ويبدو أن الذي دفع ابن تومرت للقيام بعمليات التمييز هو تراجع عدد كبير من الداخلين في دعوته عنها، وذلك بسبب ماتحمله من غلو وشطط، فقام بهذه العملية للتخلص من الذين يشك في اخلاصهم خشية أن يقوى رد الفعل المضاد لدعوته ولما حل ابن تومرت تينمل، أواه أهلها وأعلنوا طاعتهم له، لكنهم كانوا كثيري العدد وافري العدة، وفي منعة بسبب حصانة مدينتهم، فأمرهم ابن تومرت بأن يحضروا إلى المسجد بغير سلاح فلما فعلوا ذلك عدة مرات أمر بعض أتباعه المقربين أن يقتلوهم ففعلوا، ثم دخلوا المدينة وقتلوا منها عدداً كبيراً من الرجال حتى بلغ عدد الذين قتلوا بهذه الحادثة خمسة عشر ألف رجل ولكي لاتحدث هذه الأعمال رد فعل عند اتباعه، أو تلقى معارضة عند الناس، فإنه كان يظهر بشيء من الخوارق والمعجزات حتى يؤصل في نفوس الناس شرعية مايقوم، ويدعو إليه، فقد ذكر المؤرخون انه كان يتواطأ مع بعض أصحابه على أن يدفنهم في المقابر وهم أحياء حيث يترك لهم مكاناً للتنفس، ويأمرهم بأن يكلموه إذا دعاهم، وليشهدوا له بما يطلبه منهم كأن يشهدوا بأنه المهدي الذي بشر به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنه هو الذي يملأ الأرض قسطا وعدلا، كما ملئت جوراً وظلماً، وأن من اتبعه أفلح، ومن خالفه خسر، وحينما يسمع أتباعه أن الموتى يكلمونه، ويشهدون له بصحة مايدعوا إليه ويعظم اعتقادهم فيه، وتتأكد طاعتهم له، أما أولئك المقبورون فانه بعد أن ينهوا المهمة التي من أجلها قبوروا يستبيح دمائهم حيث يهدم عليهم قبورهم حتى يموتوا لكي لايفشوا سره بعد ذلك.
هذه صورة وأمثلة للأعمال التي قام بها ابن تومرت واستحل بها دماء الناس المعصومة بغير حقها، حتى ولو كانوا من أنصاره أو المقربين اليه، ولاشك أن هذا العمل يعد في نظر الإسلام كبيرة من كبائر الذنوب حتى ولو كان المقتول شخصاً واحداً، فكيف يجوز لابن تومرت أن يقدم على هذه الأعمال المتنافية مع الشرع الحنيف وهو يحسب نفسه داعية إلى الله بل مهدياً معصوماً!؟.
وإني لأستغرب من الدكتور عبدالمجيد النجار في تسمية كتابه "تجربة الإصلاح في حركة المهدي بن تومرت" وكان الأولى به أن يسميها تجربة الإفساد والتدمير في حركة المهدي بن تومرت ومن العجب أن المعهد العالمي للفكر الإسلامي جعل كتاب الدكتور عبدالمجيد النجار من ضمن سلسلة حركات الإصلاح ومناهج التغيير وهذا يدل على غياب المنهج الصحيح لتقويم اعمال القادة والدول والشعوب والحركات.
جعل ابن تومرت منهجية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أصلاً في دعوته، ولذلك اجتهد في محاربة المنكرات التي انتشرت بين عوام الناس بكل مايملك من قوة ووجه سهامه نحو الفقهاء والعلماء للتقليل من هيبتهم، واضعافهم ليتسنى له أن ينشر عقيدته المختلطة، ويؤصل م####د من الأحكام والأقوال على النهج الذي يخدم اهدافه ولذلك نجده عندما استقر في منطقة السوس ينهج وجهتين رئيسيتين:
1- التربية العقدية الروحية:
استغل بن تومرت جعل اتباعه من البدو والأميين الذين لايستطيعون أن يفهموا الشريعة من اصولها المعتمدة وكتب لهم شيئاً في العقائد والعبادات بعضها باللسان البربري وبنى مكاناً للعبادة ولتعليم الطلبة على منهجه الذي رسمه وتربيتهم عليه.
قال ابن خلدون: (فنزل على قومه وذلك سنة خمس عشرة وخمسمائة، وبنى رابطة للعبادة، فاجتمعت إليه الطلبة والقبائل يعلمهم المرشدة في التوحيد باللسان البربري)
وألزم أتباعه بحفظ شيء من القرآن والحديث النبوي وتعلم المرشدة
واستيعاب حقائق التوحيد بمذهب علم الكلام، وتحقيق احكام العبادة وكان يوزّع اصحابه في حلقات كل عشرة يكون مسؤلاً عليهم أحد الطلبة النابهين، ونهج منهج الشدة في التعليم والتربية واحدث أحكاماً تبلغ إلى الضرب بالسياط لمن يظهر منه التهاون في حضور الأوقات أو في حفظ مايطلب منه حفظه.
وكان هذا المنهج يسود جميع أفراد المجتمع الجديد أما من برز في العلم من أصحابه فالف لهم كتباً ورسائل خاصة وهي كتب ورسائل خصص معظمها للاستدلال العقلي على العقيدة التي جمعها من مذاهب شتى وفرق عدة.
واهتم بالجانب الروحي واعتمد في تربيته لأصحابه على التزهيد في متاع الدنيا، والترغيب في الآخرة، والإعداد للجهاد في سبيل الله طلباً للشهادة، ومما خاطب به أتباعه في ذلك قوله: "ولاتنازعوا ولا تغتروا بالدنيا فإنها وكل من عليها فان واحذروا من مكرها وتقلب احوالها.. وتزودوا منها إلى دار الآخرة واستعدوا منها بالعمل الصالح تفوزوا بذلك عند الله فوزاً عظيماً...).
2- التربية الاجتماعية:
وبعد أن حرص على بناء الأفراد علمياً وروحياً شرع في بناء المجتمع الجديد على أسس من التعاون والتناصر والتآخي وجعل أهل جبال أطلس في تينملل الانصار ومن جاءهم من غيرهم المهاجرين وقعد قواعد في هذا المجتمع للتآخي والتعاون وإغاثة المظلوم، واحترام الممتلكات، حمل عليها الكافة ووضع تعازير قاسية لعقاب من يتعدّاها وربط المجتمع الجديد بوشائج القربى بين القبائل المختلفة بطريق المؤاخاة بينها أو بطريق المصاهرة المتبادلة وخاطب قيادة مجتمعه الجديد بقوله: (مافي الأرض من يؤمن إيمانكم، وأنتم العصابة الذين عنى النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: "لايزال أهل المغرب ظاهرين"وأنتم تفتحون الروم وتقتلون الدّجال، ومنكم الذي يؤمُّ بعيسى، وحدَّثهم بجزئيات اتفق وقوع أكثرها، فعظمت فتنة القوم به..).
ويصف الأمير عزيز في كتابه (أخبار القيروان) المجتمع الموحدي (لهم تودُّد وأدب وبشاشة، ويلبسون الثياب القصيرة الرخيصة ولايخلون يوماً من طرادٍ ومثاقفة ونضال...).
ويصف بن خلكان محمد بن تومرت فيقول: (قبره بالجبل معظم، مات كهلاً، وكان أسمر ربعةً، عظيم الهامة، حديد النظر مهيباً، وآثاره تغني عن أخباره، قدم في الثرى، وهامة في الثريا، ونفسُ ترى إراقة ماءِ الحياة دون إراقة ماء المحيَّا، أغفل المرابطون ربطه وحلّه، حتى دبَّ دبيبَ الفلقِ في الغسق، وكان قوته من غزل أخته رغيفاً بزيت، أو قليل سمن، لم ينتقل عن ذلك حين كثرت عليه الدنيا، رأى أصحابه يوماً، وقد مالت نفوسهم إلى كثرة ماغنموه، فأمر بإحراق جميعه، وقال: من أراد الدنيا، فهذا له عندي، ومن كان يبغي الآخرة، فجزاؤه عند الله، وكان يتمثل كثيراً:
تجرد من الدنيا فإنك إنما
خرجت إلى الدنيا وأنت مجرد
ثانيا: المنهج السياسي:
حرص بن تومرت بعد رجوعه أن يسلك طريق النصح والإرشاد والوعظ، ولذلك اتصل بالامراء وولات الأمر في المدن والعواصم يعظهم ويرشدهم ويبين لهم مواقع الانحراف والفساد ويحمّلهم المسؤولية في ذلك، ويحثهم على القيام بالأمر الواجب من محاربة المنكر ونشر المعروف وتوّج أمره بنصح أمير المسلمين علي بن يوسف ونبهه إلى انتشار المنكرات ووعظه وأغلظ له القول وقال له (إنما أنا رجل فقير طالب الآخرة ولست بطالب دنيا ولاحاجة لي بها، غير أني آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، وأنت أولى من يفعل ذلك، فإنك المسئول عنه، وقد وجب عليك إحياء السنة وإماتة البدعة، وقد ظهرت بمملكتك المنكرات، وفشت البدع، وقد أمرك الله بتغييرها وإحياء السنة بها إذ لك القدرة على ذلك وأنت المأخوذ به والمسئول عنه).
وبعد أن غادر مراكش بمدة يسيرة بادر بأن "خلع مبايعة علي بن يوسف من أعناق تابعيه وأصحابه، وأعلن الجميع بخلعه" وانتهج ابن تومرت سياسة واضحة المعالم للقضاء على النظام القائم وبناء نظام جديد وكانت خطته تسير في سبل ثلاثة، حملة نقدية للمرابطين، وإقامة تنظيم سياسي، وتعبئة نفسية للأنصار:
1- الحملة النقدية ضد المرابطين:
جعل ابن تومرت من اهدافه شن هجوم على حكام المرابطين، ومحاولاً فسخ ولاء القبائل للمرابطين فسخاً نهائياً وترسيخ ولائهم له: "فكل من اطاعهم في معصية الله وأعانهم على ظلمهم في سفك دماء المسلمين وأخذ أموالهم، وكلّ من أعانهم من القبائل فادعوهم إلى التوبة والانابة والرجوع إلى الكتاب والسنة وترك معونة المجسمين والمرتدين والمعتدين، فإن قبلوا منكم ورجعوا إلى السنة وأعانوهم على جهاد الكفرة فخلّوا سبيلهم وهم إخوانكم في دين الله وسنة رسوله، وإن عاندوا الحق وأصرّوا على معونة أهل الباطل والفساد فاقتلوهم حيث وجدتموهم" وشن حرباً نفسية على حكام وامراء واتباع المرابطين في رسالته إليهم "الى القوم الذين استزلهم الشيطان، وغضب عليهم الرحمان، الفئة الباغية، والشرذمة الطاغية لمتونة، أما بعد قد أمرناكم بما نأمر به أنفسنا من تقوى الله العظيم، ولزوم طاعته ، وان الدنيا مخلوقة للفناء والجنة لمن اتقى ، والعذاب لمن عصى، وقد وجبت لنا عليكم حقوق بوجوب السنة، فإن اديتموها كنتم في عافية، وإلا فنستعين بالله على قتالكم حتى نمحو آثاركم، ونكدر دياركم ، ويرجع العامر خالياً ، والجديد بالياً ، وكتبنا هذا إليكم إعذاراً وإنذاراً ، وقد أعذر من أنذر، والسلام عليكم سلام السنة لا سلام الرضى".
وهكذا شرع بن تومرت في توجيه حملة نقدية إلى دولة المرابطين ووسع نطاقها واستهدف بها كافة الناس من اهل المغرب موالين او معادين وحاول أن يعزل الحكام عن عامة الناس بفضح سياستهم، وتضخيم أخطائهم، تنفيراً للنفوس منهم وتمهيداً لنزع ولائهم ثم لمعاداتهم وإمعانا منه في تهجينهم وتشويه صورتهم اخترع الألقاب المشينة ورماهم بها كا (المجسمون) و (الزراجنة) تشبيهاً لهم بطائر أسود البطن أبيض الريش يسمى الزرجان لأنهم بيض الثياب
2- التنظيم السياسي:
وضع ابن تومرت لدولته الجديدة تشكيلاً سياسياً بحيث يضم وينظم ويرتب جميع افراد الدولة حتى يضمن ويعمق ولائهم للدعوة ويمكن مراقبتهم والاشراف عليهم ولذلك نظم ابن تومرت أتباعه في طبقات متباينة في عددها، مختلفة في واجباتها الملقاة على عاتقها. وقد بلغت طبقات الموحدين التي صنفوا بموجبها أربع عشرة طبقة. كانت الطبقات الثلاثة الأولى، أهم هذه الطبقات، من حيث انتماء أكبر رجال الموحدين إليها، من مشائخ القبائل وزعماء المصامدة وكبار الشخصيات، الذين تتوفر لهم الكفاءات العقلية والقدرات العسكرية، وكانت أهم واجبات هذه الطبقات هي معالجة أمور الموحدين وتسيير دفة الحكم. أما الطبقات الأخرى فكانت واجباتها عسكرية وعلمية ودينية .
وقد جعل الدكتور عبدالمجيد النجار هذه الطبقات في أربعة أجهزة أساسية وبين مهماتها التي انيطت بعهدتها:
الجهاز الأول: جهاز سياسي، ويشتمل على المجالس الثلاثة المتقدمة الذكر: مجلس العشرة، ومجلس الخمسين، ومجلس السبعين.
الجهاز الثاني: جهاز علمي ثقافي، ويشتمل على طبقة الطلبة، وهم الذين بلغوا درجة مرموقة من العلم، وطبقة الحفاظ وهم صغار الطلبة.
الجهاز الثالث: جهاز عسكري، ويشتمل على طبقة الجند وطبقة الرماة والغزاة.
والجهاز الرابع: جهاز شعبي، يضمّ مجموعة من القبائل وهي: هرغة، وأهل تينمل، وجدميوه، وجنفيسة، وهنتاتة، وأهل القبائل قال ابن الخطيب: (لكل صنف من هذه الأصناف رتبة لايتعدّاها غيرهم لا في سفر ولا في حضر، لاينزل كل صنف إلا في موضعه لا يتعداه، فانضبط مراده".
لقد عالجت هذه الأجهزة المشاكل المطروحة على الجماعة الجديدة معالجة تقوم على التخصص ضماناً للمزيد من النجاح واجتنابا للعفوية والفوضى، وقد كانت المهام الكبرى المطروحة على هذه الجماعة مهام ثلاثة: مهمة سياسية تتعلق برسم المسار السياسي للجماعة الناشئة، وهي التي تكفلّ بها الجهاز الأول. ومهمة تربوية تتعلق بنشر المبادئ العقدية التي قامت عليها الدعوة، وهي التي تكفلّ بها الجهاز الثاني، ومهمة دفاعية تتعلق بحماية الجماعة والعمل على نموها وامتدادها وهي التي تكفل بها الجهاز الثالث.
أما الجهاز الرابع فيبدو أنه وضع لحصر الأتباع وإحكام ارتباطهم، وربما قام بمهمة دفاعية أو دعائية، فيكون بدور مانسميه بالمنظمات الشعبية المرتبطة بالدولة. وقد لخص ابن الخطيب هذه الأدوار والمهام المتكاملة في قوله: "أهل الجماعة للتفاوض والمشورة.. وأهل خمسين وسبعين والحفاظ والطلبة لحمل العلم والتلقي، وسائر القبائل لمدافعة العدوّ".
لقد كانت الآفاق السياسية واضحة المعالم في فكر محمد بن تومرت ولذلك أسس بديلاً سياسياً اجتماعياً تربوياً ليحل محل النظام السياسي والاجتماعي والتربوي في دولة المرابطين.
لقد اظهر ابن تومرت في منهجه السياسي ملكة تنظيمية كبرى، وقبض بيد من حديد على انصاره، فأعطى مجلس العشرة سلطاناً كبيراً وحكمهم في الناس، وجعل مجلس الخمسين كلهم رؤساء القبائل، وسيطر بواسطتهم على القبائل، وجعل الجميع عيوناً له بعضهم على بعض، يوافونه بكل صغيرة او كبيرة مما يقع حوله أو يصلهم من أنباء مما جعل ابن تومرت مطلعاً على أمور مجتمعه الجديد وأصبح مطاعاً ومرهوباً في جماعة كبيرة من المصامدة تطيعه طاعة عمياء حقا، وتخاف منه خوفاً شديد...).
3- تعبئة الأنصار:
كانت مهمة بن تومرت صعبة جداً حيث أنه استهدف دولة عرفت بجهادها في الصحراء الكبرى وفي اسبانيا وكان لها الفضل بعد الله في توحيد المغرب الأقصى مع الأندلس واشتهر حكامها بالصلاح والعدل والجهاد وحب الخير لعموم الأمة ولذلك حرص على تعبئة انصاره واقناعهم أنهم على درب الحق، وأن خصمهم على درب الباطل واعتمد في تعبئته لأنصاره على:
أ- غرس الثقة في نفوسهم وبأنهم على الحق:
ولذلك خاطبهم بقوله: (ماعلى وجه الأرض من يؤمن إيمانكم، وأنتم العصابة المعنيون بقوله عليه الصلاة والسلام: لاتزال طائفة بالمغرب ظاهرين على الحق لايضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله، وأنتم الذين يفتح الله بكم فارس والروم، ويقتل الدجال، ومنكم الأمير الذي يصلي بعيسى ابن مريم، ولايزال الأمير فيكم إلى قيام الساعة...).
وحرص بن تومرت على رد كل ما يوقع في نفوس أصحابه من الوهن من طعون المرابطين الموجهة إلى هذه الدعوة التي اصبحوا من أنصارها، فكان لايكل ولا يمل في تفنيد كل ماوجهه المرابطون من حملة مضادة ضد دعوته البدعية وقاد بن تومرت حملة دعائية مضادة، ومن ذلك ماخاطب به أصحابه قائلاً: "واعلموا وفقكم الله أن المجسمين والمكّارين وكل من نسب إلى العلم أشد في الصد عن سبيل الله من إبليس اللعين، فلا تلتفتوا إلى مايقولونه، فإنه كذب وبهتان وافتراء على الله ورسوله، ومانسبوكم إليه من الخلاف لله والرسول فذلك خب وغش للمسلمين وخيانة لله ورسوله... فانتبهوا وفقكم الله لهذه الحيل التي يحتالون بها على عيشهم ودنياهم حتى حملهم ذلك على الافتراء على الله ورسوله حتى عكسوا الحقائق وقلبوها وحرّفوا الكلام عن مواضعه. ونسبوا من دعا إلى التوبة والتوحيد واتباع السنة إلى الخلاف وسموه مخالفاً ببغيهم..".
لقد استطاع بن تومرت أن يقنع اتباعه وانصاره بأنهم الطائفة المنصورة والتي تقيم أمر الله وتجاهد في سبيله وشحن بذلك النفوس، واقنع العقول، وأخذ خطوة أخرى لتعزيز مكانته وبسط هيمنته على اتباعه وزعم بأنه المهدي المنتظر والإمام المعصوم.
وسلك مسالك متعددة من أجل اقناع اصحابه واتباعه بأنه المهدي المعصوم، فحرص على الظهور بمظهر الاستقامة والتدين والإخلاص، فزهد في متاع الدنيا من مأكلاً وملبساً ومسكناً، ثم جعل ثقة انصاره به ذات اتجاه عقدي بحيث تمنع نفوس الاتباع من الضعف والتراجع امام أوامره وتوجيهاته، فأقنعهم بأنه الإمام المنتظر والمهدي المعصوم وبأن نسبه يرجع ضارب في اعماقه في آل البيت المطهر، وبذلك استطاع بهذه التعاليم المتعالقة بالإمامة أن يرشح ثقة اتباعه به، وأن يضمن ولائهم الدائم، وطاعتهم المطلقة ، ولم ينسى أن يحرك نفوس المصامدة للتطلع إلى انشاء دولة لهم، فهم معظم سكان المغرب الأقصى، وهم قبائل ضخمة ذات قوة وعدد، تمتد من شمال المغرب الأقصى الى جنوبه، ولاينقصها الا توحيد الصفوف والقيادة السليمة. واقنعهم بأنه القيادة المثلى لهذه القبائل.
4- المنهج العسكري:
وبعد أن نظم صفوفه واحكم تنظيمه، اصد انذاره وتهديده إلى المرابطين: "قد أمرناكم بما نأمر به أنفسنا من تقوى الله العظيم ولزوم طاعته، وأن الدنيا مخلوقة للفناء، والجنة لمن اتقى، والعذاب لمن عصى، وقد وجبت لنا عليكم حقوق بوجوب السنة، فإن أديتموها كنتم في عافية، وإلا فاستعين بالله على قتلكم...) . وكانت هذه الخطوة تمهيداً منه نحو قتال المرابطين، وحرص على ترسيخ عقيدة الجهاد وحببه لجنوده، واقنعهم بأن جهاد المرابطين فرض عليهم، كما فرض علىالصحابة جهاد الكفرة "فالدين الذي جاهدوا عليه هو الدين لايحول ولا يزول، حتى ينفخ في الصور، والسنة التي قاتلوا عليها هي هذه لاتتبدل ولاتتغير حتى يرث الله الأرض ومن عليها .. فجهاد الكفرة الملثمين قد تعين على كل من يؤمن بالله واليوم الآخر لاعذر لأحد في تركه ولاحجة له عند الله، فإنهم سعوا في هدم الدين، وإماتة السنة".
ولما بذل بن تومرت جهده في اعداد أصحابه اعداداً عقدياً جعل يعد العدة المادية، فجعل يجمع المقاتلين متخيراً الأقوياء الصادقين وتخلص من كل من شك فيه في صفوفه ومن أعالي جبال الأطلس واصل بن تومرت حملته الاعلامية التشويهية على المرابطين واصفاً إياهم بأقذع الأوصاف فاضطر الأمير علي بن يوسف أن يسل الحسام لأخماد تلك الفتنة، فوجه إليه وزيره ينتان بن عمر على رأس جيش كبير للقضاء عليه إلا أن ذلك الجيش رجع بدون قتال واستغل بن تومرت ذلك وجعلها منة من الله عليهم وما فعله ينتان في حقيقته هروباً وخوفاً من لقاء الموحدين وتعاظم خطر بن تومرت واستمر علي بن يوسف في ارسال الحملات تلو الحملات لاستئصال شأفته ولكن جميعها كان مصيرها الفشل والهزيمة ومن هذه الحملات حملة أبي اسحاق ابراهيم الذي وجهه إليه على رأس جيش كبير ولكنه انهزم أمام بن تومرت دون قتال وتعقبتهم القوات الموحدية وقتلت أعداد كبيرة منهم وغنموا حملتهم. وقد اغتم أمير المسلمين لهزيمة جيشه، وبادر بإرسال حملة أخرى بقيادة الأمير سير بن مزدلي اللمتوني الذي أضاف هو أيضاً هزيمة إلى سجل الهزائم
المرابطية على يد الموحدين، وكان بن تومرت يبشر أصحابه بالغنائم والنصر قبل نشوب المعارك فيقول لهم: "انظروا إلى أعدائكم، واعلموا أن كل ماجاءوا به من خيل وعدة، إنما هو هدية من الله تعالى لكم، على غربتكم وفقركم، فأعطاكم وأغناكم"(2) وكان ينزل في المعارك بنفسه ويبدو أن بن تومرت لم تكن تعوزه الخبرة العسكرية، فقد تمرس بالقتال في الميدان وتعرض في كثير من الأحيان إلى السقوط في خضم المعركة، كما تعرض إلى جراحات السيوف وكثيراً ماكان يشير على عسكره بقواعد حربية ناجحة مثل سلوك المراقي العالية، وحمل العدو على الصعود دون أن يهبط عسكره إلى الوطاء، والأمر باتخاذ الأبراج العالية للمراقبة.
ولكي يكون بن تومرت وعسكره في منعة من مباغتة الجيش المرابطي اتخذ عاصمة له مقراً منيعاً هو مدينة تينملل التي قال ابن الخطيب في وصف منعتها: "لايعلم مدينة احصن منها، لايدخلها الفارس إلا من شرقها، وهو الطريق إليها من مراكش، المصنوعة في نفس الجبل، تحت راكبها حافات وفوقه حافات، وفيها مواضع مصنوعة من الخشب، إذا أزيلت منها خشبة لم يمر عليها أحد".
لقد كانت لتلك الانتصارات المتوالية التي حققها الموحدون أثرها الكبير في ذيوع عقيدة المهدي وظن كثير من الناس بأنه بن تومرت وبذلك كثر أتباعه، وعظم ثقته بنفسه وقوته، فأرسل الى علي بن يوسف أمير المسلمين رسالة كلها تهديد ووعيد، فيما يلي نصها: "من القائم بدين الله العامل بسنة رسول الله محمد بن عبدالله وفقه الله، إلى المغرور بدنياه علي بن يوسف، أما بعد فأنا ماوجدنا لأكثركم من عهد، وان وجدنا أكثركم لفاسقين، لم تخشوا عقوبة رب العالمين، ولم تتفكروا فيمن حولكم من الظالمين، الذي غووا فأصبحوا نادمين، فتبعهم الناس اجمعين، فإذا هم أخسر الخاسرين، وقد أمرني الله بادحاض حجة الظالمين، ودعاء الناس الى اليقين، ونسأل من الله أجر المحسنين لاتغتروا فان المسلمين إليكم قادمون، لقتال من زاغ وجنف وكفر بنعمة الله، وقد جاء في التنزيل أنكم لستم بمؤمنين ولاتؤمنون بلا اله إلا الله، وانها كلمة تقولونها عند الخوف والتعجب وتارك واحدة من السنة كتاركها كلها، ومن أجل ذلك دماؤكم حلال ومالكم فئ وقد بينا لكم وأوضحنا السبيل وما تغني الآيات والنذر عن قوم لايؤمنون، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون، والسلام على من اتبع الهدى وخشى الرحمن" لقد كانت هذه الرسالة بمثابة اعلان حرب بين الموحدين والمرابطين.
الجهاز الأول: جهاز سياسي، ويشتمل على المجالس الثلاثة المتقدمة الذكر: مجلس العشرة، ومجلس الخمسين، ومجلس السبعين.
الجهاز الثاني: جهاز علمي ثقافي، ويشتمل على طبقة الطلبة، وهم الذين بلغوا درجة مرموقة من العلم، وطبقة الحفاظ وهم صغار الطلبة.
الجهاز الثالث: جهاز عسكري، ويشتمل على طبقة الجند وطبقة الرماة والغزاة.
والجهاز الرابع: جهاز شعبي، يضمّ مجموعة من القبائل وهي: هرغة، وأهل تينمل، وجدميوه، وجنفيسة، وهنتاتة، وأهل القبائل
وتعتبر هذه بداية التنظيم والقضاء على الهمجية والتشتت
صرح كبير أختي الكريمة صفاء
جزاكِ الله خيراً
متابع ان شاء الله
إن الله ابتعثنا لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد ومن ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام .
عبدالمؤمن بن علي بن عَلَوي، سلطان المغرب الذي يلقب بأمير المؤمنين، الكومي، النفيسي، المغربي.
ولد بأعمال تِلمِسان. وكان أبوه يصنع الفخار.
قيل: إنه قال: أعني عبدالمؤمن: إنما نحن من قيس بن غيلان بن مُضر بن نزار، ولكومية علينا حق الولادة، والمنشأ فيهم، وهم أخوالي.
وكان الخطباء إذا دَعَوا له بعد بن تومرت، قالوا: قسيمُهُ في النسب الكريم، وكان مولده سنة سبع وثمانين وأربع مائة وصفه الذهبي فقال: (وكان أبيض جميلاً، ذا جسم عَمَمٍ، تعلوه حمرة، أسود الشعر، معتدل القامة، جهوريّ الصوت، فصيحاً جَزْل المنطق، لايراه أحد إلا أحبه بديهة، وكان في كبره شيخاً وقوراً، أبيض الشعر، كثَّ اللحية، واضح بياض الاسنان، وكان عظيم الهامة، طويل القعدة، شَثْن الكفِّ، أشهل العين.
أ- لقاءه بمحمد بن تومرت :
عندما رجع ابن تومرت إلى إفريقية هو ورفيقه الشيخ عمر الهنتاني صادف عبدالمؤمن، فحدَّثه ووانسه، وقال: إلى أين تسافر؟ قال: أطلب العلم. قال: قد وجدت طلبتك. ففقهه، وصحبه، وأحبه، وأفضى إليه بأسراره لما رأى فيه من سمات النُّبل وكان بن تومرت يمدحه بهذه الأبيات:
تكاملت فيك أوصاف خُصِصت بها
فكلنا بك مسرور ومغتبـــــــطُ
السن ضاحكة والكف مانحة
والنفس واسعة والوجه منسبط
وكان بن تومرت يقول لأصحابه: صاحبكم هذا غلاّب الدول لقد كان بن تومرت يعمل على أن يكون عبدالمؤمن صورة حقيقية له ولذلك أعده الإعداد اللازم للقيادة والزعامة والرياسة وعلمه ودربه وأمر أتباعه بإطاعة عبدالمؤمن في كل مايقول وأن يقتدوا به في كل ما يفعله وكان عبدالمؤمن له من الاستعداد الفطري بحيث يستطيع أن يتقن كل مايقال له من تعليم وتدريب، فعرف كيف ينهض وينظم الدولة ويسير بها خطوات ناجحة لكي تتبوأ دولة الموحدين الزعامة والسياسة في عالم المغرب والأندلس.
ب- بيعته:
بايع أصحاب ابن تومرت المقربين عبدالمؤمن بن علي في شهر رمضان 524هـ وقد أطلق المؤرخون على هذه البيعة الخاصة، لأن موت ابن تومرت ظل في طي الخفاء أكثر من سنتين ثم بايع الموحدون عبدالمؤمن البيعة العامة قيل في 20 ربيع الأول سنة 526هـ وقيل 527هـ وذلك بجامع تينملل. وقد اختار الموحدون عبدالمؤمن لزعامتهم لما عرفوه من اختصاص بن تومرت له وتقريبه إليه وإطرائه لصفاته وتقديمه إياه في الصلاة إلى مالمسوه من فضله وعلمه ودينه وقوة عزيمته وحسن سياسته ورجاحة عقله وشجاعته. وقد ذكر الذهبي خطبة ابن تومرت قبل وفاته اشار فيها إلى توليه عبدالمؤمن من بعده: (استدعى ابن تومرت قبل موته الرجال المسمين بالجماعة وأهل الخمسين والثلاة عمر أرتاج، وعمر إينتي، وعبدالله بن سليمان، فحمد الله، ثم قال: إن الله - سبحانه، وله الحمد - منّ عليكم أيتها الطائفة بتأييده، وخصّكم بحقيقة توحيده، وقيض لكم من ألفاكُم ضُلالاً لاتهتدون، وعُمياً لاتبصرون قد فشت فيكم البدع، واستهوتكم الأباطيل، فهداكم الله به ونصركم، وجمعكم بعد الفرقة، ورفع عنكم سلطان هؤلاء المارقين، وسيُورثُكم أرضهم وديارهم، ذلك بما كسبت أيديهم، فجددوا لله خالص نياتكم، وأرُوُه من الشكر قولاً وفعلاً مما يزكي به سعيكم واحذروا الفرقة وكونوا يداً واحدة على عدوكم، فإنكم إن فعلتم ذلك هابكم الناس وأسرعوا إلى طاعتكم، وإن لم تفعلوا شملكم الذُّلُ، واحتقرتكم العامة وعليكم بمزج الرأفة بالغلظة، واللين بالعنف، وقد اخترنا لكم رجُلاً منكم، وجعلناه أميراً بعد أن بلوناه، فرأيناه ثبتاً في دينه، متبصراً في أمره، وهو هذا - وأشار إلى عبدالمؤمن - فاسمعوا له وأطيعوه ما أطاع ربه فإن بدّل ففي الموحدين بركة وخير، والأمر أمرُ الله يقلِّده من يشاء. فبايع القوم عبدالمؤمن، ودعا لهم ابن تومرت).
كما أن هناك سبباً آخر جعل زعماء الموحدين يبايعون عبدالمؤمن ألا وهو أن عبدالمؤمن، كومي وليس من المصامدة وهذا يجعل حداً لتطلع زعماء القبائل إلى هذه الخلافة، وبالتالي ستقضي على الخلافات التي كان وقعها محتملاً بين قبائل المصامدة في سبيل الزعامة.
وما أن أعلنت طبقة الجماعة، وفاة ابن تومرت وبيعتها لعبدالمؤمن بن علي حتى قامت بقية الطبقات له بالبيعة ولم يكن له من خلافة الموحدين إلا الاسم، أما الإدارة الفعلية والإشراف الكامل، فقد كانت للطبقات المختلفة حسب اختصاص كل منها ولذلك لم يستطيع بادئ الأمر، أن يستبد بأمر من الأمور ولا أن يبت في حكم من الأحكام إلا بموافقة ذوي الشأن وكان الموحدون الأولون يدركون ذلك ويحرصون عليه، فهم لم يتركوا لعبدالمؤمن العنان لأن يستبد بهم، ولا أتاحوا له الفرصة لأن ينفرد في قرارات الحكم بل نجدهم يناقشون وينتقدون اعمال عبدالمؤمن ويتجرؤون عليه وقد وصل الحال ببعضهم أن قتل أخا عبدالمؤمن، لمّا جاء لزيارة أخيه الخليفة وجلس في المكان المخصص له. فما كان منه إلا أن غضب لنفسه واعتبر ذلك إهانة له، فثار بأخي عبدالمؤمن الخليفة وقتله. ولما غضب عبدالمؤمن وأراد الاقتصاص من قاتل أخيه، وقف الموحدون في وجهه ومنعوه من ذلك. ويروي البيذق هذا الحادث ضمن أخبار سنة ستة وثلاثين وخمسمائة (536هـ) فيقول: "وفيها جاء ابراهيم إلى الخليفة أمير المؤمنين بالتوحيد وأعطاه الخليفة الخيل والعبيد والخباء. وأنزله في موضع محمد بن أبي بكر بن بيكيت. فتغابر ابراهيم أخو الخليفة مع محمد بن أبي بكر بن بيكيت. فقتله محمد بن أبي بكر ابن بيكيت. فقام له أبو حفص وأبو الحسن يوكوت بن واكاك وقالا له: ألم يقل المهدي: بأن الجماعة وصبيانهم عبيدهم كل من في الدنيا. فصمت عند ذلك الخليفة..).
لقد أسرّها عبدالمؤمن في نفسه وشرع في أخذ الخطوات التي آلت للقضاء على نظام الطبقات الذي وضعه ابن تومرت ووضع نظاماً جديداً يكرّس الولاء لشخصه وأسرته وسنرى ذلك بإذن الله ويبدو أن عبدالمؤمن لايعتقد اعتقاداً راسخاً في عصمة ابن تومرت ومهديته وإلا فكيف يتجرأ على نسف ماوضعه بن تومرت بعد أن مهد لذلك وجعل الزمن جزءً من هدفه.
لقد كان الظلم في تعاليم بن تومرت واضحاً هذا خليفة الموحدين يقتل أخاه ويمنع الأخذ بالقصاص من القاتل بحجة أن القاتل من أهل الجماعة وكل من في الأرض عبيد لهم، لاشك أن ذلك الحدث أثر في عبدالمؤمن بن علي.
ثانياً: قتال عبدالمؤمن للمرابطين وتوحيد المغرب:
في ظروف حالكة منذرة بالفتنة تولى عبدالمؤمن بن علي قيادة الموحدين وكانت مهمته عسيرة وصعبة، فقد كان عليه أن يعيد الثقة الى نفوس الموحدين وأن يعيد تنظيم صفوفهم تمهيداً للمعركة المقبلة الفاصلة، ولهذا السبب شغل طوال الشهور الأولى من خلافته في رأب الصدع، وتأليف القلوب وتعبئتها لمدافعة المرابطين، فلما تم له ذلك اعتزم مواصلة الجهاد ضد المرابطين، فكانت أولى غزواته كخليفة على حد مارواه ابن أبي زرع موجهة إلى مدينة مراكش فقد هاجمها أياماً ثم ارتحل عنها، غير أن ابن القطان وابن خلدون يتفقان على أن أول غزواته هي غزوته لتادلة في وادي درعة، وفيها خرج عبدالمؤمن من تينملل في شهر ربيع الأول سنة 526هـ في جيش ضخم قوامه ثلاثون ألف مقاتل، فسار أولاً نحو حصن تازا جورت وكانت تدافع عنه حامية مرابطية بقيادة يدر بن ولكوط وقيل يحيى بن مريم الزرجاني، فتمكن عبدالمؤمن من اقتحام الحصن وقتل واليه وقتل معه نحو عشرين ألفاً من المرابطين، وهو رقم مبالغ فيه فليس من المعقول أن يضم أحد الحصون المرابطية عدداً من المدافعين يتجاوز العشرين ألف مقاتل، وهذا الرقم من الصعب تصديقه اذا أخذنا بالاعتبار كثرة عدد القلاع والحصون المرابطية في المغرب فضلاً عن انشغالهم بالجهاد ضد النصارى في الأندلس. رحل عبدالمؤمن عن تازجورت بعد أن سبى ميمونة بنت ينتان بن عمر أرملة والي الحصن المذكور وصحبها معه إلى تينملل، حيث ظلت أسيرة لديه حتى أفتديت فيما بعد، بمن كان في تلمسان من أسرى الموحدين، ثم سار عبدالمؤمن الى درعة واستولى عليها، كما استولى في نفس العام - 526هـ على حصن هزرجة، فقد اقتحمه وأحرقه وقتل معظم حاميته، ومنها سار الى بلدة جثجال وأضرم فيها النيران وقتل أهلها، ثم سار إلى بلدة أجلاحال، وكان أهلها قد قتلوا أحد أصحاب ابن تومرت وامرأته في يوم العيد، فجمع عبدالمؤمن أهلها وقتل منهم مايزيد على ثلاثمائة رجل، وفي نفس العام استولى الموحدون على حصن جلاوة افتتحه الشيخ أبو حفص عمر بن يحيى الهنتاتي أحد أصحاب ابن تومرت العشرة ومعه بعض وجوه الموحدين، وكان أهل الحصن قد جرحوا ابن تومرت في احدى غزواته، فدخله الموحدون عنوة وقتلوا كل من فيه، وفي هذا العام أيضاً افتتح الموحدون حصن تاسيغيموث أمنع حصون المرابطين وكان قد تولى بناءه ميمون بن ياسين، كما كانت تقوم على حراسته حامية، من هزرجة قوامها مائتي وخمسمائة راجل، فلما يئس الموحدون من فتحه لمناعته لجأوا الى الحيلة فداخلوا بعض أفراده من حامية الحصن وتواطئوا معهم على فتحه، فأقتحموه ليلاً، وقتلوا أبو بكر بن واصول اللمطي واليه المرابطي ومن معه من المرابطين، ونقلوا أبواب الحصن الحديدية الى تينملل
حيث ركبت على باب الفخارينعاد عبدالمؤمن الى تينملل، وكانت قد وقعت خلال غيبته حادثة خطيرة، ان دلت على شيء فانما تدل على أن الطموح الى الرئاسة كان مايزال يضطرم في نفوس بعض منافسي عبدالمؤمن وأن الرغبة في القيادة والتطلع إلى الزعامة كانت لاتزال تلح في نفوس أقرب المقربين إلى عبدالمؤمن وأعني بهم أصحاب ابن تومرت العشرة وتتلخص هذه الحادثة في اقدام عبدالله بن ملوية أحد أصحاب بن تومرت العشرة، على شق عصا الطاعة على عبدالمؤمن بن علي أثناء غيابه عن تينملل غازياً، واعلانه الطاعة لأمير المسلمين علي بن يوسف الذي لم يتردد في اعلان رضاه عن ابن ملوية، ووضع تحت تصرفه قوة عسكرية مرابطية لمهاجمة تينملل، فسار ابن ملوية بتلك القوة الى موضع يسمى تامد غوست قاعدة قبيلة جنفيسة بهدف استمالتها الى جانبه ثم يزحف بقواته المجتمعة الى تينملل، غير أن عبدالله بن وسيدرن أحد زعماء جنفيسة المقيمين في تينملل جمع شيوخ جنفيسة وأعلنوا تمسكهم بالعهد الذي قطعوه لابن تومرت، ونعوا إلى ابن ملوية تلك الخيانة وفي الحال قام أبو سعيد يخلف بن الحسن آتيكي أحد أهل خمسين ومعه غلامه، وسارا الى محلة ابن ملوية وقتلاه، وحملا جثته الى تينملل حيث صلبت، ولما عاد عبدالمؤمن وعلم بما حدث شكر لجنفيسة اخلاصها وقسم الغنائم عليها.
ويبدو أن عبدالله بن ملوية لم يكن متطلعاً للزعامة وإنما أراد الرجوع إلى الحق والتوبة وخصوصاً وهو أحد العشرة الذين يعرفون الكثير من كذب وباطل وظلم وجور مارسه ابن تومرت بدون مسوغ شرعي ولذلك أعلن طاعته لأمير المسلمين علي بن يوسف.
وفي عام 526هـ حدث أمراً عظيماً يحمل في طياته مغزى عظيماً ومبشراً بقرب أفول عهد المرابطين، فقد انضم القائد المرابطي المشهور الفلاكي ومعه طائفة من جنده الى الموحدين، وكان الفلاكي من أهل اشبيلية وكان في بداية أمره شقياً وقاطع طريق، ثم تاب فعفا عنه والي اشبيلية، وقدمه على الرماة والرجالة، ثم انتقل الى خدمة أمير المسلمين علي بن يوسف، الذي قدمه على فرقة من جند المرابطين ووجهه الى السوس لمدافعة الموحدين، فجد في محاربتهم وأظهر بطولة وشجاعة نادرتين، ثم لم تلبث العلاقات بينه وبين أمير المسلمين أن ساءت فانضم الى الموحدين، وأخذ يهاجم الحصون المرابطية الواقعة في منطقة السوس، ويفعل بها مثلما كان يفعل في الحصون الموحدية من قبل، وظل في خدمة الموحدين الى أن ارتد بعد ذلك عن الطاعة وعاد إلى طاعة المرابطين وفي عام 528هـ قتل قائد المرابطين ابراهيم بن يوسف بن تاشفين واستطاع الموحدون فتح مدينة تارودنت أعظم معاقل المرابطين في بلاد السوس.
وفي عام 529هـ سار عبدالمؤمن لغزو بني بيغز وظل عبدالمؤمن يحاصرهم نحو أربعين يوماً، فلما يئس من اخضاعهم رفع الحصار وعاد الى تينملل واستمر الصراع من عام 531هـ، 532هـ وفي هذا العام 532هـ تحرك عبدالمؤمن من تينملل الى جبل غياثة، فعسكر بجرائده على مقربة من المقرمدة عند وادي أبي حلوا، كما انضمت اليه قوة عسكرية يتولى قيادتها عبدالله بن يحيى بن أبي بكر بن تيفلويت، فعسكرت بالقرب من محلة سير، وفي نفس الوقت حشدت زناتة الموالية للمرابطين خمسة آلاف فارس يتقدمهم يحيى بن فانو غير أن زيري بن ماخوخ أحد شيوخ زناتة لم يلبث أن أعلن انضمامه إلى الموحدين، وراسل عبدالمؤمن بن علي وطلب منه عسكراً لمهاجمة عسكر المغرب الذي يقوده عبدالله بن يحيى بن أبي بكر، فأمده بقوة موحدية، أغار بها على محلات عسكر المغرب، وألحق بهم خسائر فادحة. وفي نفس الوقت توفي القائد يحيى بن فانو قائد العسكر الزناتي الموالي للمرابطين، فأسند الأمير سير القيادة الى القوة الزناتية لمحمد بن يحيى ابن القائد المتوفي، الذي واصل سيره بقوات أبيه حتى نزل على مقربة من وجده. وكانت الأنباء قد وصلت إلى سير بن علي بأن عبدالمؤمن يريد بلاد غماره، فوضع له سير ألفي فارس في طريقه ليمنعه من تحقيق هدفه، واستمرت هذه القوات المرابطية مايقرب من الشهرين تتناوب حراسة الطريق ومراقبة تحركات عبدالمؤمن. وفي أثناء ذلك راسل زيري بن ماخوخ ذويه من زناتة واتفق معهم على أن يخذلوا المرابطين في المعركة المقبلة بين المرابطين والموحدين فأرسل عبدالمؤمن سرية من جنده مع زيري بن ماخوخ، خرجت من جبل غياثة الى محلة زناتة، وهاجمتها، ونشبت بين الفريقين معركة انهزمت فيها زناتة.
وفي عام 533هـ تحرك عبدالمؤمن بن علي من تينملل، ونزل في بلد ملول من منانة في أراضي حاحة، فزحف اليه الامير تاشفين بن علي بن يوسف ولي عهد المرابطين من مراكش ومعه الروبرتير قائد فرقة الجند للمرابطين، ونزل تاشفين بقواته في تاحكوط في حاحة، وكان علي بن يوسف قد قتل عدداً من أعيان قبيلة منانة، وكان ذلك سبباً في دخولها في طاعة الموحدين ولكنها ارتدت عن الطاعة ثلاث مرات، فأقام عبدالمؤمن في بني ملول شهراً وثلاثة أيام، وهو يشن عليهم الغارات، ثم تركهم وسار بعد ذلك الى قبيلة بني وجدزران ثم الى بني سوار من منانة الجبل، وكان أبو بكر بن علي بن يوسف قد قتل أشياخهم وأعيانهم لدخولهم في طاعة الموحدين ثم سار عبدالمؤمن الى أجر فرجان، فتبعه تاشفين بن علي في قواته وسد عليه الطريق، فنشبت في أجر فرجان معركة عنيفة بين الفريقين، هزم فيها تاشفين، وتكررت هزيمته ثلاث مرات الى أن فر بنفسه الى جهة الميزتانوت، فاستولى الموحدون على أسلابه من السلاح والثياب والدواب والعبيد وفي هذه اللحظات وصلت قوة مرابطية من مراكش مدداً لتاشفين ولكنها وصلت بعد فوات الأوان أي بعد هزيمة تاشفين، فطمعوا في انتزاع الغنائم من الموحدين، فلما علم عبدالمؤمن بذلك لجأ إلى الحيلة فأمر برصد الكمائن في مضايق الجبل وقدم الغنائم بين يديه اجتذاباً للقوة المرابطية التي كانت من قبيلة جزولة وأمر الكمائن بالاندفاع نحوهم اذا ماسمعوا قرع الطبول. نجحت خطة عبدالمؤمن بن علي نجاحاً تجاوز كل تقدير في الحسبان، فقد هاجمت جزولة ساقة الغنيمة وقتلت بعض حراسها، فلما توسطوا مواضع الكمائن، دقت الطبول فجأة، فاندفعت الكمائن صوب جزولة فأبادوهم عن آخرهم واستولوا على أسلحتهم ودوابهم وما إن تم لعبدالمؤمن ذلك حتى تراجع صوب بلاد جنفيسة.
وفي عام 534هـ ، خرج الأمير تاشفين بجيش ضخم من لمتونة وزناتة لقتال الموحدين وانضمت اليه فرقة بقيادة الروبرتير، وتمكن المرابطون من حصارهم في موقع يقال له تيزعور مايقرب من شهرين، وشددوا عليهم الحصار وقطعوا عنهم الميرة حتى اضطر الموحدون الى أكل حيواناتهم، ثم نشبت بين الفريقين معركة عنيفة رجحت في بدايتها كفة المرابطين ولكنها انتهت بهزيمتهم وانسحاب تاشفين الى مراكش حاملاً معه الروبرتير جريحاً.
وفي عام 535هـ (1140-1141م) ، خرج الجيش المرابطي من مراكش بقيادة الروبرتير، فاشتبك مع الموحدين بقيادة الخليفة عبدالمؤمن بن علي في مكان يسمى امسيميصي يقع في أرض كدميوه شمال تينملل وقيل ان اللقاء حدث بجبل خدميره، ولايذكر البيذق، نشوب معركة بين الجانبين وانما يؤكد ان كل فريق عاد إلى بلاده، بينما يؤكد ابن عذارى حدوث قتال بين قوتي المرابطين والموحدين، وأن المعركة انتهت بهزيمة المرابطين وعودة الروبرتير جريحاً الى مراكش. ثم عاد الروبرتير الى الخروج بقوات لمتونة، واشتبكت قواته مع قوات عبدالمؤمن بموضع يسمى اكظرور، فهزم المرابطون، وارتد الروبرتير في فلوله جريحاً إلى مراكش، وعاد عبدالمؤمن الى تينملل.
واصل عبدالمؤمن بن علي صراعه ضد المرابطين، فخرج في قواته نفس العام - 535هـ - وحاصر حصن تينلين، وكان يدافع عنه واليه المرابطي يركين ابن وبدرن، واستمر يحاصر الحصن ثلاثة أيام، اضطر بعدها إلى فك الحصار والاتجاه نحو بلاد السوس، وذلك عندما علم بتحرك قوات المرابطين بقيادة الروبرتير صوب تينلين، ومع ذلك فقد تمكن عبدالمؤمن من فتح بعض حصون المرابطين في السوس من بينها ايرمناد، وتاسلولت وتيونوين وايجلي وغيرهم وفي نفس الوقت هاجم الروبرتير محلة تيغيغايين الموحدية، وسبى نساءها وأخذهن معه إلى مراكش. أما عبدالمؤمن فقد عاد من غزوته في أرض السوس وكان من جملة سباياه فيها " تما كونت " ابنة ينتان بن عمر أحد وزراء علي بن يوسف، التي رجته أن يعفو عنها ويطلق سراحها، وذكرته بشفاعة أبيها ينتان بن عمر في ابن تومرت، عندما كان ماراً بمراكش، وحاول الفقهاء تحريض امير المسلمين على التنكيل به، فلم يتردد عبدالمؤمن في قبول رجائها وأمر على الفور باطلاق سراح جميع النساء وأرسلهن إلى مراكش معززات مكرمات، فأعجب علي بن يوسف بصنيع عبدالمؤمن وأمر بدوره باطلاق سراح سبايا تيغيغايين وأرسلهن آمنات مكرمات الى تينملل رأى عبدالمؤمن بعد تلك الانتصارات التي أحرزها الموحدين على المرابطين أن ينقل مسرح الصراع الى قلب دولة المرابطين مستهدفاً القضاء عليها واسقاطها، وشرع في تنفيذ تلك الخطة في بداية 535هـ ويورد البيذق وكان شاهداً عياناً لاحداث هذه الفترة وصفاً دقيقاً لحملة عبدالمؤمن الكبرى ضد المرابطين فيذكر أنه خرج من تينملل في حشود ضخمة متجهاً نحو الشمال الشرقي، فنزل بموضع يسمى وانزال ثم زحف الى أشبار وتقع جنوب شرقي مراكش ثم غادرها الى تاساوات فدمنات بعد أن بلغه خروج تاشفين بن علي في أثره وأنه نزل بأشبار وتابع سيره نحو دمنات مروراً ببلدة يمللو القريبة منها، ثم تابع الموحدون زحفهم نحو " واويزغت " دون أن يشتبكوا مع المرابطين في معركة حاسمة باستثناء موقعة محلية حدثت في تيزي ودارت فيها الدائرة على المرابطين. ثم تقدم الموحدون الى "داي" فولى حاكمها المرابطي علي بن ساقطر الادبار وأرغم أهلها على بذل الطاعة للموحدين وواصل الموحدون زحفهم صوب "تازاكارت" ولم تلبث هذه البلدة أن سقطت في أيديهم وتبعتها قلعة واوما، ثم آزرو التي تقاعس حاكمها في الدفاع عنها، فدخلها الموحدون، واتخذها عبدالمؤمن قاعدة لقيادته، وجه منها عدداً من الحملات لاخضاع المناطق المجاورة، وفي نفس الوقت أرسل بعض أشياخ الموحدين الى تينملل يبشرون أهلها بانتصارات عبدالمؤمن. وهكذا دخل أهل فازاز جميعاً في طاعة الموحدين وأقام عبدالمؤمن فترة في أزرو حيث تزوج من احدى نسائها. واصل عبدالمؤمن زحفه، فخرج من أزرو حيث اعترضته قوة مرابطية على طريق مكناسة، ففتك بها وأباد معظمها، واستولى على كميات كبيرة من المؤن والعتاد، ثم هاجم قواعد المرابطين في غريس الواقعة جنوبي آزرو، وتمكن من بسط نفوذه على جميع المناطق الواقعة جنوبي آزرو، وعندئذ اتجه نحو سلجماسة، فبادر واليها أبو بكر بن صارة بالدخول في طاعة الموحدين.
المفضلات