نظرة إلى الإلحاد، حديثا:
نظر الملاحدة حديثا إلى ما يقع عليه حسُّهم، فرأوا أن حوادث العالم متعددة، فهي تنتقل من حال إلى حال. وقالوا: إن العالم بطبيعته مادي، وإن حوادث العالم المتعددة هي مظاهر مختلفة للمادة المتحركة، وإن العلاقات المتبادلة بين الحوادث، وتكييف بعضها بعضا بصورة متبادلة هي قوانين ضرورية لتطور المادة المتحركة، وإن العالم يتطور تبعا لقوانين حركة المادة، وتوصلوا من ذلك إلى أن العالم ليس بحاجة إلى خالق يخلقه؛ لأنه مستغن بنفسه.
إذن، قوانين حركة المادة هي حجر الزاوية، وهي مربط الفرس، وهي الركيزة التي اتكأ عليها من جحد وألحد، وهنا نقول: القوانين الفيزيائية التي يحصل بها تطور المادة لها ثلاث احتمالات، ألا وهي:
1. جاءت من المادة نفسها.
2. خاصية من خواص المادة.
3. مفروضة على المادة.
فإذا ثبت أن هذه القوانين لم تأت من المادة، ولا هي خاصة من خواصها، وإنما هي مفروضة على المادة فرضا من غيرها ومن خارجها، فإنه يكون هناك غير المادة هو الذي يؤثر فيها، وبذلك تبطل نظريتهم وتحل العقدة عندهم؛ لأنه يكون العالم ليس سائرا تبعا لقوانين حركة المادة، بل سائرا بتسيير من أوجد له هذه القوانين، وفرضها عليه فرضا، وأجبره على أن يسير بحسبها، فتنقض النظرية وتحل العقدة.
أما كون هذه القوانين لم تأت من المادة؛ فلأن القوانين هي عبارة عن جعل المادة في نسبة معينة أو وضع معين، فالماء حتى يتحول إلى بخار أو إلى جليد إنما يتحول حسب قوانين معينة، أي حسب نسبة معينة من الحرارة، فإن حرارة الماء ليس لها في باديء الأمر تأثير في حالته من حيث هو سائل، لكن إذا زيدت أو أنقصت حرارة الماء جاءت لحظة تعدلت فيها حالة التماسك التي هو فيها وتحول الماء إلى بخار في إحدى الحالتين، وإلى جليد في الحالة الأخرى، فهذه النسبة المعينة من الحرارة هي القانون الذي بحسبه يجري تحول الماء إلى بخار أو إلى جليد، وهذه النسبة، أي كون الحرارة بمقدار معين لمقدار معين من الماء لم تأت من الماء، لأنه لو كانت منه لكان بإمكانه أن يغيرها وأن يخرج عنها، لكن الواقع أنه لا يستطيع تغييرها ولا الخروج عنها، وإنما هي مفروضة عليه فرضا، فدل ذلك على أنها ليست منه قطعا، وكذلك لم تأت من الحرارة، بدليل أنها لا تستطيع أن تغير هذه النسبة أو تخرج عنها، وأنها مفروضة عليها فرضا، فهي ليست منها قطعا، فتكون هذه القوانين ليست من المادة.
وأما كون هذه القوانين ليست خاصية من خواص المادة، فلأن القوانين ليست أثرا من آثار المادة الناتجة عنها حتى يقال: إنها من خواصها، وإنما هي شيء مفروض عليها من خارجها. ففي تحول الماء، ليست القوانين فيه من خواص الماء ولا من خواص الحرارة؛ لأن القانون ليس تحول الماء إلى بخار أو إلى جليد، بل القانون تحوله بنسبة معينة من الحرارة لنسبة معينة من الماء. فالموضوع ليس التحول، وإنما هو التحول بنسبة معينة من الحرارة لنسبة معينة من الماء، فهو ليس كالرؤية في العين من خواصها، بل هو كون الرؤية لا تكون إلا بوضع مخصوص. هذا هو القانون، فكون العين ترى خاصية من خواصها، ولكن كونها لا ترى إلا في وضع مخصوص ليس خاصية من خواصها، وإنما هو أمر خارج عنها، وكالنار من خواصها الإحراق، ولكن كونها لا تحرق إلا بأحوال مخصوصة ليس خاصية من خواصها، بل هو أمر خارج عنها. فخاصية الشيء هي غير القوانين التي تسيره، إذ الخاصية هي: (ما يعطيه الشيء نفسه، وينتج عنه) كالرؤية في العين، وكالإحراق في النار، وما شاكل ذلك.
ولكن القوانين التي تسيّر الأشياء هي كون الرؤية لا تحصل من العين إلا بأحوال مخصوصة، وكون الإحراق لا يحصل من النار إلا بأحوال مخصوصة، وكون الماء لا يتحول إلى بخار أو جليد إلا بأحوال مخصوصة، وهكذا. وبهذا، ثبت أن قوانين المادة ليست خاصية من خواص المادة، وإنما هي أمر خارج عنها.
وبما أنه ثبت أن هذه القوانين ليست من المادة ولا خاصية من خواصها، فتكون آتية من غيرها، ومفروضة عليها فرضا من غيرها ومن خارجها، وبذلك يثبت أن غير المادة هو الذي يؤثر فيها، وبذلك يثبت بطلان معتقدهم، لأنه ثبت أن العالم ليس سائرا تبعا لقوانين حركة المادة، بل هو سائر بتسيير من أوجد هذه القوانين وفرضها عليه فرضا، فيكون العالم بحاجة لمن وضع له هذه القوانين وفرضها عليه. وما دام بحاجة إلى من فرض عليه هذه القوانين، فهو_ أي العالم _ليس أزليا، وما دام ليس أزليا فهو مخلوق؛ لأن كونه ليس أزليا يعني أنه وجد بعد أن لم يكن، فهو مخلوق لخالق، ومجرد ثبوت وجود المخلوقات لخالق يثبت وجود الخالق.
المفضلات