل الساب ليس لمجرد الردة ومجرد عدم العهد حتى تقبل توبته كغيره بل لردة مغلظة ونقض مغلظ بالضرر ومثله لا يسقط موجبه بالتوبة لانه من محاربة الله ورسوله والسعي في الارض فسادا او هو من جنس الزنى والسرقة او هو من جنس القتل والقذف فهذه حقيقة الجواب وبه يتبين الخلل فيما ذكر من الحجة # ثم نبينه مفصلا فنقول اما قولهم ان ما جاء به من الايمان به ماح لما اتى به من هتك عرضه فنقول ان كان السب مجرد موجب اعتقاد فالتوبة من الاعتقاد توبة من موجبه واما من زاد على موجب الاعتقاد او اتى بضده وهم أكثر السابين فقد لا يسلم ان ما ياتي به من التوبة ماح الا بعد عفوه بل يقال له المطالبة وان سلم ذلك فهو كالقسم الاول وهذا القدر لا يسقط الحدود كما تقدم غير مرة
- واما قولهم حقوق الانبياء من حيث النبوة تابعة لحق الله في الوجود فتبعته في السقوط فنقول هذا مسلما ان كان السب موجب اعتقاد والا ففيه الخلاف واما حقوق الله فلا فرق في باب التوبة بين ما موجبه اعتقاد او غير اعتقاد فان التائب من اعتقاد الكفر وموجباته والتائب من الزنى سواء ومن لم يسو بينهما قال ليست أعظم من حق الله اذا لم يسقط في الباطن بسقوطه ولكن الامر إلى مستحقها ان شاء جزى وان شاء عفا ولم يعلم بعد ما يختاره الله سبحانه قد اعلمنا انه يغفر لكل من تاب # وايضا فان مستحقها من جنس تلحقهم المضرة والمعرة بهذا ويتألمون به فجعل الامر اليهم والله سبحانه وتعالى انما حقه راجع إلى مصلحة المكلف خاصة فانه لا ينتفع بالطاعة ولا يستضر بالمعصية فاذا عاود المكلف الخير فقد حصل ما اراده ربه منه فلما كان الانبياء عليهم السلام فيهم نعت البشر ولهم نعت النبوة صار حقهم له نعت حق الله ونعت حق سائر العباد وانما يكون حقهم مندرجا في حق
الله اذا صدر عن اعتقاد فانهم لما وجب الايمان بنبوتهم صار كالايمان بوحدانية الله فاذا لم يعتقد معتقد نبوتهم كان كافرا كما اذا لم يقر بوحدانية الله وصار الكفر بذلك كفرا برسالات الله ودينه وغير ذلك فاذا كان السب موجب هذا الاعتقاد فقط مثل نفي الرسالة او النبوة ونحو ذلك وتاب منه توبة نصوحا قبلت توبته كتوبة المثلث واذا زاد على ذلك مثل قدح في نسب او وصف لمساوي الاخلاق او فاحشة او غير ذلك مما يعلم هو انه باطل او لا يعتقد صحته او كان مخالفا للاعتقاد مثل ان يحسد او يتكبر او يغضب لفوات غرض او حصول مكروه مع اعتقاد النبوة فيسب فهنا اذا تاب لم يتجدد له اعتقاد ازال موجب السب انما غير نيته وقصده وهو قد اذاه بهذا السب اذى يتالم به البشر ولم يكن معذورا بعدم اعتقاد النبوة فهو كحق الله من حيث جنى على النبوة التي هي السبب الذي بين الله وبين خلقه فوجب قتله وهو كحق البشر من حيث انه اذى ادميا يعتقد انه لا يحل اذاه فلذلك كان له ان يطالبه بحق اذاه وان ياخذ من حسناته بقدر اذاه وليست له حسنة تزن ذلك الا ما يضاد السب من الصلاة والتسليم ونحوهما وبهذا يظهر ان التوبة من سب صدر عن غير اعتقاد من الحقوق التي تجب للبشر على البشر ثم هو حق متعلق بالنبوة لا محاله فهذا قول هذا القائل وان كنا لم نرجح واحدا من القولين
- ثم اذا كانت حقوقهم تابعة لحق الله فمن الذي قال ان حقوق الله تسقط على المرتد وناقض العهد بالتوبة فانا قد بينا ان هؤلاء تقام عليهم حدود الله بعد التوبة وانما تسقط بالتوبة عقوبة الردة المجردة والنقض المجرد وهذا ليس كذلك # واما قوله ان الرسول يدعوا الناس إلى الايمان به ويخبرهم ان الايمان يمحو الكفر فيكون قد عفا لمن كفر عن حقه فنقول هذا جيد اذا كان السب موجب الاعتقاد فقط لانه هو الذي اقتضاه ودعاه إلى الايمان به فانه من ازال اعتقاد الكفر به باعتقاد الايمان به زال موجبه اما من زاد على ذلك وسبه بعد ان امن به او عاهده فلم يلتزم ان يعفو عنه وقد كان له ان يعفو وله أن الا يعفو والتقدير المذكور في السؤال انما يدل على سب اوجبه الاعتقاد ثم زال باعتقاد الايمان لانه هو الذي كان يدعو اليه الكفر وقد زال بالايمان واما ما سوى ذلك فلا فرق بينه وبين سب سائر الناس من هذه الجهة وذلك أن الساب ان كان حربيا فلا فرق بين سبه للرسول او لواحد من الناس من هذه الجهة وان كان مسلما او ذميا فاذا سب الرسول سبا لا يوجبه اعتقاده فهو كما لو سب غيره من الناس فان تجدد الإسلام منه كتجدد التوبة منه يزعه عن هذا الفعل وينهاه عنه وان لم يرفع موجبه فان موجب هذا السب لم يكن الكفر به اذ كلامنا في سب لا يوجبه الكفر به مثل فريه عليه يعلم انها فرية ونحو ذلك لكن اذا اسلم الساب فقد عظم في قلبه عظمة تمنعه ان يفتري عليه كما انه اذا تاب من سب المسلم عظم الذنب في قلبه عظمة تمنعه من مواقعته وجاز ان لا يكون هذا الإسلام وازعا لكون موجب السب
كان شيئا غير الكفر وقد يضعف هذا الإسلام عن دفعه كما تضعف هذه التوبة عن موجب الاذى وفرق بين ارتفاع الامر بارتفاع سببه او بوجود ضده فان ما اوجبه الاعتقاد اذا زال الاعتقاد زال سببه فلم يخش عوده الا بعود السبب وما لم يوجبه الاعتقاد من الفرية ونحوها على النبي وغيره يرفعها الإسلام والتوبة رفع الضد للضد اذ اعتقاد قبح هذا الامر وسوء عاقبته والعزم الجازم على فعل ضده وتركه ينافي وقوعه لكن لو ضعف هذا الدافع عن مقاومة السبب المقتضي عمل عمله فهذا يبين انه لافرق في الحقيقة بين ان يتوب من سب لم يوجبه مجرد الكفر بالايمان به الموجب لعدم ذلك السب وبين ان يتوب من سب مسلم بالتوبة الموجبه لعدم ذلك السب # واعتبر هذا برجل له غرض في امر فزجر عنه وقيل له هذا قد حرمه النبي فلا سبيل اليه فحمله فرط الشهوة وقوة الغضب لفوات المطلوب على ان لعن وقبح فيما بينه وبين الله مع انه لايشك في النبوة ثم انه جدد إسلامه وتاب وصلى على النبي ولم يزل باكيا من كلمته ورجل اراد ان ياخذ مال مسلم بغير حق فمنعه منه فلعن وقبح سرا ثم انه تاب من هذا واستغفر لذلك الرجل ولم يزل خائفا من كلمته اليست توبة هذا من كلمته كتوبة هذا من كلمته وان كانت توبة هذا يجب ان تكون أعظم لعظم كلمته لكن نسبة هذه إلى هذه كنسبة هذه إلى هذه بخلاف من انما يلعن ويقبح من يعتقده كذابا ثم
يتبين له انه كان ضالا في ذلك الاعتقاد وكان في مهواة التلف فتاب ورجع من ذلك الاعتقاد توبة مثله فانه يندرج فيه جميع ما اوجبه # ومما يقرر هذا ان النبي كان اذا بلغه سب مرتد او معاهد سئل ان يعفو عنه بعد الإسلام ودلت سيرته على جواز قتله بعد إسلامه وتوبته ولو كان مجرد التوبة يغفر لهم بها ما في ضمنها مغفرة تسقط الحد لم يجز ذلك فعلم انه كان يملك العقوبة على من سبه بعد التوبة كما يملكها غيره من المؤمنين # فهذا الكلام في توبة الساب فيما بينه وبين الله هل تسقط حق الرسول أم لا وبكل حال سواء اسقطت أم لم تسقط لا يقتضي ذلك ان اظهارها مسقط للحد الا ان يقال هو مقتول لمحض الردة او محض نقض العهد فان توبة المرتد مقبولة وإسلام من جرد نقض العهد مقبول مسقط للقتل # وقد قدمنا فيما مضى بالادلة القاطعة ان هذا مقتول لردة مغلظة ونقض مغلظ بمنزلة من حارب وسعى في الارض فسادا
- ثم من قال يقتل حقا لادمي قال العقوبة اذا تعلق بها حقان حق لله وحق لادمي ثم تاب سقط حق الله وبقي حق الادمي من القود وهذا التائب اذا تاب سقط حق الله وبقي حق الادمي # ومن قال يقتل حدا لله قال هو بمنزلة المحارب وقد يسوى بين من سب الله وبين من سب الرسول على ما سياتي ان شاء الله تعالى # وقولهم في المقدمة الثانية اذا اظهر التوبة وجب ان نقبلها منه قلنا هذا مبني على ان هذه التوبة مقبولة مطلقا وقد تقدم الكلام فيه # ثم الجواب هنا من وجهين # احدهما القول بموجب ذلك فانا نقبل منه هذه التوبة ونحكم بصحة إسلامه كما نقبل توبة القاذف ونحكم بعدالته ونقبل توبة السارق وغيرهم لكن الكلام في سقوط القتل عنه ومن تاب بعد القدرة عليه لم يسقط عنه شئ من الحدود الواجبة لقدر زائد على الردة او النقض ومن تاب قبلها لم تسقط عنه حقوق العباد اذا قبلنا توبته فمن تمام توبته ان يطهر باقامة الحد عليه كسائر هؤلاء وذلك انا نحن
لاننازع في صحة توبته ومغفرة الله له مطلقا فان ذلك إلى الله وانما الكلام هل هذه التوبة مسقطة للحد عنه وليس في الحديث ما يدل على ذلك فانا قد نقبل إسلامه وتوبته ونقيم عليه الحد تطهيرا له وهذا جواب من يقتله حدا محضا مع الحكم بصحة إسلامه # الثاني ان هذا الحديث في قبول الظاهر اذا لم يثبت خلافه بطريق شرعي وهنا قد ثبت خلافه وهذا الجواب من يقتله لزندقته وقد يجيب به من يقتل الذمي ايضا بناء على انه زنديق في حال العهد فلا يوثق بإسلامه # واما إسلام الحربي والمرتد ونحوهما عند معاينة القتل فانما جاز لانا انما نقاتلهم لان يسلموا ولا طريق إلى الإسلام الاما يقولونه بالسنتهم فوجب قبول ذلك منهم وان كانوا في الباطن كاذبين والا لوجب قتل كل كافر اسلم او لم يسلم فلا تكون المقاتلة حتى يسلموا بل يكون القتال دائما وهذا باطل ثم انه قد يسلم الان كارها ثم ان الله يحبب اليه الايمان ويزينه في قلبه كذلك أكثر من يسلم لرغبته في المال ونحوه او لرهبته من السيف ونحوه ولا دليل يدل على فساد الا كونه مكرها عليه بحق وهذا لا يلتفت اليه # اما هنا فانما نقتله لما مضى من جرمه من السب كما نقتل الذمي لقتله النفس او لزناه بمسلمة وكما نقتل المرتد لقتله مسلما ولقطعه
الطريق كما تقدم تقريره فليس مقصودنا بارادة قتله ان يسلم ولا نحن مقاتليه على ان يسلم بل نحن نقتله جزاء له على ما اذانا ونكالا لا مثاله على مثل هذه الجريمة فاذا اسلم فان صححنا إسلامه لم يمنع ذلك وجوب قتله كالمحارب المرتد او الناقض اذا اسلم بعد القدرة وقد قتل فانه يقتل وفاقا فيما علمناه وان حكم بصحة إسلامه وان لم يصحح إسلامه فالفرق بينه وبين الحربي والمرتد من وجهين # احدهما ان الحربي والمرتد لم يتقدم منه ما دل على ان باطنه بخلاف ظاهره بل اظهاره للردة لما ارتد دليل على ان ما يظهره من الإسلام صحيح وهذا مازال مظهر للإسلام وقد اظهر ما دل على فساد عقده فلم يوثق بما يظهره من الإسلام بعد ذلك وكذلك ناقض العهد قد عاهدنا على ان لا يسب وقد سب فثبتت جنايته وغدره فاذا اظهر الإسلام بعد ان اخذ ليقتل كان اولى ان يخون ويغدر فانه كان ممنوعا من اظهار السب فقط وهو لم يف بذلك فكيف اذا اصبح ممنوعا من اظهاره واسراره ولم يكن له عذر فيما فعله من السب بل كان محرما عليه في دينه فاذا لم يف به صار من المنافقين في العهد # الثاني ان الحربي او المرتد نحن نطلب منه ان يسلم فاذا اعطانا ما اردناه بحسب قدرته وجب قبوله منه والحكم بصحته والساب لايطلب منه الا القتل عينا فاذا اسلم ظهر انما اسلم ليدرا عن نفسه القتل الواجب عليه كما اذا تاب المحارب بعد القدرة عليه او اسلم او
تاب سائر الجناة بعد اخذهم فلا يكون الظاهر صحة هذا الإسلام فلا يسقط ما وجب من الحد قبله # وحقيقة الامر ان الحربي والمرتد يقتل لكفر حاضر ويقاتل ليسلم ولا يمكن ان يظهر وهو مقاتل او ماخوذ الإسلام الا مكرها فوجب قبوله منه اذ لايمكن بذله الا هكذا وهذا الساب والناقض لم يقتل لمقامه على الكفر او كونه بمنزلة سائر الكفار غير المعاهدين لما ذكرناه من الادلة الدالة على ان السب مؤثر في قتله ويكون قد بذل التوبة التي لم تطلب منه في حال الاخذ للعقوبة فلا تقبل منه # وعلى هذين الماخذين ينبني الحكم بصحة إسلام هذا الساب في هذه الحال مع القول بوجوب قتله # احدهما لا يحكم بصحة إسلامه وهو مقتضى قول ابن القاسم وغيره من المالكية # والثاني يحكم بصحة إسلامه وعليه يدل كلام الإمام احمد واصحابه في الذمي مع وجوب اقامة الحد عليه واما المسلم اذا سب ثم قتل بعد ان اسلم فمن قال يقتل عقوبة على السب لكونه حق ادمي
او حدا محضا لله فقط حكم بصحة هذا الإسلام وقبله وهذا قول كثير من اصحابنا وغيرهم وهو قول من قال يقتل من اصحاب الشافعي # وكذلك من قال يقتل ساب الله ومن قال يقتل لزندقته اجرى عليه اذا قتل بعد اظهار الإسلام احكام الزنادقة وهو قول كثير من المالكية وعليه يدل كلام بعض اصحابنا وعلى ذلك ينبني الجواب عما احتج به من قبول النبي ظاهر الإسلام من المنافقين فان الحجة اما ان تكون في قبول ظاهر الإسلام منهم في الجملة فهذا لا حجة فيه من اربعة اوجه قد تقدم ذكرها # احدها ان الإسلام انما قبل منهم حيث لم يثبت عنهم خلافه وكانوا ينكرون انهم تكلموا بخلافه فاما ان البينة تقوم عند رسول الله على كفر رجل بعينه فيكف عنه فهذا لم يقع قط الا ان يكون في بادئ الامر
- الثاني انه كان في أول الامر مامورا ان يدع اذاهم ويصبر عليهم لمصلحة التاليف وخشية التنفير إلى ان نسخ ذلك بقوله تعالى ^ جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم ^ # الثالث انا نقول بموجبه فنقبل من هذا الإسلام ونقيم عليه حد السب كما لو اتى حدا غيره وهذا جواب من يصحح إسلامه ويقتله حدا لفساد السب # الرابع ان النبي لم يستتب احدا منهم ويعرضه على السيف ليتوب ممن مقالة صدرت منه مع ان هذا مجمع على وجوبه فان الرجل منهم اذا شهد عليه بالكفر والزندقة فاما ان يقتل عينا او يستتاب فان لم يتب والا قتل # واما الاكتفاء منه بمجرد الجحود فما اعلم به قائلا بل اقل ما قيل فيه انه يكتفى منهم بالنطق بالشهادتين والتبري من تلك المقاله فاذا
لم تكن السيرة في المنافقين كانت هكذا علم ان ترك هذا الحكم لفوات شرطه وهو اما ثبوت النفاق او العجز عن اقمة الحد او مصلحة التاليف في حال الضعف حتى قوي الدين فنسخ ذلك # وان كان الاحتجاج بقبول ظاهر الإسلام ممن سب فعنه جواب خمس وهو انه كان له ان يعفو عمن شتمه في حياته وليس هذا العفو لاحد من الناس بعده # واما تسمية الصحابه الساب غادرا محاربا فهو بيان لحل دمه وليس كل من نقض العهد وحارب سقط القتل عنه بإسلامه بدليل ما لو قتل مسلما او قطع الطريق عليه او زنى بمسلمة بل تسميته محاربا مع كون السب فسادا يوجب دخوله في حكم الاية كما تقدم # واما الذين هجو رسول الله وسبوه ثم عفا عنهم فالجواب عن ذلك كله قد تقدم في المسألة الاولى لما ذكرنا قصصهم وبينا ان السب غلب فيه حق الرسول اذا علم فله ان يعفو وان ينتقم وفي قصص هؤلاء ما يدل على ان العقوبة انما سقطت عنهم مع عفوه وصفحه لمن تامل احوالهم معه والتفريق بينهم وبين لم يهجه ولم يسبه
المفضلات