يقول صاحب الشبهة
{ عَفَا ٱللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكَ ٱلَّذِينَ صَدَقُواْ وَتَعْلَمَ ٱلْكَاذِبِينَ }وقد أجمع المسلمون على عدم امتناع النسيان من الأنبياء، ومع ذلك قال محمد: نما أنا بشر مثلكم أنسى كما تنسون (مشكاة المصابيح تحقيق الألباني حديث 1016). كما أنه نسي أيضاً في أمور مختصة بالمعاملات والعبادات، حتى قيل له في التوبة 9: 43 “عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ “قال المفسرون: اثنتان فعلهما محمد لم يُؤمر بشيء فيهما: إذنه للمنافقين، وأخذه الفداء من أسارى بدر. وورد في الأنفال 8: 67 “مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا “وورد في التحريم 66: 1 “يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ “وورد في الأحزاب 33: 37 “تَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ “وكذا نسيانه في الصلاة، فقام من ركعتين وسلم، حتى سألوه: أقصرتَ الصلاة أم نسيتَ يا رسول الله؟
[التوبة 43]
يقدم الحق سبحانه العفو عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أذن لهم بالقعود عن القتال، ثم يأتي القرآن من بعد ذلك ليؤكد أن ما فعله رسول الله بالإذن لهم بالقعود كان صواباً، فيقول في موضع آخر من نفس السورة:
{ لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً }
[التوبة: 47].
إذن: فلو أنهم خرجوا لكانوا سبباً في الهزيمة، لا من أسباب النصر. وصوَّبَ الحق عمل الرسول، وهو صلى الله عليه وسلم له العصمة.
وهنا نحن أمام عفو من الله، على الرغم من عدم وجود ذنب يُعفى عنه، وهنا أيضاً إذن من الرسول لهم بالقعود، ونزل القرآن ليؤكد صوابه.
وهناك من فهم قول الحق: { لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ } على أنها استفهام استنكاري، وكأن الحق يقول: كيف أذِنْتَ لهم بالعفو؟
إذن: فرسول الله بين أمرين: بين عفو لا يُذْكَرُ بعده ذنب، واستفهام يفيد عند البعض الإنكار.
ونقول: إن الحق سبحانه وتعالى أيَّد رسوله صلى الله عليه وسلم بقوله:
{ لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً }
[التوبة: 47].
فكأن الرسول قد هُدِيَ إلى الأمر بفطرته الإيمانية، وقد أشار القرآن إلى ذلك؛ ليوضح لنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم معصوم وفطرته سليمة، وكان عليه أن يقدم البيان العقلي للناس؛ لأنه الأسوة حتى لا يأتي من بعده واحد من عامة الناس ليفتي في مسألة دينية ويقول: أنا رأيت بفطرتي كذا، بل لا بد أن يتبين الإنسان ما جاء في القرآن والسنة قبل أن يفتي في أمر من أمور الدين.
وعلى سبيل المثال: اختلف الأمر بين المسلمين في مسألة الفداء لأسرى بدر ونزل القول الحق:
{ لَّوْلاَ كِتَابٌ مِّنَ ٱللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَآ أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ }
[الأنفال: 68].
وأيَّد الله حكم رسوله وأبقاه. إذن فرسول الله صلى الله عليه وسلم هُدِي إلى الأمر بفطرته الإيمانية، ولكن هذا الحق لا يباح لغير معصوم.
وقد أباح الحق سبحانه الاستئذان في قوله:
{ فَإِذَا ٱسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَن لِّمَن شِئْتَ مِنْهُمْ }
[النور: 62].
والحق سبحانه وتعالى يقول هنا في الآية التي نحن بصددها : { عَفَا ٱللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكَ ٱلَّذِينَ صَدَقُواْ وَتَعْلَمَ ٱلْكَاذِبِينَ } وهكذا يتبين لنا أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد أذن لهم بالمقدمات والبحث والفطرة، ورأى أن الإذن لهؤلاء المتخلفين هو أمر يوافق مراد الحق سبحانه؛ لأنهم لو خرجوا مع جيش المسلمين ما زادوهم إلا خبالاًً، لعدم توافر النية الصادقة في الجهاد؛ لذلك ثبطهم الله، وأضعف عزيمتهم حتى لا يخرجوا. والعفو هنا جاء في شكلية الموضوع، حيث كان يجب التبيُّن قبل الإذن، فيقول الحق سبحانه:
{ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكَ ٱلَّذِينَ صَدَقُواْ وَتَعْلَمَ ٱلْكَاذِبِينَ } أي: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لو لم يأذن لهم لكانوا قد انكشفوا، ولكن إذنه لهم أعطاهم ستاراً يسترون به نفاقهم، فهم قد عقدوا النية على ألا يخرجوا، ولو فعلوا ذلك لافتُضِحَ أمرهم للمسلمين جميعاً، فشاء الرسول صلى الله عليه وسلم أن يسترهم.
الإمام / الشعراوي
يتبع
المفضلات