مواطن البركة

يسعى الخلائق في هذه الحياة بألوان من الأعمال شتى، يضمحل منها ما كان في معصية الله وسخطه، ويزهو منها ما كان في مرضاة الله وطاعته، قال -عزَّ وجل-: {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ} [الرعد: 17].

وكلُّ شيء لا يكون لله؛ فبركته منزوعة، والربُّ هو الذي يبارك وحده، والبركة كلُّها منه، وهو سبحانه تبارك في ذاته، ويبارك فيمن شاء من خلقه، قال عزَّ وجل: {وَتَبَارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا} [الزخرف: 85]، وكلُّ ما نُسِب إليه سبحانه؛ فهو مبارك {تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} [الرحمن: 78]، واسمه تعالى مبارك تُنَال معه البركة، قال سبحانه: {تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} [الرحمن: 78].

والله -جلَّ وعلا- يأتي بالخيرات، وبفضله يضاعف البركات، وليست سَعة الرزق والعمل بكثرته، ولا زيادة العمر بتعاقب الشهور والأعوام، ولكن سَعة الرزق والعمر بالبركة فيه.

والبركة ما كانت في قليل إلَّا كثَّرته ولا في كثير إلَّا نفعته، ولا غنى لأحد عن بركة الله، حتى الأنبياء والرسل يطلبونها من خالقهم، قال -عليه الصلاة السلام-: (بينما أيوب يغتسل عريانًا، فخرَّ عليه جراد من ذهب، فجعل أيوب يحتثي في ثوبه، فناداه ربه: يا أيوب، ألم أكن أغنيتك عما ترى؟ قال بلى وعزتك، ولكن لا غنى لي عن بركتك)[1].

والرسل والدعاة مباركون بأعمالهم الصالحة، ودعوتهم إلى الخير والهدى، قال عيسى -عليه السلام-: {وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا} [مريم: 31]، ونوح -عليه السلام- أُهْبِط ببركات من الله: {قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلاَمٍ مِّنَّا وَبَركَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِّمَّن مَّعَكَ} [هود: 48]، ودعا نوح -عليه السلام- ربه بالمنزل مبارك: {وَقُل رَّبِّ أَنزِلْنِي مُنزَلًا مُّبَارَكًا وَأَنتَ خَيْرُ الْمُنزِلِينَ} [المؤمنون: 29]،وألقى الله البركة على إبراهيم -عليه السلام- وآله، مواطن البركة   : {وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِّنَ الصَّالِحِينَ * وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ} [الصافات: 113]، وبارك فيه وفي أهل بيته، {رَحْمَتُ اللّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَّجِيدٌ} [هود: 73]، ودعا النبي-صلى الله عليه وسلم- ربه بالبركة في العطاء في قوله: (وبارك لي فيما أعطيت)[2].

وتحية المسلمين بينهم عند اللقاء طلب السلام والرحمة والبركة.
والقرآن العظيم كثير الخيرات واسع المبرات، كتابٌ مباركٌ محكَمٌ فصلٌ مهيمنٌ قال سبحانه: {وَهَذَا ذِكْرٌ مُّبَارَكٌ أَنزَلْنَاهُ} [الأنبياء: 50]، وسورة البقرة سورةٌ مباركة مأمورٌ بتعلُّمها قال النبي-صلى الله عليه وسلم-: (تعلَّموا سورة البقرة؛ فإنَّ أخذها بركة، وتركها حسرة، ولا تستطيعها البطلة)[3]، أي: السحرة.

وسعة الرزق وبركة العمر في صلة الرحم، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (من أحبَّ أن يُبْسَط له في رزقه، ويُنْسَأ له في أثره؛ فليصل رحمه)[4].

والصادق في البيع والشراء والمعاملات مباركٌ له الكسب، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (البيعان بالخيار ما لم يتفرَّقا، فإن صدَقا وبيَّنا؛ بُورك لهما في بيعهما، وإن كذَبا وكتما؛ مُحِقت بركة بيعهما)[5].

ولحرص الإسلام على الأسرة المباركة؛ شُرع الدعاء للزوجين بالبركة عند النكاح قال أبو هريرة -رضي الله عنه- كان النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا رفَّأ الإنسان إذا تزوج؛ قال له: (بارك الله لك، وبارك عليك، وجمع بينكما في خير)[6].
وأوفر النساء بركة ما قلَّت المؤنة في نكاحها ، والزواج السعيد ما صاحبه اليسر والتسهيل، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (أعظم النساء بركة أيسرهن مؤنة)[7]

وإذا دخل رب الأسرة داره؛ شُرِع له إفشاء السلام على أهله رجاء البركة، قال أنس -رضي الله عنه-، قال لي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (يا بني، إذا دخلت على أهلك؛ فسلم، تكن بركة عليك وعلى أهل بيتك)[8].

وإذا قَرُب العبد من ربه؛ بورك له في وقته، وعمل أعمالًا كثيرة في زمن يسير
والمال المبارك ما كَثُر خيره، وتعدَّدت منافعه، وبُذِل في طرق البر والإحسان ابتغاء مرضاته.

ومن أخذ ما أُعِْْطي بتعفُّف وغنى نفس من غير مسألة ولا استشراف له القلب؛ بُورك له فيه، قال -عليه الصلاة السلام-: (من أخذه بطيب نفس منه؛ بُورك له فيه، ومن أخذه بإشراف نفس له؛ لم يبارك له فيه)[9].

والبركة يتحرَّاها العبد في ماله، فالطعام المبارك ما أكلته مما يليك، وتجنب الأكل من وسط الصَّحْفَة، قال -عليه الصلاة السلام-: (البركة تنزل وسط الطعام، فكلوا من حافَتيه، ولا تأكلوا من وسطه)[10]، وأمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بِلَعْق الأصابع والصَّحفة بعد الفراغ من الطعام رجاء البركة، وقال: (إنَّكم لا تدرون في أيِّها البركة)[11].
وفي الاجتماع على الطعام بركة، وفي التفرُّق نزعٌ لها، قال وحشي بن حرب -رضي الله عنه- قالوا: يا رسول الله، إنا نأكل ولا نشبع، قال: (فلعلكم تفترقون؟)، قالوا: نعم، قال: (فاجتمعوا على طعامكم، واذكروا اسم الله؛ يُبارَك لكم فيه).

وسيدُ المياه وأنفعها وأبركها ماء زمزم قال -عليه الصلاة السلام-: (إنَّها مباركة، إنَّها طعام طعم)[12].

وليلة القدر ليلة مباركة، رفيعة القدر عظيمة، المكانة، {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ} [الدخان: 3].

وأول النهار بعد صلاة الفجر زمن غنيمة مبارك، ووقت نزول الأرزاق وحلول البركات، أقسم الله به في كتابه بقوله، {وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ * وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ} [التكوير: 18،17]، والنبي -صلى الله عليه وسلم- دعا بالبركة في بدوِّ الصباح فقال: (اللهم بارك لأمتي في بكورها)[13].

وبيت الله الحرام بيت مبارك قال -عزَّ وجل-: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ} [آل عمران: 96].

ومدينة المصطفى -صلى الله عليه وسلم- مدينة مباركة، وصاعها ومُدَّها مبارك فيه، وتَمْر عاليتها شفاء، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (اللهم بارك لنا في مدينتنا، وبارك لنا في صاعنا ومُدِّنا)[14]، وفي لفظٍ له: (اللهم اجعل مع البركة بركتين).

والفضيلة الدائمة في كلِّ زمان ومكان هي في الإيمان والعمل الصالح، وأيُّ مكان كان أعون للشخص؛ كان أفضل في حقه، قال سلمان -رضي الله عنه-: "إنَّ الأرض لا تقدِّس أحدًا، وإنَّما يقدِّس الرجل عمله".

ولا يُنال ما عند الله إلَّا بطاعته، والسعادة في القرب من الله، وبالإكثار من الطاعات تحِلُّ البركات، وبالرجوع إليه تتفتَّح أبواب الرزق.



مادة صوتية مفرغة للشيخ: عبد المحسن القاسم -حفظه الله- بعنوان: مواطن البركة.


[1] رواه البخاري.

[2] رواه الترمذي.

[3] رواه أحمد.
[4] رواه البخاري
[5] متفق عليه.

[6] رواه الترمذي.

[7] رواه أحمد.
[8] رواه الترمذي.
[9] رواه البخاري.

[10] رواه الترمذي.

[11] رواه مسلم.

[12] رواه مسلم.
[13] رواه أبو داود.
[14] رواه مسلم.

l,h'k hgfv;m