الزملاء الأفاضل, تحية طيبة, وبعد:
بادئ ذي بدء, بارك الله بكم على إطرائكم الطيب, وهذه خصلة حميدة يمتاز بها وينماز ذوو الألباب.
بخصوص (سيل الحق المتدفق), أقول:
قولك: (حجية أحاديث الآحاد عند أهل السنة والجماعة معلومة لا خلاف فيها، وكلهم يحتج بالحديث الذي يرويه الثقة), جوابه:
1. أنا أتفق معك, فأحاديث الآحاد تستنبط منها الأحكام الشرعية, ويجب الأخذ بها.
2. لقد قلت قولك هذا تعليقًا على قولي: (الحديث ليس بمتواتر, بل هو ظني الثبوت؛ فإن عارض دليلا قطعيًا يردُّ درايةً, وهذا ما كان), وهذا ما أستغربه؛ لأنه لا يفهم من قولي عدم حجية الآحاد.
3. والسؤال الذي أطرحه عليك: إن عارض دليل قطعي الثبوت دليلا ظني الثبوت, ولم تستطع التوفيق بينهما, ماذا تفعل؟
وبخصوص (أبو جاسم) أقول:
· قولك: (خبر الثقة لا يجوز رده إلا إذا قام الدليل على غلطه فيما يخبر, وفي هذا الحديث لا يوجد ما يدل على خطأ الثقة فيما أخبر), جوابه:
1. الخبر نوعان: قطعي وظني.
2. وفي أصول الفقه, مبحث تحت عنوان: (التعادل والتراجيح), وفيه قواعد:
ü قاعدة: (إعمال الدليلين أولى من إهمال أحدهما)؛ أي: إن ظهر تعارض بين خبرين, فنعمل على التوفيق بينهما قبل العمل على ترجيح أحدهما على الآخر.
ü قاعدة: (الترجيح يكون بين دليلين ظنيين متعارضين تعذر الجمع بينهما).
ü قاعدة: (لا ترجيح بين دليل قطعي وقطعي)؛ لأنه لا يتصور التعارض فيهما.
ü قاعدة: (لا ترجيح بين دليل قطعي وظني)؛ لأنَّ القطعي قاضٍ على الظني.
3. وعليه, لا خلاف بين الأصوليين في جواز رد خبر الثقة إن عارض دليلا قطعيا أو إن أصبح مرجوحا, وليس فقط في حال قيام الدليل على غلطه فيما أخبر.
4. رد الخبر يعني إهماله, وعدم العمل به.
5. أرجو أن تذكر لي أصوليا واحدا يحصر رد خبر الثقة في الحالة التي ذكرتها أنت, أي أنه لا يجيز رد خبر الثقة إن عارض خبرا قطعيا أو راجحا.
· قولك: (و ما دام لا يفعل, فهو لم يخرق العصمة؛ لأن خرقها يكون بالفعل حقيقةً. والروايات دلّت أنه لم يكن يفعل, بل يتخيل الفعل ولا يفعله), جوابه:
1. لقد أثبتنا أنَّ لفظ «يُخَيَّلُ إلَيْهِ» يعني (يظن), وليس (يتخيل). وهذا ما قال به القاضي عياض فيما نقلت أنت: ويكون معنى قوله في الحديث: "حتى يظن أنه يأتي أهله ولا يأتيهن"...
2. على فرض أنه يتخيل, فاحتمال خرق العصمة قائم؛ لأنه من العصمة أن لا يكتم ما جاء به الوحي, وقد يتخيل أنه بلغ ما جاء به الوحي ولم يبلغ حقيقة؛ فيكون كتم أمرا من الدين, وهنا خرقت العصمة.
· قولك: (وهذا التخيل ما فيه أي محذور؛ فسيدنا موسى_ عليه السلام _خُيّل إليه من سحر السحرة أن حبالهم و عصيهم تسعى), جوابه:
1. للتخيل سببان: سحر العينين, وخلل في العقل.
2. لفظ «يُخَيَّلُ إلَيْهِ» في الآية: ﴿فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى﴾, (طه: 66). معناه التخيل, وسببه: ﴿فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ﴾, (الأعراف: 116). وهو سحر مؤقت محصور, وهو واقع على عضو العين ليس غير.
أمَّا إن فسرنا لفظ «يُخَيَّلُ إلَيْهِ» في الحديث على أنه تخيُّل, فسببه مغاير لما حصل مع موسى u؛ لأنَّ النبي محمدًا e لم تسحر عيناه, بل سحره في عقد: ﴿وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ﴾, (الفلق: 4). فيكون سبب التخيل هو خلل في العقل, وهذا ما انكبَّ أهل العلم على دفعه عن رسول الله e؛ لأنه يقدح في العصمة, وينال منها!
3. وبناء عليه, فلا وجه دلالة فيما حصل مع موسى نبي الله بما حصل مع أخيه محمد e. على أنَّ نبي الله موسى لم يؤثر السحر عليه في غير التخيل العضوي, ودليل ذلك: ﴿فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى﴾, (طه: 67). وسبب إيجاس الخيفة ليس السحر, بل من ظهور السحرة عليه, تمحيصًا لإيمان المؤمنين, واستدراجًا لفرعون وملئه, فبدَّد الله خوفه: ﴿قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى﴾, (طه: 68). أي: إنَّك أنت الظاهر؛ وفي هذا بيان لإيجاسة الخيفة. وما يعضد هذا الفهم قول الله: ﴿يَا مُوسَى لَا تَخَفْ إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ﴾, (النمل: 10). فكيف لموسى أن يوجس خيفة من السحر بعد هذه الحقيقة؟!
وبخصوص (أبو حمزة السيوطي) أقول:
· قولك: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يُخيل إليه أنه فعل الشيء ولكنه لم يفعله نوع من أنواع النسيان):
1. لم يرد ما تقول في اللغة, ولم يقل أحد بقولك.
2. ثمَّ إن النسيان ثلاثة أقسام, وهي:
ü أن لا تذكر شيئًا قد فُعل.
ü أن تظنَّ إتمام شيء ولم يتم.
ü أن يغيب عن ذهنك شيء ما.
وليس من النسيان أن تذكر شيئًا لم يُفعل ابتداءًا, بل هو تخيل محض, ليس غير.
3. إذن, حديث البخاري ينطبق على الجزء الثاني من النسيان, ولا ينطبق على واقع التخيل.
· قولك: (وفي الفتح: وقد قال بعض الناس: إن المراد بالحديث أنه كان صلى الله عليه وسلم يخيل إليه أنه وطئ زوجاته ولم يكن وطأهن, وهذا كثيراً ما يقع تخيله للإنسان في المنام فلا يبعد أن يخيل إليه في اليقظة):
1. هم يفسرون لفظ «يُخَيَّلُ إلَيْهِ» في الحديث على أنه تخيُّل بدليل قولهم: (وهذا كثيراً ما يقع تخيله للإنسان في المنام), وقد بينا بطلان هذا.
2. ثمَّ إنَّ رسول الله أبعد ما يكون عن التخيل في المنام, فضلا عن اليقظة؛ لأنَّ الله عصم عقله من أن يتطرق إليه خلل. فتأمَّل.
· قولك: (وليس بالضرورة أن يكون عارض السحر هذا مختص بالجماع فقط وربما كان مثالا يفسر قوله يُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهُ يَفْعَلُ الشَّيْءَ وَمَا يَفْعَلُهُ):
1. هذا الجزء: «يُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهُ يَفْعَلُ الشَّيْءَ وَمَا يَفْعَلُهُ» مطلق, وفي أصول الفقه: المطلق يحمل على المقيد, والعام يحمل على الخاص.
2. وهذا الجزء: «يُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهُ يَأْتِي أَهْلَهُ وَلاَ يَأْتِي» مقيد, فنأخذ به, ونحمل الرواية الأخرى عليه حسب الاجتهاد الصحيح.
3. وعليه, فعارض السحر هذا مختص بالجماع, ليس غير.
· قولك: (أما تفسيرك أنت, فيعني أن السحر قد أصاب النبي صلى الله عليه وسلم بعجز عن إتيان أهله: "يهم ولا يقدر"! وهذا لا دليل عليه, وغير مفهوم من الحديث):
1. إن رجعت إلى اجتهادي في المسألة, واستحضرت أدوات اللغة والاجتهاد؛ فإنك على الأقل تدرك أنَّ لي رجعًا شرعيًا فيما أدَّاه اجتهادي.
2. على أنَّني لم أكن بدعًا من أهل العلم, بل ذهب القاضي عياض إلى هذا القول؛ فكنت مشاطرًا له في الرأي؛ وذلك قوله في كتاب الشفاء: ويكون معنى قوله: «حَتَّى يَظُنَّ أَنَّهُ يَأْتِي أَهْلَهُ وَلَا يَأْتِيهِمْ», ويروى: «أَنَّهُ يُخَيَّلُ إلَيْهِ»: أي يظهر له من نشاطه ومتقدم عادته القدرة عليهن، فإذا دنا منهن أخذه السحر فلم يأتهن, ولم يتمكن من ذلك. وثمَّة غيره قال بقوله. والله الموفق.
وفي الختام أقول: كوني عدلت عن المثال الذي استحضرته في حالة: (رد المتن دون السند), فإنني أذكر حديثًا آخر, ألا وهو:
روي عن النبي e أنه قام خطيبا, فحمد الله وأثنى عليه, ثم قال: «أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ طُفَيْلًا رَأَى رُؤْيَا وَأَخْبَرَ بِهَا مَنْ أَخْبَرَ مِنْكُمْ، وَإِنَّكُمْ تَقُولُونَ كَلِمَةً كَانَ يَمْنَعُنِي الْحَيَاءُ مِنْكُمْ أَنْ أَنْهَاكُمْ عَنْهَا، فَلَا تَقُولُوا: مَا شَاءَ اللَّهُ وَشَاءَ مُحَمَّدٌ», رواه أحمد بسند صحيح.
وهذا الحديث يرد دراية, والخلل هاهنا يكمن: «وَإِنَّكُمْ تَقُولُونَ كَلِمَةً كَانَ يَمْنَعُنِي الْحَيَاءُ مِنْكُمْ أَنْ أَنْهَاكُمْ عَنْهَا»؛ ذلك أنَّه ما ينبغي للحياء أن يكون سببًا في عدم التفقه بالدين فضلا عن كتمان الشرع, وهذا منافٍ لتبليغ الرسالة. وقد مدحت نساء الأنصار بالآتي: «نِعْمَ النِّسَاءُ نِسَاءُ الأَنْصَارِ لَمْ يَمْنَعْهُنَّ الحَيَاءُ أَنْ يَتَفَقَّهْنَ فِي الدِّينِ», متفق عليه. فمن باب أولى أن يكون رسول الله غير آبه بالحياء في تبليغ شرع ربه, وهكذا رأيناه e: «إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحِي مِنَ الْحَقِّ لَا تَأْتُوا النِّسَاءَ فِي أَعْجَازِهِنَّ», رواه ابن حبان بسند صحيح. وإذا كان الفاروق عمر يقول: «فَكَانَ أَنْ أَسْتَحِي مِنَ اللَّهِ وَأَجْتَرِئُ عَلَيْكُمْ أَحَبُّ إِلَيَّ», فلرسول الله أكثر حياء من الله منه؛ لذلك فالله أحقُّ بالحياء من أصحابه الكرام. ولا ضير في أن يكون حياؤه e في بعض شأنه؛ لأن الحياء من الإيمان: ﴿إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ﴾, (الأحزاب: 53).




رد مع اقتباس
المفضلات