والعلمانية الشاملة تتسم، شأنهاشأن كل النظم الحلولية الكمونية المادية، بأنها متتالية تمر بمرحلتين أساسيتين: مرحلة ثنائية صلبة (تَمركُز حول الذات الإنسانية والواحدية الذاتية والإمبرياليةوتَمركُز حول الموضوع الطبيعي/المادي والواحدية الطبيعية/المادية)، وهذه هي مرحلةالتحديث البطولية الصلبة وحلم التجاوز المادي، مرحلة الذات والموضوع المتماسكينوالمركز المادي (الإنساني أو الطبيعي) ومن ثم فهي مرحلة العقلانية المادية. ثم تأتيالمرحلة الثانية مرحلة الواحدية الشاملة السائلة (حين تُصفَّى الذات الإنسانيةويُقوِّض نموذج الطبيعة/المادة). وهذه هي مرحلة ما بعد الحداثة البرجماتية واختفاءالذاكرة والرغبة في التجاوز، مرحلة اختفاء الذات والموضوع ومن ثم اختفاء المركز (الإنساني والطبيعي) ومن ثم فهي مرحلة اللاعقلانية المادية.
ونحن نذهب إلىأن العلمانية (الشاملة) والإمبريالية صنوان. فرغم أن الإنسان الغربي بدأ مشروعهالتحديثي بالنزعة الإنسانية (الهيومانية) التي همَّشت الإله ووضعت الإنسان في مركزالكون، إلا أنها شأنها شأن أية فلسفة علمانية شاملة (تدور في إطار المرجعية الكامنةالمادية) ترى أن الإنسان هو إنسان طبيعي/مادي يضرب بجذوره في الطبيعة/المادة، لايعرف حدوداً أو قيوداً ولا يلتزم بأية قيم معرفية أو أخلاقية، فهو مرجعية ذاتهولكنه في الوقت نفسه يتبع القانون الطبيعي ولا يلتزم بسواه ولا يمكنه تَجاوُزه. ولذا، فهو في واقع الأمر كائن غير قادر إلا على التمركز حول مصلحته (منفعته ولذته) المادية وبقائه المادي (فالإنسانية مفهوم أخلاقي مطلق متجاوز لقوانين المادة) وغيرقادر على الاحتكام لأية أخلاقيات إلا أخلاقيات القوة المادية. ولذا، فبدلاً منمركزية الإنسان في الكون تظهر مركزية الإنسان الأبيض في الكون، وبدلاً من الدفاع عنمصالح الجنس البشري بأسره يتم الدفاع عن مصالح الجنس الأبيض، وبدلاً من ثنائيةالإنسان والطبيعة وتأكيد أسبقية الأول على الثاني تظهر ثنائية الإنسان الأبيض مقابلالطبيعة المادية وبقية البشر الآخرين (الذين يصبحون جزءاً لا يتجزأ منها) وتأكيدأسبقيته وأفضليته عليهم، وبدلاً من الاحتكام للقيم الإنسانية تُستخدَم القوة، ويصبحهم هذا الإنسان الأبيض هو غزو الطبيعة المادية والبشرية وحوسلتها وتوظيفها لحسابهواستغلالها بكل ما أوتي من إرادة وقوة.
من هذا المنظور، يمكن القول بأنالعلمانية الشاملة هي النظرية وأن الإمبريالية هي الممارسة، ولكن الممارسة أخذتشكلين مختلفين باختلاف المجال (ومن ثم تمت تسميتهما كما لو كانا ظاهرتين منفصلتينلا علاقة للواحدة منهما بالأخرى):
أ) الإمبريالية في الداخل الأوربي التيأخذت شكل الدولة العلمانية الرشيدة (الملكيات المطلقة ـ الدول الديموقراطية منذالثورة الفرنسية ـ الحكومات الشمولية).
ب) الإمبريالية في بقية العالم التيأخذت أشكالاً كثيرة (الاستعمار الاستيطاني ـ الاستعمار التقليدي ـ الاستعمار الجديدـ النظام العالمي الجديد).
وفي تصوُّرنا أن أفضل طريقة لتناول قضيةالعلمانية والعلمنة هي قضية المرجعية (كامنة أم متجاوزة). فالعلمانية (الشاملة) قدلا تكون إلحادية أو معادية للإنسان على مستوى القول والنموذج المعلن (فهي قد لاتنكر وجود الخالق أو مركزية الإنسان في الكون أو القيم المطلقة، الإنسانية أوالأخلاقية أو الدينية، بشكل صريح ومباشر). ولكنها على المستوى النماذجي الفعالومستوى المرجعية النهائية، تستبعد الإله، وأية مطلقات، من عملية الحصول على المعرفةومن عملية صياغة المنظومات الأخلاقية، كما تستبعد الإنسان من مركز الكون بشراسةوبحدة وتنكر عليه مركزيته وحريته
المفضلات