السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
اختلف العلماء في حكم صلاة التراويح في المسجد أو في البيت على أقوال :
القول الأول : أن صلاة التراويح جماعة بالمسجد سنة مؤكدة . وهذا قول الأحناف ، والشافعية ، والرواية الصحيحة عن الإمام أحمد . ويرى ابن عبد البر من المالكية : أنها سنة على الكفاية .
القول الثاني : أن صلاة التراويح بالمسجد غير مسنونة ؛ بل الانفراد فيها أفضل . قال بهذا : مالك والشافعي في رواية عنه . قال مالك في المدونة : " إن كان يقوى في بيته فهو أحب إلي ، وليس كل الناس يقوى على ذلك " . قلت : ومقتضى هذا أنها تسن في المسجد لمن عجز عنها في بيته . قال في حاشية الدسوقي : " وندب فعلها في البيوت مشروط بثلاثة شروط : ألا تعطل المساجد ، وأن ينشط بفعلها في بيته ، وأن يكون غير آفاقي بالحرمين ، فإن تخلف شرط منها : كان فعلها في المسجد أفضل " .
القول الثالث : أن صلاة التراويح يجب فعلها في المسجد وجوبا على الكفاية ، فإذا قام به من يكفي ، سقط عن الباقين ، وحكى ابن عبد البر هذا القول عن الليث بن سعد ، وأبي جعفر الطحاوي . ويرى الليث وجوب إخراج الناس من بيوتهم لأدائها في المسجد لو أطبقوا على تركها .
الأدلة :
استدل الفريق الأول بما يلي : -
1 - عن النعمان بن بشير - رضي الله عنه - قال : « قمنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليلة ثلاث وعشرين إلى ثلث الليل ، ثم قمنا معه ليلة خمس وعشرين إلى نصف الليل ، ثم قمنا معه ليلة سبع وعشرين حتى ظننا أن لن ندرك الفلاح ، وكنا نسميه السحور » . رواه أحمد وابن خزيمة .
الشاهد : " قمنا معه : أي صلينا معه " .
وجه الدلالة :
أنهم صلوا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى الله عليه وسلم - ثلاث ليال من شهر رمضان في المسجد ؛ إذ هي حالهم - غالبا - ولو كان في مكان غير المسجد لذكره .
2 - عن عائشة - رضي الله عنها - « أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج في جوف الليل فصلى في المسجد ، فصلى رجال بصلاته ، فأصبح ناس يتحدثون بذلك ، فلما كانت الليلة الثالثة كثر أهل المسجد فخرج فصلى ، فصلوا بصلاته ، فلما كانت الليلة الرابعة عجز المسجد عن أهله ، فلم يخرج إليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فطفق رجال منهم ينادون : الصلاة ، فلا يخرج فكمن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى خرج لصلاة الفجر ، فلما قضى الفجر قام فأقبل عليهم بوجهه فتشهد ، فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : " أما بعد : فإنه لم يخفى علي شأنكم ، ولكني خشيت أن تفترض عليكم صلاة الليل فتعجزوا عنها » . رواه مسلم ، وابن خزيمة .
الشاهد : « خشيت أن تفترض عليكم » .
وجه الدلالة :
أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلاها بالمسجد ثلاث مرات ، ثم خشي أن تفترض على الأمة فتركها لهذه الخشية ؛ ولأنه - صلى الله عليه وسلم - رحيم بأمته . وهذا يدل على آكدية سنيتها في المسجد ؛ لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنما تركها خشية أن تفترض على أمته . قال ابن تيمية : " وقد أمن ذلك بموته - صلى الله عليه وسلم - "
3 - عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : « خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإذا الناس في رمضان يصلون في ناحية المسجد ، فقال : " ما هؤلاء ؟ فقيل : هؤلاء ناس ليس معهم قرآن ، وأبي بن كعب يصلي بهم ، وهم يصلون بصلاته . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أصابوا ، أو نعم ما صنعوا » . رواه أبو داود ، وابن خزيمة .
الشاهد : قوله " أصابوا . . . نعم ما صنعوا " .
وجه الدلالة :
حيث أقر - صلى الله عليه وسلم - صلاة هؤلاء الصحابة وسر بها ؛ مما دل على أنها سنة مؤكدة .
واستدل الفريق الثاني بما يلي : -
1 - عن زيد بن ثابت قال : « احتجر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حجيرة بخصفة أو حصير ، فخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي فيها ، فتتبع إليه رجال جاءوا يصلون بصلاته . قال : ثم جاءوا ليلة فحضروا ، وأبطأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عنهم . قال : فلم يخرج إليهم ، فرفعوا أصواتهم وحصبوا الباب ، فخرج إليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مغضبًا فقال لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " ما زال بكم صنيعكم حتى ظننت أنه سيكتب عليكم ، فعليكم بالصلاة في بيوتكم ، فإن خير صلاة المرء في بيته إلا الصلاة المكتوبة » . رواه مسلم . وفي رواية له : « ولو كتب عليكم ما قمتم به » .
الشاهد : « أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة » .
وجه الدلالة :
حيث أطلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الأفضلية على جميع الصلوات في البيت ، واستثنى المكتوبة فقط ؛ مما يدل على أن فعل التراويح في البيت أفضل .
2 - ولأن فعل التراويح بالبيت قد فعله طائفة من علماء السلف . قال ابن عبد البر : " وروينا عن ابن عمر وسالم وإبراهيم ونافع : أنهم كانوا ينصرفون ولا يقومون مع الناس " . ا . هـ مختصرا .
وروى ابن أبي شيبة : أن السائب بن يزيد ، وحذيفة ، وإبراهيم النخعي وسويد بن غفلة : لا يتنفلون بالمساجد .
فالتراويح نافلة ، وهؤلاء لا يتركون المسنونات دائما ؛ مما دل على أنهم يرون فعلها في البيوت أفضل من المسجد .
واستدل الفريق الثالث :
بأن عمر جمع الناس على أبي بن كعب في محضر من الصحابة ولم يظهر له مخالف فصار إجماعا ؛ ولأنها من شعائر المسلمين في رمضان ، وعلى أدائها بالمسجد عمل صالح سلف المؤمنين منذ عهد عمر إلى الآن بحمد الله تعالى .
المناقشة :
بتمعن الأدلة : نجد أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ترك التراويح في المسجد خشية أن تفرض على الأمة . وحديث أبي داود حديث حسن تشهد له الأدلة الصحيحة .
والذي يظهر لي - والله أعلم - : أن القول الصحيح هو أن أداء التراويح في البيوت أفضل ، ولكن في زمننا هذا : الناس يتكاسلون عن الفرائض ، فكيف بالنوافل ؟ ! .
ولهذا : فإني أرى أن أداءها في المساجد في هذا الزمان خاصة خير للناس ، لما فيها من المصالح في اجتماع الناس ، وحديث الإمام إليهم ، ومتابعة الجاهل للمتعلم ، وتزودهم بالعلم النافع .
وإذا كانت الصلاة مع إمام حسن الصوت ، جيد التلاوة ، ينشط السامع إذا صلى وراءه ، وسمع تلاوته ، وكان ذلك سببا لجلب الناس إلى المسجد ، وتعاونهم على الخير ، فإن أداءها في هذا المسجد له منافع عظيمة . ولا أعلم دليلا صريحا لمن قال بوجوبها في المساجد .
وأداؤها في البيت لمن يصلي بأهله ويناصحهم أفضل ، وأشد تأثيرا في بناء الأسرة ، وتوعيتهم بأمور دينهم ، والسير بهم على صراط مستقيم . وبالله التوفيق .
أ.هـــ
هذا المبحث منقول من كتاب "أحكام المساجد في الشريعة الإسلامية ( الجزء الثاني ) "
لفضيلة الشيخ : إبراهيم بن صالح الخضيري .
جزاكم الله خيرا
المفضلات