أما الزعم بأن الحرب التى حضت عليها بعض آيات القرآن تسوّغ الأعمال الحربية العدوانية فهو دليل على الجهل بأن المفسرين التقليديين قد ضيّقوا نطاق تلك الآيات. فمثلا هناك الآية الرابعة من سورة "التوبة" التى أسىء تفسيرها فى عصرنا، ونصها: "فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ ". فمن ناحيةٍ نرى المتطرفين يستغلون هذه الآية فى إراقة الدماء البريئة، ومن الناحية الأخرى فإن أعداء الإسلام يستغلونها فى الزعم بأن القرآن إنما هو كتاب عدوانى يحض على شن الحرب دون توقف. لكنْ بالاستناد إلى الروايات التقليدية فإن هذه الآية لا يمكن اتخاذها صَكًّا على بياضٍ لقتال غير المسلمين، إذ لا تَصْدُق فى الواقع إلا على أولئك المشركين الذين ناهضوا المسلمين الأوائل وهددوا وجودهم ذاته تهديدا. وكما قال أحد كبار الفقهاء، وهو أبو بكر بن العربى (من أهل القرنين الحادى عشر والثانى عشر)، فـ"قَوْله تَعَالَى: "فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ" عَامٌّ فِي كُلِّ مُشْرِكٍ، لَكِنَّ السُّنَّةَ خَصَّتْ مِنْهُ مَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ قَبْلَ هَذَا مِنْ امْرَأَةٍ وَصَبِيٍّ وَرَاهِبٍ وَحُشْوَةٍ حَسْبَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ، وَبَقِيَ تَحْتَ اللَّفْظِ مَنْ كَانَ مُحَارِبًا أَوْ مُسْتَعِدًّا لِلْحِرَابَةِ وَالإِذَايَةِ، وَتَبَيَّنَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالآيَةِ: اُقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ يُحَارِبُونَكُمْ".


ويمكن المضىّ فى الاستشهاد بهذه التفسيرات إلى ما لا نهاية. ومنها يتبين بكل وضوح أن تسوية سوكْدِيو بين "المسلمين المتشددين" و"علماء المسلمين القدامى" الذين يقولون إن الإسلام هو دين السيف" ليست متهافتةً فقط بل تشويهًا مطلقًا للحقائق. وعلى هذا فإما أن سوكْدِيو غير مؤهل لتحليل التراث الإسلامى والمقارنة بينه وبين الانحرافات الحديثة، وإما أنه يحرّف على نحوٍ متعمدٍ تعاليم الإسلام، وهو فى الحالتين يبرهن على أنه غير جدير بالثقة بتةً". هذا، ويجد القارئ الأصل الإنجليزى لذلك المقال كاملا مع ترجمتى له إلى العربية فى كتابى: "مختارات استشراقية إنجليزية عن الإسلام" (ط. المنار للطباعة والنشر/ القاهرة/ 1430هـ- 2009م/ 233- 269).


كذلك لا يكفّ النصارى أبدا عن الكلام فى الجزية وقسوة الجزية حتى ليخيَّل لمن لا يعرف الأمر أن المسلمين كانوا يصادرون أموال الأمم التى يفتحون بلادها مصادرة، مع أن المبلغ الخاص بالجزية لم يكن يزيد على بضعة دنانير فى العام عن الشخص الواحد، فضلا عن أنه لم تكن هناك جزية على الأطفال والنساء والشيوخ والرهبان. وفى المقابل كان غير المسلمين يُعْفَوْن من دفع الزكاة على عكس المسلم، كما كانوا يُعْفَوْن من الاشتراك فى الحرب. وبهذا يكون المسلمون قد سبقوا كالعادة، ودون شقشقة لفظية أيضا، إلى مبدإ الإعفاء من الحرب على أساس مما نسميه الآن: "تحرُّج الضمير"، إذ لمّا كان أهل البلاد المفتوحة غير مسلمين كانت الحرب تمثّل لهم عبئًا نفسيًّا وأخلاقيا أراد الإسلام أن يزيحه عن كاهلهم بطريقة واقعية سمحة. وفضلا عن هذا فإن المسلمين، فى الحالات التى لم يستطيعوا فيها أن يحموا أهل الذمة، كانوا يردون إليهم ما أخذوه منهم من جزية، إذ كانوا ينظرون إليها على أنها ضريبة يدفعها أهل الذمة لقاء قيامهم بالدفاع عنهم.


ومع ذلك كله يُبْدِئون ويُعِيدون فى مسألة الحروب الإسلامية مدَّعين بالباطل أن المسلمين كانوا يقتلون أهل البلاد التى يفتحونها إلا إذا دفعوا الجزية. والملاحظ أنهم يخلطون عن عمد بين القتال والقتل، فالآية التى وردت فيها لفظة "الجزية" تقول: "قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآَخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ (29)" (لاحظ: "قاتلوا" لا "اقتلوا". والفرق واضح لا يحتاج إلى تدخل من جانبى). وقد نزلت فى حق الروم، الذين كانوا يتربصون بدولة الإسلام ويتآمرون عليها ويهددونها بجيوشهم الجرارة. لقد قتل الروم مثلا الرسل والدعاة المسلمين الذين أرسلهم النبي صلي الله عليه وسلم إليهم، وكانوا يُعِدّون العدة لمهاجمة الدولة الإسلامية في عقر دارها، فكان لابد من قتالهم هم ومن يعضدهم من قبائل العرب النصارى المتحالفين معهم. ومعنى الآية أنه ينبغى على المسلمين أن يهبوا لمقاتلة الروم، الذين شرعوا فى ذلك الحين يتجهزون لاجتياح الدولة الإسلامية الوليدة متصورين أنها لقمة سائغة سهلة الهضم لن تأخذ فى أيديهم وقتا، فكان لا بد من قطع هذه اليد النجسة، وإلا ضاع كل شىء. كما كان لا بد أيضا من أخذ الجزية منهم عن يدٍ وهم صاغرون جزاءً وفاقا على بغيهم واستهانتهم بالمسلمين وتخطيطهم لاكتساح دولتهم دون أن يَفْرُط منهم فى حقهم أى ذنب!



وعلى أية حال فإن النصارى مأمورون بحكم دينهم أن يدفعوا "الجزية" (هكذا بالنص) لأية حكومة يعيشون فى ظلها وأن يعطوا ما لقيصر لقيصر، وما لله لله، حسبما قال لهم المسيح حرفيا (متى/ 22/ 17– 21، و12/ 24– 25، ومرقس/ 12/ 14– 17). كما أن بولس، الذى يخالف فى غير قليل من أحكامه ما قاله نبيُّه، قد كرر هنا نفس ما قاله السيد المسيح فأمرهم بالخضوع لأية حكومة تبسط سلطانها عليهم وألا يحاولوا إثارة الفتن، لأن تسلط هذه الحكومات عليهم إنما هو بقَدَر من الله كما قال لهم، ومن ثم لا ينبغى التمرد على سلطانها، بل عليهم دفع الجزية والجبايات دون أى تذمر: "لِتَخْضَعْ كلُّ نفس للسلاطين العالية، فإنه لا سلطان إلا من الله، والسلاطين الكائنة إنما رتَّبها الله* فمن يقاوم السلطان فإنما يعاند ترتيب الله، والمعاندون يجلبون دينونة على أنفسهم* لأن خوف الرؤساء ليس على العمل الصالح بل على الشرير. أفتبتغى ألا تخاف من السلطان؟ افعل الخير فتكون لديه ممدوحا* لأنه خادمُ الله لك للخير. فأما إن فعلتَ الشر فَخَفْ فإنه لم يتقلد السيف عبثا لأنه خادمُ الله المنتقمُ الذى يُنْفِذ الغضب على من يفعل الشر* فلذلك يلزمكم الخضوع لـه لا من أجل الغضب فقط بل من أجل الضمير أيضا* فإنكم لأجل هذا تُوفُون الجزية أيضا، إذ هم خُدّام الله المواظبون على ذلك بعينه* أدُّوا لكلٍّ حقه: الجزية لمن يريد الجزية، والجباية لمن يريد الجباية، والمهابة لمن لـه المهابة، والكرامة لمن لـه الكرامة" (رسالة القديس بولس إلى أهل رومية/ 13/ 1– 7). وهذا الكلام خاص بخضوع النصارى للحكومات الوثنية، فما بالنا بالحكومات المسلمة المؤمنة الموحِّدة التى لم يسمع أحد أنها فعلت بالنصارى ولا واحدا على الألف مما كانت تلك الحكومات تفعله بهم؟


ولنعد الآن إلى ما كنا بصدده من قسوة النصارى فى معاملتها للأمم الأخرى التى تسلطت عيها. وهنا يثور السؤال التالى: ترى لماذا كان تعامل النصارى بهذه القسوة مع غيرهم رغم الكلام المعسول عن المحبة والتسامح وما إلى ذلك؟ والجواب أوَّلا هو أن هذا الكلام المعسول إنما يخص العلاقات الفردية لا الدولية، فالنصرانية لم يكن لها أية سلطة على عهد السيد المسيح، الذى رأيناه هو وحوارييه، على العكس من ذلك، يحاكَمون على يد أعدائهم وبمقتضى قوانين هؤلاء الأعداء. وحتى على المستوى الفردى قد وجدنا أن مثل هذه المبادئ لا تؤكِّل عيشا. وإلى جانب هذا فالنصرانية ديانة لا تقوم على العقل، بل تطلب من الشخص أن يؤمن دون مناقشة أو تفكير، وعلى ذلك فإنها فى الواقع تفتقر إلى هذا التسامح الذى تدّعيه. ومعروف أنه كلما بالغ الشخص فى الحديث عن مزاياه وأزعج الآخرين بها بداعٍ وبدون داعٍ كان ذلك دليلا على كذبه. ومن ثَمَّ فإنها حين وجدت نفسها ذات سيادة ودولة ورأت أنها لا تملك أية تشريعات تتعلق بالحكم والعلاقات الدولية انكفأت إلى العهد العتيق من الكتاب المقدس تستلهمه المشورة فلم تجد إلا الحروب والتشريعات اليهودية التى تتسم بالقسوة الوحشية المفرطة فى معاملة الأعداء فى الحرب وبعد الحرب على السواء دون التقيد بأية التزامات أخلاقية أو إنسانية.



ولسوف أقتصر هنا على نص واحد من النصوص التى وردت فى العهد العتيق خاصة بالحرب. جاء فى سفر "تثنية الاشتراع": "وإذا تقدَّمْتَ إلى مدينة لتقاتلها فادْعُها أولا إلى السلم* فإذا أجابتك إلى السلم وفتحت لك فجميع الشعب الذين فيها يكونون لك تحت الجزية ويتعبدون لك* وإن لم تسالمك بل حاربتك فحاصَرْتَها* وأسلمها الرب إلهك إلى يدك فاضرب كل ذَكَرٍ بحدّ السيف* وأما النساء والأطفال وذوات الأربع وجميع ما فى المدينة من غنيمة فاغتنمها لنفسك، وكُلْ غنيمةَ أعدائك التى أعطاكها الرب إلهك* هكذا تصنع بجميع المدن البعيدة منك جدا التى ليست من مدن أولئك الأمم هنا* وأما مدن أولئك الأمم التى يعطيها لك الرب إلهك ميراثًا فلا تستَبْقِ منها نسمة* بل أَبْسِلْهم إبسالا..." (20/ 10– 17). هذا مثال من التشريعات التى وجدها النصارى تحت أيديهم فطبقوها بمنتهى الدقة والإخلاص متى واتتهم الظروف كما حدث فى أمريكا وأستراليا مثلا، وكما حدث فى الأندلس عندما سقطت فى أيديهم فنكَّلوا بالمسلمين تنكيلا رهيبا، وكما حدث كذلك فى فلسطين، التى امتلخوها من العرب والمسلمين وأعطَوْها لليهود. وكدَيْدَنِهم عملوا على أن يصبغوا هذه الجريمة بصبغة إنسانية فزعموا أنهم إنما يريدون أن يعوّضوا اليهودَ عما ذاقوه من ويلات. على يد من؟ على يد النصارى أنفسهم، وليس على أيدى العرب والفلسطينيين! لكن متى كان الإجرام والتوحش يبالى بمنطق أو عدل أو أخلاق؟ أما الحرب فى الإسلام فلا تُشَنّ إلا للدفاع عن النفس كما هو معلوم. أما عند هزيمة العدو فإننا نأسره ولا نقتله، ثم بعد انتهاء الأعمال القتالية فإما أطلقنا سراح الأسرى دون مقابل، وإما أخذنا منهم الفدية لقاء تركهم يعودون لذويهم. أما المحو والاستئصال الذى يأمر رب اليهود شعبه به فلا مجال لـه فى الإسلام! وفى النهاية أرجو أن يكون القارئ قد تنبه لحكاية "الجزية" فى النصوص السابقة المأخوذة من الكتاب المقدس بعهديه العتيق والجديد جميعا!


وهم أيضا يُزْرون على تعدد الزوجات! ألا يعرفون أن إبراهيم وموسى وسليمان وداود وغيرهم من أنبياء العهد القديم كانوا من أهل التعديد، بل كان فى حريم بعضهم عشرات النساء؟ ألا يعون أنهم بهذا يلوّثون عيسى نفسه، الذى ينتمى إلى داود وسليمان، وكانا من أهل التعديد كما ذكرنا؟ لقد كان جواز تعدد الزوجات هو تشريع الأنبياء، لكن مؤلف إنجيل متى عزا لعيسى كلاما فهم منه القوم أنه يحرم التعدد، مع أن الكلام لم يكن فى التعدد قط، بل فى الطلاق! يقول متى (19/ 3– 12): "ودنا إليه الفَرِّيسِيُّون ليجربوه قائلين: هل يحلّ للإنسان أن يطلِّق زوجته لأجل كل عِلَّة؟* فأجابهم قائلا: أما قرأتم أن الذى خلق الإنسان فى البدء ذكرًا وأنثى خلقهم وقال:* لذلك يترك الرجل أباه وأمه ويلزم امرأته فيصيران كلاهما جسدا واحدا؟* فليسا هما اثنين بعد، ولكنهما جسدٌ واحد. وما جمعه الله فلا يفرّقه إنسان* فقالوا له: فلماذا أوصى موسى أن تُعْطَى كتابَ طلاق وتُخَلَّى؟* فقال لهم: إن موسى لأجل قساوة قلوبكم أذِن لكم أن تطلّقوا نساءكم، ولم يكن من البدء هكذا* وأنا أقول لكم: من طلَّق امرأته إلا لعلة زنى وأخذ أخرى فقد زنى* فقال له تلاميذه: إن كان هكذا حال الرجل مع امرأته فأجدرُ لـه ألا يتزوج* فقال لهم: ما كل أحد يحتمل هذا الكلام إلا الذين وُهِب لهم* لأن من الخصيان من وُلِدوا كذلك من بطون أمهاتهم، ومنهم من خصاهم الناس، ومنهم من خَصَوْا أنفسهم من أجل ملكوت السماوات. فمن استطاع أن يحتمل فلْيحتمل".



هذا هو نص الكلام الذى ذكروا أن عيسى عليه السلام قد قاله فى تعدد الزوجات وفهموا منه أنه يحرّم هذا النظام الذى أقره الأنبياء جميعا. ومن الواضح أن عيسى عليه السلام (إن كان هو فعلا قائل هذا النص) لم يتطرق لموضوع التعدد من قريب أو بعيد، إذ كان الكلام كله عن الطلاق. وإذا كان قد عرَّج على سبيل الاستطراد إلى موضوع الإضراب عن الزواج، فهذا أيضا لا علاقة لـه بالتعدد من قريب أو بعيد. أما قوله: "ذكرًا وأنثى خلقهم" فلا أدرى كيف يمكن أن يؤدى إلى إلغاء التعديد، إلا إذا كان الله سبحانه وتعالى قد خلق لكل رجلٍ زوجةً باسمه لا يتزوجها إلا هو، ولا تموت قبله أو يموت هو قبلها، وإلا إذا كان عدد الرجال فى كل المجتمعات مساويا تماما لعدد النساء فى كل العصور، وهذا عكس المشاهد للأسف فى هذه الدنيا الغريبة التى يريد بعض المتهوسين أن يصبّوها فى قوالب من حديد كما كان يفعل أهل الصين مع أقدام بناتهم الصغيرات قديما حتى لا تكبر بل تظل دقيقةً مُسَمْسَمَة، إذ إن النسبة المئوية لعدد من فى سن الزواج فى المجتمعات كلها تميل دائما لصالح المرأة كما تقول الإحصاءات السكانية. ولا ننس بالذات الحروب، التى يروح فيها من أرواح الرجال أكثر مما يذهب من أرواح النساء.


ثم جاء بولس، الذى قلب كيان النصرانية رأسًا على عقب، فقال فى رسالته الأولى إلى أهل كورِنْتُس (7/ 1– 2): "أما من جهة ما كتبتم به إلىَّ فحسَنٌ للرجل ألا يَمَسّ امرأة* ولكن لسبب الزنى فلتكن لكل واحدٍ امرأته، وليكن لكل واحدةٍ رجلها "، وإن فُهِمَ من حديثٍ آخَرَ لـه أن هذا الحظر إنما هو خاصّ بالشمامسة (تيموتاوس/ 1/ 12). وهذا كلام يدل أقوى دلالة على أن هذا الرجل لم يكن يتمتع بأى فهم للطبيعة البشرية: فالإنسان لا يتزوج فقط من أجل ألا يقع فى الزنى، بل لأن الحياة لا يمكن أن تستمر إلا عن طريق لقاء الذكر والأنثى، كما أن الحب وممارسة الجنس يشكلان متعةً من أحلى متع الحياة الإنسانية وأعمقها، متعةً ينبغى على المؤمن أن يشكر المولى عليها لا أن ينظر إليها على أنها بلوى أقصى ما يمكنه تجاهها هو الصبر عليها فى مضض وتأفف. ولو أن نصائح بولس قد أُخِذ بها لكان فيها نهاية الحياة! إن هذه النصائح المتطرفة إنما تنبع فى الحقيقة من النظرة الدونيّة التى تنظر بها النصرانية إلى المرأة والجسد الإنسانى، وهذه النظرة قد ورثتها الكنيسة من العهد العتيق وما يقوله عن قصة الخلق وخروج آدم من الجنة بسبب إغراء حواء لـه بعصيان النهى الإلهى عن الأكل من الشجرة واستحقاق المرأة من ثَمّ ابتلاء الله لها بعبء الحمل والولادة وإيقاع العداوة بينها وبين الرجل (تكوين/ 3/ 6– 24)، وهو ما يختلف فيه الإسلام عن النصرانية اختلافًا جِذْرِيًّا، إذ عندنا أن الذنب الذى أخرج أبوينا من الجنة هو ذنبهما جميعا لا ذنب حواء فقط، كما أن العلاقة بين الرجل والمرأة هى علاقة السكن والمودة والرحمة كما يقول القرآن المجيد (الروم/ 21) لا علاقة العداوة والبغضاء.



ولقد كانت النتيجة، وهنا وجه المفارقة، هو هذا السعار الجنسى الذى اشتهرت به أمم الغرب بعد أن لم تعد تطيق قيود النصرانية التى تعمل على وَأْد التطلعات والغرائز البشرية. ذلك أن غرائز البشر وتطلعاتهم لا يمكن تجاهلها، فضلا عن قهرها أو إلغائها كما يحاول الأغبياء. لكن من الممكن، ومن المطلوب أيضا، ترويضها والسمو بها إلى أقصى قدر ممكن، وهذا ما يفعله الإسلام. ولقد كان رجال الدين النصارى على رأس المنفلتين من هذه القيود الخانقة، وفضائحهم معروفة للقاصى والدانى فى كل العصور. وهذا أحد الأسباب التى جعلت الأوربيين يكرهونهم ويرَوْن فيهم مثالا للنفاق البغيض! وما فضائح باباوات روما فى العصور الوسطى واصطحاب بعضهم لعشيقاتهم معهم فى جولاتهم فى أرجاء أوربا لمباركة جموع المؤمنين، ولا الصلات الجنسية الحرام التى كانت بين بعض آخر منهم وبين أخواتهم بمجهولةٍ لمن عنده أدنى فكرة عن أحوال رجال الدين هناك قبل عصر النهضة الذى تخلص فيه الأوربيون من قيود النصرانية المُعْنِتَة.


وحتى فى موضوع الطلاق لا يعدو الكلام أن يكون عبارات شاعرية ساذجة لا دلالة لها على شىء فى الواقع والحقيقة، إذ ما معنى أن ما جمعه الله لا يفرّقه إنسان؟ إن الزواج إنما هو اختيار إنسانى قام أيضا بتوثيقه كائن إنسانى، فشأنه إذن كشأن أى شىء آخر من شؤون الحياة. فلماذا أُفْرِد وحده بهذا الوضع دون سائر الأمور الإنسانية؟ أما إن قيل إن الله هو فى الحقيقة خالق كل شىء، فإن الرد هو أنه لا مُشَاحّة فى هذا، لكننا ضد إفراد الزواج بذلك الحكم، ونرى أن هذا الوضع ينطبق أيضا على عملية الطلاق، مَثَله مثَل أى شىء آخر. ثم ما الحكمة فى أن يُعْنِت الله سبحانه وتعالى عبادَه فلا يرضى أن يرحمهم من قيود الزواج إذا ثبت أنه لا أمل فى أن يجلب لطرفيه السعادة؟ إن كثيرا من البلاد النصرانية قد انتهت إلى أنْ تضرب بهذه الأحكام عُرْض الحائط، إذ وجدت أنها لا تؤدى إلا إلى التعاسة والشقاء. وفى بعض البلاد يُقْدِم الزوج أو الزوجة فى حالات كثيرة إلى ترك النصرانية جملةً والدخول فى الإسلام، الذى يجدانه أوفق للطبيعة الإنسانية. فإلى متى هذا الخنوع لبعض الألفاظ الشاعرية التى قد تدغدغ العواطف فى مجال التفاخر الكاذب بمثالية أخلاق دينٍ ما، لكنها لا تجلب للمتمسكين بها إلا العَنَت والإحباط؟



إن كثيرا من الأزواج فى المجتمعات النصرانية هم فى الواقع مطلَّقون، لكنْ طلاقًا غير رسمى، وهم يسمونه: "انفصالا". وفى هذه الأثناء التى قد تطول سنين، كثيرا ما يصعب على الزوج والزوجة، تحت ضغط الغرائز، أن يمتنعا عن ممارسة الجنس فى الحرام، فلماذا كل هذا الإعنات؟ وحَتَّامَ يستمر هذا العناد والنفاق؟ إن الطلاق شديد البغض إلى الله كما قال صادقا سيدنا رسول الله، لكن الظروف قد تضطر الواحد منا إلى فعل ما هو بغيض تجنبا لما هو أفدح وأنكى. ومن هنا كان الطلاق عندنا حلالا رغم كونه بغيضا، أى أن المسلم لا يُقْدِم عليه إلا إذا سُدَّت فى وجهه جميع السبل الأخرى حسبما يعرف كل من له أدنى إلمام بالشريعة الإسلامية.


* * *