وفي خلافه مع الإمام علي رضي الله عنه قالوا لمعاوية :
أنت تنازع علياً أم أنت مثله؟
فقال معاوية :
لا والله إني لأعلم أن علياً أفضل مني، وإنه لأحق بالأمر مني، ولكن ألستم تعلمون أنّ عثمان قتل مظلومـا، وأنا ابن عمه، وإنمـا أطلب بدم عثمان، فأتوه فقولوا له فليدفـع إليّ قتلة عثمـان وأسلّم لـهُ فأتوْا علياً فكلّموه بذلك فلم يدفعهم إليه.
(سير أعلام النبلاء جـ3 ص (140) وقال المحقق: رجاله ثقات)
ومن شعرة معاوية التي اتخذت مثلا في الشد والإرخاء مما يسجد أسلوبه وسياسته نورد ما أخبرتنا به الروايات أن عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما كانت له أرض قريبة من أرض لمعاوية ، فيها عبيد له من الزنوج يعمرونها ، فدخلوا في أرض عبد الله فكتب إلى معاوية : أما بعد ، فإنه يا معاوية إن لم تمنع عبيدك من الدخول في أرضي وإلا كان بي ولك شأن ، فلما وقف معاوية على الكتاب دفعه إلى ابنه يزيد ، فلما قرأه ، قال له : ما ترى ؟ قال : أرى أن تنفذ إليه جيشا أوله عنده وآخره عندك يأتوك برأسه ، فقال : يا بني عندي خير من ذلك ، عليًّ بدواة وقرطاس ، وكتب : وقفت على كتابك يا ابن حواري رسول الله وساءني ما ساءك ، والدنيا هنية عندي في جنب رضاك ، وقد كتبت على نفسي رقما بالأرض والعبيد وأشهدت على ما فيه ، ولتضف الأرض إلى أرضك والعبيد إلى عبيدك ، والسلام .
فلما وقف عبد الله بن الزبير على كتاب معاوية كتب إليه : وقفت على كتاب أمير المؤمنين فلا عدم الرأي الذي أحله من قريش هذا المحل ، والسلام .
فلما قرأه معاوية رماه إلى ابنه يزيد ، فلما قرأه أسفر وجهه ، فقال : يا بني إذا رميت بهذا الداء فداوه بهذا الدواء .
وهكذا تتجلى لنا إحدى صور الحنكة والمعالجة للأمور عند معاوية بن أبي سفيان ، وما تحلى به من عقل كبير يواجه مثل هذه المشكلات ، فتصير بسياسته من معاندات إلى معاضدات ، وإذن فقد صدق رضي الله عنه حين قال قوله المأثور : لو بين عدوي وبيني شعرة ما انقطعت ، إذا أشدوها أرخيت ، وإذا أرخوها شددت .
يؤكد ذلك ما جاء في زهر الآداب عن معاوية حيث قال : نحن الزمان ، من رفعناه ارتفع ومن وضعناه اتضع ، وقال : إني لأقف من أن يكون في الأرض جهل لا يسعه حلمي وذنب لا يسعه عفوي ، وحاجة لا يسعها جدوي .
وروى صاحب الأغاني أن معاوية بن أبي سفيان خشية مما عمل أوصى بأن يكفن في ثوب من أثواب النبي صلى الله عليه وسلم التي كان يملكها ، وأن يوضع في أنفه شعرات من شعر النبي صلى الله عليه وسلم ، وروى مثل ذلك من عمر بن عبد العزيز وأنس بن مالك ذلك أنه لما حضره الموت أوصى أن يكفن في قميص كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد كساه إياه وأن يجعل مما يلي جسده ، وكان عنده قلامة أظفار رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأوصى أن تسحق وتجعل في عينيه وفمه ، وقال : افعلوا ذلك ، وخلوا بيني وبين أرحم الراحمين .
ولما نزل به الموت قال : ليتني كنت رجلا من قريش بذي طوى ( واد بمكة ) وأنى لم آل من هذا الأمر شيئا .
ولما مات أخذ الضحاك بن قيس أكفان وصعد المنبر وخطب الناس فقال : إن أمير المؤمنين معاوية كان حَدَّ العرب وعَودَ العرب ، قطع الله الفتنة ، وملكه على العباد وسير جنوده في البر والبحر ، وكان عبدا من عبيد الله ، دعاه فأجابه ، وقد قضى نحبه وهذه أكفانه فنحن مدرجوه ومدخلوه قبره ومخلوه وعمله فيما بينه وبين ربه ، إن شاء رحمه ، وإن شاء عذبه .
هذا فقد مات معاوية حين كان يزيد ابنه غائبا ، فلما قدم بعد الوفاة دخل منزله ، ولم يظهر للناس ثلاثة أيام ، فلما كان اليوم الرابع خرج إلى الناس ، وصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : إن معاوية كان حبلا من حبال الله ، مده الله ما شاء أن يمده ، ثم قطعه حيث شاء أن يقطعه ، وكان دون من قبله وخير من بعده ، فإن الله إذا أراد شيئاً كان ، اذكروا الله واستغفروه ، ثم نزل ودخل منزله .
وبلغ عبد الله بن الزبير وفاة معاوية ، فقال : رحم الله معاوية ، لقد كنا نخدعه فيتخادع وما ابن أنثى بأفكر منه ، وما الليث المجَّرب بأجرأ منه ، كان والله كما قالت بنت رُقيقة :
ألا يا بنته أبكيه ... ألا كل الغنى فيه
والله لبودي أن بقى ما بقى أبو قبيس لا يتَخوَّن له عقد ، ولا يُنقص له قوة وبلغ عبد الله بن عباس وفاة معاوية ، وكان يتعشى مع أصحابه ، وقد رفع اللقمة إلى فمه ، فألقاها ، وأطرق هينهة ، ثم قال :
جبل تدكدك ثم مال بجَمعهِ ... في البحر واشتملت عليه الأبحرُ
لله در ابن هند ، ما كان أجمل وجهه ، وأكرم خلقه ، وأعظم حلمه ، فقطع عليه الكلام رجل من أصحابه ، وقال : تقول هذا فيه ؟ فقال : ويحك ، إنك لا تدري من مضى عنك ، ولا من ولى عليك ، وستعلم ، ثم سكت .
وكان عبد الله بن عباس يكره ولاية يزيد بعد أبيه معاوية .
..... يتبعٍٍ
المفضلات