وأعجب من ذلك رفض النصارى لتطبيق الشريعة ومتابعتهم للعلمانيين وغيرهم، فالنصارى لا يملكون شريعة يطبقونها، ولا يعرفون تفاصيل يحكمونها في سياسة أو اقتصاد أو اجتماع، وهم لا يرفضون الأحكام الوضعية والنظم الشيوعية، فكيف يرفضون شريعة أرحم الراحمين؟!
والعلمانيون في رفضهم لتطبيق الشريعة يتعللون تارة بوجود أقليات غير إسلامية كالنصارى، وتارة أخرى بخطأ وقصور بعض المسلمين في التطبيق، وتارة ثالثة بازدهار حال الغرب وسوء حال المسلمين.
وكلها لا تصلح عذرًا لانصراف الدنيا عن دين ربها؛ فكل إنسان يُؤخذ من قوله ويُترك إلا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والفارق كبير بين منهج الحق ومناهج الضلال والكفر، وليس من طلب الحق فأخطأه كمن طلب الباطل فأصابه، وما ساء حال المسلمين إلا بسبب البعد عن دين ربهم.
والغرب في تطوره وتقدمه يصدق عليه قول الله -تعالى-: (يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ)(الروم:7)، لقد أنشأوا حضارة القلق وها هي أمارات ومقدمات الإفلاس والانهيار تلوح في الأفق، وتفاصيل ذلك تحتاج إلى مقالات مطولة.
سادسًا: أول من ابتدع اللاهوت والناسوت في شأن المسيح هو بولس وأول من ابتدع شارة الصليب هو قسطنطين، ويُقبل من متَّى رفضه للحروب الصليبية، وإن كان بوش والغرب يلوحون بها بين حين وآخر، وقد قام دين النصرانية على الصلب والفداء، وها هم اليهود قد استصدروا وثيقة من الفاتيكان تبرئهم من دم المسيح، ونحن نعتقد أن المسيح لم يُقتل بل هو في السماء الثانية (وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ)(النساء:157)، وقال -سبحانه-: (بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا)(النساء:158)، والنصارى من أشد الأمم اختلافًا في معبودهاً ونبيها ودينها:
يقول الإمام ابن القيم: «فلو سألت الرجل وامرأته وابنته وأمه وأباه عن دينهم لأجابك كل منهم بغير جواب الآخر، ولو اجتمع عشرة منهم يتذاكرون الدين لتفرقوا عن أحد عشر مذهبًا مع اتفاق فرقهم المشهورة اليوم على القول بالتثليث، وعبادة الصليب، وأن المسيح ابن مريم ليس بعبد صالح ولا نبي ولا رسول، وأنه إله في الحقيقة، وأنه هو خالق السموات والأرض والملائكة والنبيين، وأنه هو الذي أرسل الرسل، وأظهر على أيديهم المعجزات والآيات، وأن للعالم إلهًا هو أب والد، لم يزل، وأن ابنه نزل من السماء، وتجسم من روح القدس ومن مريم، وصار وهو ابنها الناســوتي إلهًا واحـدًا، ومسيحًا واحدًا، وخالقًا واحدًا، ورازقـًا واحدًا، وحبلت به مريم وولدته، وأخذ وصلب، وألم ومات، ودفن وقام بعد ثلاثة أيام، وصعد إلى السماء، وجلس عن يمين أبيه. قالوا: والذي ولدته مريم وعاينه الناس وكان بينهم هو الله، وهو ابن الله، وهو كلمة الله، فالقديم الأزلي خالق السموات والأرض هو الذي حبلت به مريم، وأقام هناك تسعة أشهر، وهو الذي ولد ورضع، وفطم، وأكل وشرب، وتغوط، وأخذ، وصلب، وشد بالحبال، وسمرت يداه.
ثم اختلفوا: فقالت (اليعقوبية): إن المسيح طبيعة واحدة من طبيعتين: إحداهما: طبيعة الناسوت، والأخرى: طبيعة اللاهوت، وأن هاتين الطبيعتين تركبتا فصار إنسانًا واحدًا، وجوهرًا واحدًا، وشخصًا واحدًا، فهذه الطبيعة الواحدة، والشخص الواحد هو المسيح، وهو إله كله، وإنسان كله، وهو شخص واحد، وطبيعة واحدة من طبيعتين، وقالوا: إن مريم ولدت الله، وأن الله -سبحانه- قُبض، وصُلب، وسمر، ومات، ودُفن، ثم عاش بعد ذلك (وهذا مذهب النصارى الأرثوذكس، وهؤلاء عناهم -سبحانه- بقوله: (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ)(المائدة:17).
وقالت (الملكية) وهي الروم نسبة إلى دين الملك: إن الابن الأزلي الذي هو الكلمة تجسدت من مريم تجسدًا كاملاً كسائر أجساد الناس، وركبت في ذلك الجسد نفسًا كاملة بالعقل، والمعرفة، والعلم كسائر أنفس الناس، وأنه صار إنسانًا بالجسد والنفس الذين هما من جوهر الناس، وإلهًا بجوهر اللاهوت كمثل أبيه لم يزل، وهو إنسان بجوهر الناس مثل إبراهيم وموسى وداود، وهو شخص واحد لم يزد عدده، وثبت له جوهر اللاهوت كما لم يزل، وصح له جوهر الناسوت الذي لبسه من مريم، وهو شخص واحد لم يزد عدده، وطبيعتان، ولكل واحدة من الطبيعتين مشيئة كاملة، فله بلاهوته مشيئة مثل الأب، وله بناسوته مشيئة إبراهيم وداود.
المفضلات