أحزان الغروب

أحزان الغروب

بينما كانت الشمس تشرع في رحلة الرحيل، وقف ذلك الشيخ المسن وهو يذرف دموعه
في صمت مودعًا جثمان زوجته بعد زواج استمر أربعين سنة اتحد فيها قلباهما

وعقلاهما ومشاعرهما، وما إن دخلت قبرها حتى شعر بأن الدنيا بأسرها قد أٌقبرت،

وكأن شمس حياته قد أفلت، فأجهش بالبكاء حتى لم تعد تحمله قدماه، فامتدت إليه أيدي

أبنائه الثلاثة تقيمه، فاحتضنوه واحتضنهم تمتزج منهم جميعًا الدموع والأنات في مشهد يفيض حزنًا،

ثم أقفلوا بعدها عائدين إلى بيت الأسرة يجترون أحزانهم.

وما إن دخل الدكتور/ أحمد مختار منزله حتى بدأ التجوال في أنحائه، وكأنه يتبادل الرثاء مع كل قطعة
وناحية فيه، يستعيد خلالها الذكريات في ظل سيل من نظرات الشفقة من

أبنائه، ها هو سيقاسي آلام الوحدة بعد حياة كانت عامرًة بالأصوات والهمسات والضحكات،
ففي هذا البيت أرسى قواعد حياته الزوجية وعاش الحياة بحلوها ومرها بصحبة

الزوجة الحنون، وفي هذا البيت أتى إلى الحياة محمود ومها وهالة، ترعرعوا فيه أمام ناظريه،
حتى ذهب كل منهم إلى عش الزوجية الجديد، وصار لهم أبناء لم يكونوا في قلب الجد أقل مكانة من أبنائه.

أبي، شق محمود السكون بهذا النداء، فاستطرد: لقد اتفقنا على أن يكون الغروب موعد لقائنا هنا كل يوم،
ومها وهالة سوف يقتسمان أمر العناية بشؤون المنزل بالتناوب.


مها وهي تبكي: لن نتركك وحدك يا أبي، لن ندعك للوحدة يا أغلى الناس.

هالة وهي تحتضنه: حان الوقت الذي نرد فيه شيئًا من المعروف.

فلم يعلق الأب على الكلام، وإنما نظر في صفحة خياله بصمت شارد إلى مشهد الغروب.

ظل لقاء الغروب فترة من الزمن روضته ونور حياته، وكأن الشمس التى تأفل عن الخلق تشرق له وحده،

فيقضي أجمل اللحظات بين أبنائه وأحفاده، ثم ينصرفون عنه يحدوه الشوق والأمل إلى الملتقى القادم.

ثم بدا الغروب وكأنه يتمرد عليه، فيومًا يأتون ويومًا يتعللون، فتحين لحظة الغروب تحمل كثيرًا من الآلام،
آلام ذبح الأمل، وآلام الذكريات، فيجلس يداعب قطه الجميل

ويستخرج شريطًا يضعه في ( الكاسيت ) ليستمع إلى ما كان يسجل من أحاديث لرفيقة دربه، فتنساب دموعه،
ثم ينهض ويطعم قطته ويتجرع مزقة لبن، ثم ينام وينام القط بجانبه.
أما زالوا يأتون؟ نعم يأتون كل أسبوع في عجالة، وقد افتقد اللقاء تلك الحرارة وذلك الاهتمام،
وصار فاترًا ينظر كل منهم إلى ساعته من حين لآخر، وعينه ترقبهم فيبادرهم

قائلًا: هيا يا أبنائي لقد تأخرتم، فيودعونه وهو لا يعلم ماذا سيحمل له الغروب في الغد.

غروب وراء غروب ومشهد الأب في شرفته ينتظرهم فيقرع جرس الهاتف سمعه،
فيسير إليه بخطى تبدو عليها آثار السنين: أبي: أعتذر لن أتمكن من المجيء الليلة أيضًا،
فيجيب الأب لا عليك يا حبيبتي، الطعام في الثلاجة كثير لا تنشغلي،
ولكن هل ستأتي مها؟ تجيب: مها اتصلت بي، وقالت أنها تساعد ابنتها في دروسها فلديها امتحان في الغد، ومحمود لا أعلم هل سيأتيك أم لا؟
لا عليك يا ابنتي كان الله في عونكم. ويرفع سماعة الهاتف ليتصل بـ محمود: محمود حبيبي ألن تأتي؟ فيجيب: عفوًا يا أبي قد نسيت الموعد وارتبطت مع زوجتي وأبنائي بموعد للنزهة، أنا آسف يا أبي، فيرد الأب: لا عليك يا حبيبي نزهة سعيدة إن شاء الله.
شعر هذه الليلة بأنه لا يستطيع السير على قدميه إلا بصعوبة بالغة، قام إلى الحمام وهو يترنح،
ويستند إلى الحائط، فارتعشت قدماه وسقط على الأرض مغشيًا عليه، فأفاق ولم يستطع الوقوف،
وظل يزحف حتى يصل إلى الحمام، لكنه لم يتحمل.
اندفع الماء بين رجليه رغمًا عنه، تسيل معه دموع من عينيه لم تكن يوما ما بهذا القدر، ونظر إلى قطه الذي يقف ناظرًا إليه، فتمنى لو أنه توارى عن عينيه خجلًا، ثم نظر إليه وكأنه يشكو إليه ما آل إليه حاله.
ظل أبناؤه معه أسبوعًا حتى بدأ يتماثل للشفاء، فتناهى إلى سمعه حديثهم وهم في الغرفة المقابلة:

محمود: لابد وأن نضع حلًا جذريًا لهذا الأمر، أنا كما تعلمان كثير المشاغل والارتباطات، وأنت يا مها احتياجات أبنائك كثيرة، وأنت يا هالة عملك وبيتك يستنزفان وقتك.
مها: حتى اللقاء الأسبوعي الذي استقر عليه الأمر أصبحت لا أجد له وقتًا.

هالة: وماذا عن خادم يقيم معه؟
محمود في توتر: ومن سيدفع أجره؟
مها: إنني لا أعمل، ودخل زوجي محدود، ولدينا أربع أطفال.
هالة: وأنا راتبي وراتب زوجي بالكاد يكفينا.
محمود في صوت مرتفع: إذا لا يبقى إلا أنا؟ أليس كذلك؟ ألا تعلمان أني أسعى لشراء عيادة جديدة في مكان أفضل بدلًا من عيادة والدي القديمة، وفي سبيل ذلك ضيقت على أسرتي في النفقة؟
مها: وماذا عن معاش والدي؟
محمود: لن يكفي للنفقة وأجرة الخادم، والتي تعلمون أنها قد ارتفعت جدًا في هذه الأيام، بالإضافة إلى مساهمته الشهرية بجزء من دخله لكفالة الأيتام، وهو مالا يتنازل عنه أبدًا، ولكن عندي حل.
مها: ما هو؟
محمود: دار المسنين، حيث الرعاية الكاملة التي لن يستطيع أي منّا القيام بها.

تبادل الجميع النظرات في صمت لم يشقه إلا طرق الباب، كان الطارق هو والدهم الذي كان يتصنع ابتسامة تخفي وراءها الأنين، فقال بصوت واهن: أحبائي لقد اتخذت قرارًا لن أقبل فيه المناقشة، سوف أقيم في دار المسنين، ثم ولّاهم ظهره قاصدًا حجرته وسط نظرات صامتة من أبنائه.

وهناك في دار المسنين، كانت الذكريات زاده وأنيسه، ينتقي أطايبها ويعتنقها فرارًا من واقعه، وبالرغم من الرعاية الكاملة، وكثرة النزلاء حوله، إلا أنه كان يضرب حول

نفسه سياجًا من العزلة، ولم يفته مشهد الغروب، لم يكن يدري ما سر هذا الارتباط بينهما، هل ينتظر أملًا جديدًا؟ أم أنه قد استعذب آلامه؟ حقا لم يكن يدري.


وفي يومه الأخير، بينما كان يودع الشمس ويستقبل مزيدًا من الأحزان، شعر باختناق شديد، فظل يهذي: سأموت نعم إنه الموت، سأفارق الحياة، ستكون نهايتي هنا في دار المسنين، بعيدًا عن بيتي الذي عشت فيه دهرًا مع أهلي وأحبائي، وظل شريط الذكريات يمر أمام ناظريه والألم يزيد والتنفس يزداد صعوبة وكأنه يتنفس من ثقب إبرة، ثم..........
أحمد، أحمد: قالتها زوجته وهي توقظه في هلع لما رأته يمسك برقبته ويتألم وهو نائم، فانتفض قائمًا أنت ...أين أنا؟ قالت: أنت في بيتك، مع زوجتك وأولادك وأمك، قال:


أمي أمي.
أين الهاتف، فأتصل برقم ما قائلًا: نعم أنا الدكتور/ أحمد مختار، أود إلغاء الطلب الذي قدمته لكم بشأن والدتي، ثم هرع إلى غرفة والدته العجوز،فلما رآها ارتمى في حضنها وقبل يديها وقدميها ورأسها،
سامحيني يا أمي سامحيني، قالها والجميع ينظرون إليه في دهشة فلم يكونوا على علم بما كان ينوي فعله،
ثم انتشله من الموقف مشهد الغروب، فوقف يتطلع إليه في شرود.


Hp.hk hgyv,f