(5) النفسية التيمية التسامحية وأثرها الجميل على الناس.

هذا التسامح العظيم الذي كان يتحلى به ابن تيمية كان له الأثر العظيم في الناس، ولذلك أحبه الناس حباً عظيماً، وتعلقوا به، وكانوا لا يرون به بديلاً رحمه الله .
يقول ابن عبد الهادي :( وسائر العامة تحبه، لأنه منتصب لنفعهم ليلاً ونهاراً، بلسانه وقلمه) .
وكان رحمه الله متواضعاً للعامة والخاصة ، للكبير والصغير، للرجال والنساء، للأمراء والحقراء، كثير السلام على العامة والخاصة، يزور المرضى ويتفقد أحوالهم ، كان مجلسه مفتوحاً لكل أحد ، وقلبه يسع الكل، وخصاله أكثر من أن نحصرها هنا .

قال عنه الإمام الحافظ بن فضل الله العمري وهو ممن عاصر شيخ الإسلام ابن تيميه :
(كانت تأتيه القناطير المقنطرة من الذهب والفضة، والخيل المسومة والأنعام والحرث، فيهب ذلك بأجمعه، ويضعه عند أهل الحاجة في موضعه، لا يأخذ من شيئاً إلا ليهبه، ولا يحفظه إلا ليذهبه).

ويقول أيضاً عنه : ( كان يتصدق حتى إذا لم يجد شيئاً نزع بعض ثيابه فيصل به الفقراء)!!
وقال عنه أحد من عاصره : ( كان يتفضل من قوته الرغيف والرغيفين، فيؤثر بذلك على نفسه)!
وكان أثره عظيماً على تلاميذه، فهو القدوة الحسنة، وهو المربي بسلوكه وأقواله، وهو المؤمن الزاهد العابد، وهو العالم المتيقن ، وهو الذي يفزع إليه الناس في حقائق أمورهم وخواص شؤونهم.


يقول عنه تلميذه الإمام ابن قيم الجوزية :
( وكنا إذا اشتد الخوف وساءت الظنون، وضاقت بنا الأرض بما رحبت، فما هو إلا أن نراه ونسمع كلامه فيذهب عنّا ذلك كله وينقلب انشراحاً وقوة ويقيناً وطمأنينة).


وصدق الشيخ السبكيّ - أحد خصومه السابقين - حينما قال :
( والله ما يبغض ابن تيميه إلا جاهل أو صاحب هوى ، فالجاهل لا يدري ما يقول ، وصاحب الهوى يصده هواه عن الحق بعد معرفته به ) .



(6) من أقول ابن تيميه المهمة .

* ( ماذا يصنع أعدائي بي ؟ أنا جنتي وبستاني في صدري ، أين رحت فهي معي لا تفارقني ، أنا حبسي خلوة ، وقتلي شهادة ، وإخراجي من بلدي سياحة ) .

*
وحين عرضه لهذا الحديث : ( إن من ضعف اليقين أن ترضي الناس بسخط الله، أو تذمهم على مالم يؤتك الله).


قال: ( من عبدالله وأحسن إلى الناس فهذا قائم بحقوق الله وحق عباد الله في إخلاص الدين له، ومن طلب من العباد العوض، ثناءً، أو دعاءً أو غير ذلك لم يكن محسناً إليهم لله، ومن خاف الله فيهم، ولم يخفهم في الله كان محسناً إلى الخلق وإلى نفسه، ومن خافهم ولم يخف الله فهو ظالم لنفسه ولهم، حيث خاف غير الله ورجاه، لأنه إذا خاف دون الله احتاج أن يدفع شرهم عنه بكل وجه، إما بمداهنتهم ومراءاتهم ، وإما بمقابلتهم بشيء أعظم من شرهم أو مثله، فتجد هذا الضرب كثير الخوف من الخلق، كثير الظلم إذا قدر، مهين ذليل إذا ُقهر، فهو يخاف الناس بحسب ما عنده من ذلك وهذا مما يوقع الفتن بين الناس ) .



(7) النفسية التيمية التسامحية في آخر لحظاتها.

كاد له خصومه مرة أخرى وأدخلوه السجن ، ففرح بخلوته بالله وطلبه العلم ، ولكن كانت أكبر مصيبة حلت على شيخ الإسلام طلب بعض القضاة بأن تصادر كتبه وأقلامه ، فكبر ذلك عليه وعز أن تفارقه أقلامه ودفاتره، فكتب بالفحم على الجدران، لكنه مرض بسبب فقده لكتبه وزاد وجعه .
وأخبر صديقه وصاحبه في السجن الشيخ عبدالله الزرعي وفي آخر لحظاته في هذه الحياة الدنيا وهو في السجن البارد الضيق : أنه سامح جميع أعدائه وحللهم من عداوته وسبّه !

ثم تفرغ لتلاوة القرآن وختمه ثمانين مرة ووصل عن قوله تعالى :
( إن المتقين في جنات ونهر * في مقعد صدق عند مليك مقتدر ) .
ثم أشدت علته، وفارق الدنيا وهو سجين، بعيداً عن أقلامه دفاتره !
رحم الله شيخ الإسلام ابن تيمية وأسكنه فسيح جناته وجمعنا به في مستقر رحمته…