وبشكلٍّ عام، يمكن القول بأنالقيم العلمانية تنتشر في الوقت الراهن بين أغلبية يهود العالم، فهم إما منصرفون عنالدين تماماً وإما يتبنون الصيغ المخففة منه والمتمثلة في اليهودية الإصلاحيةوالمحافظة، ولم يَعُد بينهم سوى أقلية أرثوذكسية. ففي الولايات المتحدة، يبلغ عدداليهود الإصلاحيين والمحافظين مليونين ولا يوجد سوى 400 ألف أرثوذكسي. أما بقيةاليهود، فهم إما لاأدريون أو غير مكترثين باليهودية، ولكنهم يلجأون إلى حاخاماتإصلاحيين أو محافظين في أمور الزواج وغيره. وربما تكون درجة علمنة يهود روسياوأوكرانيا أعلى من ذلك بكثير. ومع هذا، وبرغم علمنة هؤلاء اليهود، وبرغم ابتعادالمتدينين منهم عن الأرثوذكسية، فإنهم يتمسكون ببقايا هويتهم الإثنية، ربما بتأثيرالصهيونية. ولذا، فهم يصرّون على تسمية أنفسهم «يهود» برغم انصرافهم عن العقيدة، ثميطالبون بتبني تعريف تعددي لليهودية، أي بأي تعريف يروق لهم بحيث يتم قبول أي يهودييرى أنه يهودي. وهم ينظرون إلى الدولة الصهيونية باعتبارها دولة تعددية يهودية،بالمعنى الإثني، يمكنهم تحقيق هويتهم من خلالها. وفي هذا الإطار، ليس من المستغربأن يؤدي التعديل المقترح لقانون العودة (بحيث يعرَّف اليهودي بأنه «المتهوِّد بحسبالشريعة» أي على يد حاخام أرثوذكسي) إلى تفجير التناقضات الكامنة إذ أنه، في واقعالأمر، يستبعد أغلبية المتهوِّدين وعائلاتهم في الولايات المتحدة. ومن المعروف أنعشرة آلاف أمريكي يتهوَّدون سنوياً نظراً لزواجهم من أقران يهود، ولا يتهود سوى ألفمنهم أمام محاكم أرثوذكسية، أما الباقون فيتهوَّدون على يد حاخامات إصلاحيينومحافظين، ولا تعترف الحاخامية في إسرائيل بهم كيهود.
وهناك مشكلة أخرىأُثيرت عدة مرات ولن يحسمها التعريف الجديد حتى لو تم تبنيه. فالحاخامات الأرثوذكسيطلبون ما يُسمَّى «جيط» من كل يهودية مُطلَّقة، أي شهادة طلاق من محكمة شرعيةيهودية ليصبح الطلاق شرعياً، وهو تقليد أبطله الحاخامات الإصلاحيون. ولذا، فإن أيةيهودية مُطلَّقة تتزوج دون أن تحصل على شهادة طلاق شرعي، يُعتبَر أطفالها (بحسبالتصور الأرثوذكسي) غير شرعيين، حتى لو كانت هي يهودية معترفاً بيهوديتها منالمؤسسة الأرثوذكسية. ولهذا، فمن المتوقع أن تتفاقم المشكلة بسبب ازدياد معدلاتالطلاق غير الشرعي بين اليهود في الخارج، سواء في الولايات المتحدة أو في كومنولثالدول المستقلة (الاتحاد السوفيتي سابقاً)، وبسبب جهل كثير منهم بقضية الجيط هذه!
ويدرك أعضاء الجماعات اليهودية، خصوصاً في الولايات المتحدة، المضمون الخفيالكامن وراء تعديل قانون العودة تماماً، والمحاولة الرامية إلى ذلك. ومن هنا كانتحدة استجابتهم لهذه المحاولة إلى درجة أدهشت القيادات في اجتماع لمجلس الفيدرالياتالأمريكية الذي خُصِّص لمناقشة هذه القضية (1988)، ومجلس الفيدراليات هو التنظيمالذي يضم سائر التنظيمات اليهودية الأمريكية. فعندما حاولت القيادة التقليل منأهمية التعديل المقترح والتهوين من شأنه، ثارت القاعدة وأعلنت سخطها وأعلنت كذلك عننيتها أن تترجم هذا السخط إلى فعل ضد إسرائيل. بل إن بعضهم اشتكى إلى نوابهم فيالكونجرس الأمريكي من التعديل المزمع، وقام هؤلاء النواب، وبعضهم من غير اليهود،بنقل شكوى ناخبيهم من اليهود إلى حكومة الدولة اليهودية. وتتحدث الصحف الإسرائيليةعن احتمال أن تُناقَش المسألة في الكونجرس الأمريكي عند مناقشة المعونة الأمريكيةلإسرائيل. وهكذا، فبدلاً من أن تستخدم الدولة الصهيونية الدياسبورا أداة للضغط علىالولايات المتحدة لتحقيق مصالحها، يقوم أعضاء الجماعة الأمريكية اليهودية بالضغطعلى الدولة الصهيونية من خلال الولايات المتحدة للحفاظ على مصالحهم. ويُقال إناستجابة يهود الولايات المتحدة لتعديل قانون العودة يشبه في حدته استجابتهم لحرب 1967، حين أحسوا بالفخر الشديد لانتصار القوات الإسرائيلية، أي حين تضخمت هويتهماليهودية المزعومة بسبب انتصار جيوش الدولة اليهودية. وقانون العودة يمس هذهالهوية، ذلك أن تعديله ينزع عنهم هويتهم هذه ويجعل منهم مجرد يهود إصلاحيين أومحافظين، أي يهود من الدرجة الثانية. ويجب ملاحظة أنه بينما أصبحت اليهودية،بالنسبة إلى معظم سكان المُستوطَن الصهيوني مسألة قومية وليست دينية محضة (ولهذافهم لا يكترثون بموقف المؤسسة الأرثوذكسية)، فإن الأمر جد مختلف بالنسبة إلى يهودالعالم، فيهوديتهم برغم علمانيتهم الواضحة لا يمكن أن تُعرَّف تعريفاً قومياً وحسب،حيث يتنافى هذا مع انتمائهم القومي. ولذلك، يظل البُعد الديني، برغم شكليته وضموره،أكثر أهمية بالنسبة إليهم من أهميته بالنسبة إلى الإسرائيليين.
ومن إنجازاتالانتفاضة أنها، بوصولها إلى الإعلام الخارجي، قد حوَّلت النضال الفلسطيني من قضيةسياسية أو أخلاقية إلى قضية إعلامية تمس صورة اليهودي وبالتالي هويته ورؤيته لها. ولعل الأفلام اليومية على شاشة التليفزيون الأمريكي قد ساعدت على تهيئة الجو لثورةالأمريكيين اليهود، وغيرهم من أعضاء الجماعات، على القيادات الصهيونية ورفضهم تعديلقانون العودة.
وثمة تَطوُّر ثالث شديد الأهمية يتمثل في البقعة التي يلتقيفيها يهود العالم بالمُستوطَن الصهيوني: أي المنظمة الصهيونية العالمية. فقد شهدالعقدان السابقان صهينة قطاعات كبيرة من يهود الولايات المتحدة كانت ترفض الصهيونيةمن قبل. فاليهودية الإصلاحية التي تشجع الاندماج، كانت ترفض الصهيونية بشكل عقائديعند نشأتها، كما كان بعض مفكري اليهودية المحافظة يرفضونها. ولكنهم، بمرور الزمن،تناسوا هذه الاعتراضات وانتهى بهم الأمر إلى الانضمام إلى المنظمة الصهيونيةالعالمية. هذا، بينما يُلاحَظ أن الجماعات اليهودية الدينية، وضمن ذلك بعض الأحزابالدينية في إسرائيل، إما معادية للصهوينة وإما غير صهيونية وغير مُمثَّلة فيالمنظمة الصهيونية.
وقد انعكس هذا الوضع على انتخابات المؤتمرالصهيونيالحادي والثلاثين (1987) التي أسفرت عن فوز أغلبية من حزب العمال الإسرائيلي وممثلياليهود الإصلاحيين والمحافظين والعلمانيين. وهذه هي المرة الأولى التي لا يعكس فيهاتكوين المنظمة الصهيونية موازين القوى داخل الدولة الصهيونية. وقد قضى المؤتمر (291صوتاً ضد 271 صوتاً) بضرورة المساواة الكاملة بين جميع اتجاهات اليهودية، الأمرالذي أدَّى بحركة المزراحي (الصهيونية الدينية) إلى التهديد بإعادة النظر في وضعهاداخل الحركة الصهيونية. والواقع أن هذا الوضع يناقض الوضع داخل الدولة الصهيونيةحيث يتنامى نفوذ الأحزاب الدينية.
وقد أثار وصول المهاجرين السوفييت مشكلةالهوية مرة أخرى. فعدد اليهود السوفييت حسب آخر إحصاء هو 1.500.000 وحسب، فمن أينأتت الأعداد الضخمة، خصوصاً ونحن نعرف أن اليهود السوفييت حققوا معدلات عالية منالاندماج وأنهم جماعة مسنة؟ ولتفسير هذا نذهب إلى أن اليهود الذين يهاجرون إلىإسرائيل يضمون في صفوفهم عدداً كبيراً من اليهود المتخفين الذين كانوا قد فقدواعلاقتهم باليهودية تماماً ولم يسجلوا أنفسهم كيهود، ولكنهم اكتشفوا مؤخراً أن مسألةالانتماء اليهودي مسألة مربحة وأنها ستضمن لهم تأشيرة خروج من الدولة السوفيتيةوتأشيرة دخول إلى الدولة الصهيونية. ولعل هذه هي المرة الأولى في التاريخ التي يظهرفيها مثل هذا الموقف: أن يكون في صالح المرء أن يكتشف جذوره اليهودية ويعلنهاويوظفها. وأشباه اليهود هؤلاء غير مختنين وغير متزوجين من يهوديات وأولادهم غيريهود ولا يربطهم باليهودية سوى أن لهم جداً مدفوناً في موسكو (على حد قول أحدالحاخامات الإسرائيليين). كما أن هناك فريقاً آخر ممن نسميهم مدَّعي اليهودية،وهؤلاء ليسوا يهوداً ويشترون شهادة ميلاد تثبت أنهم يهود. وهذه الآلاف تصل إلىإسرائيل وتطالب بالجنسية حسب قانون العودة. ويُقال إن نسبتهم بين المهاجرين يمكن أنتصل إلى 30% وقد بدأت المؤسسة الحاخامية تحذر من أن إسرائيل قد تصبح دولة غيريهودية. ولكن المؤسسة الإشكنازية الحاكمة (اللادينية) لا تجد أية غضاضة في استقبالهؤلاء المهاجرين ماداموا سيحلون المشكلة السكانية لإسرائيل، ولا تمانع في تَقبُّلالتعريف العلماني الذي وضعه شارانسكي لليهودي باعتباره من يشعر أنه يهودي مُضطهَد. وهو تعريف لا تأخذ به، بطبيعة الحال، المؤسسة الحاخاميــة. ولهـذا أُسِّــستمحكمــة شرعــية في موسكــو للتحقــق من الهـوية اليهــودية للمهاجرين، الأمر الذييثير حفيظتهم ويؤدي إلى احتجاج العناصر اللادينية في إسرائيل.
وتُعتبَرالأزمة التي تعتمل داخل الدولة الصهيونية، وفي صفوف الجماعات اليهودية في العالم،نتيجةً لمحاولة تَبنِّي التعريف الديني أو التعـريف اللاديني الصـهيوني للهـوية،أمراً طـبيعياً ومتوقعاً. فهذا التعريف لا يأخذ في الاعتبار تموجات التاريخوتعرجاته ولا ينبع منها، ويتجاهل التركيب الجيولوجي للعقائد والجماعات اليهودية،كما أنه مجرد تعريف عقائدي يفرض نفسه فرضاً على واقع متنوع. فهو يفترض وجود هويةيهودية واحدة رغم وجود هويات يهودية عديدة متنوعة أهمها «الهوية اليهودية الجديدة» التي تُهمِّش العنصر اليهودي. والتعريف الصهيوني يرى أن اليهود شعب واحد له تاريخواحد، وهم في واقع الأمر جماعات منتشرة لها تجارب تاريخية متنوعة ذات انتماءاتقومية وإثنية وطبقية ودينية متعددة. كما أن أعضاء هذه الجماعات، حين يستوطنونفلسطين المحتلة، يحملون معهم انتماءاتهم وتجاربهم التاريخية، شاءوا أم أبوا. وحينمايتبنون تعريفاً صهيونياً لهويتهم، تنفجر الأزمة إذ تكتشف أغلبيتهم العظمى أنهمليسوا يهوداً أو أن يهوديتهم مشكوك فيها بل ومرفوضة،كما حدث ليهود بني إسرائيلوالفلاشاه، وكما سيحدث ليهود الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي لو تم تعديل قانونالعودة.
المفضلات