كلمات لروح حائرة

كلمات لروح حائرة


إن القلوب - إذا امتدَّ بها الزمانُ بدون جِلاءٍ - صَدِئَتْ وأظلَمت وقَسَت، وأصبحت قلوبًا متصحرة ميتة،
كتلك الخطب الميتة التي نَسمعها أحيانًا يوم الجمعة، لا تحيي قلبًا، ولا توقظ روحًا، والقلوب الميتة لا تتألم،
لا لفوات طاعة، ولا لضياع فرصة لعمل الخير، يقول محمد الحجار:

"إن المسلِم اليوم لم يَفقِد العِلمَ، ولم يفقد المال بمثل ما فَقَدَ القلبَ الحيَّ الولوع، والقلبَ الحنون،
والقلبَ المشرق العامر بالإيمان، والقلبَ النابض، القلب الذي يتحرَّق على خسارة الرُّوح، وفقْدِ الضمير،
أكثرَ مما يتحرَّق على خسارة التصدير والتوريد".

فأنَّى لروح قلِقة، وقلب ميت، أن يخشع في الصلاة؟! أو أن يستشعر حلاوتَها؟!
فصاحبُ هذا القلب يؤدِّي حركاتِ الصلاة، ويَنطق بأدعيتها، ولكنَّ قلبَه لا يعيش معها، ولا يعيش بها،
وروحَه لا تستحضر حقيقةَ الصلاة، وحقيقةَ ما فيها مِن قراءاتٍ، ودعواتٍ، وتسبيحات!

وأما أصحاب القلوب الحية، فيقول الله عنهم:

{الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون: 2]،


كلمات لروح حائرة


يقول سيد قطب:

"تستشعر قلوبُهم رهبةَ الموقف في الصلاة بين يدي الله، فتَسكُن وتَخشع، فيَسرِي الخشوعُ منها إلى الجوارح،
والملامح، والحركات، ويغشى أرواحَهم جلالُ الله في حضرته، فتختفي من أذهانهم جميعُ الشواغل، ولا تشتغل بسواه،
وهم مستغرقون في الشعور به، مشغولون بنجواه، ويتوارى عن حسهم في تلك الحضرة القدسية كلُّ ما
حولهم، وكلُّ
ما بهم، ويتطهر وجدانُهم من كل دنس، وعندئذ تجد الروحُ الحائرة طريقَها، ويَعرِف القلبُ
الموحش مثواه،
وعندئذٍ تتضاءل القيمُ والأشياء والأشخاص، إلا ما يتصل منها بالله".


إن القلوب الحية قلوب موصولة بالله، ويسير أصحابها وَفقَ منهج الله، بلا تخبطٍ، أو قلق، أو حيرة، كما تحيا
البشريةُ الضالة النكدة في عذاب، فعلى الرغم من جميع الانتصارات العلمية،
وجميع التسهيلات الحضارية المادية،
إلا أنها تعاني خواءً مريرًا؛ خواء الروح من الحقيقة، التي لا تطيق
فطرتُها أن تصبر عليها حقيقة الإيمان، وخواء
حياتِها من المنهج الإلهي، إنهم لا يَجدُون أنفسَهم؛ لأنهم
لا يجدون غايةَ وجودِهم الحقيقيةَ، ولا يجدون سعادتهم؛
لأنهم لا يجدون المنهج الإلهي، ولا يجدون طمأنينتهم؛
لأنهم لا يعرفون الله، فلا مناص للإنسان حين يبتغي سعادتَه
وراحته، وطمأنينةَ باله، وصلاحَ حاله - من
الرجوع إلى منهج الله، عندها يفتح الله بصيرتَه على استقامة الطريق،
ويهديه إلى الخير بوحي من حساسية الضمير وتقواه.



كلمات لروح حائرة


والقلب الموصول بالله دائمُ الذكر لله، في كل بقعة، وفي كل أوان،
ومن ثَم يَظل هذا القلب مفتوحًا يقِظًا حساسًا، فكل ما حوله يُذكِّره بتسبيح الله وحمده.

وهو قلب ينعم بالسكينة، والسكينة حين ينزلها الله في قلب، تكون طمأنينةً وراحة، ويقينًا وثقة،
ووقارًا وثباتًا، واستسلامًا ورضًا بقضاء الله، والإنسان إذا اطمأنَّ إلى أن اختيار الله أفضلُ من اختياره،
وأرحمُ له، وأعودُ عليه بالخير، استراح وسكن، ولكن هذا منَّة من الله وفضل يعطيه من يشاء،

يقول سيد قطب:

"السكينة الوقورة كالتقوى المتحرجة المتواضعة، كلتاهما تليق بالقلب المؤمن الموصولِ بربِّه،
الساكنِ بهذه الصلة، المطمئنِّ بما فيها من ثقة، المراقب لربه في كل خالجة، وكل حركة".

والقلب إذا سكن عند ربه، زهد صاحبُه في هذه الدنيا، وانطلق من همومها وشواغلها، وارتفع عن
حاجاتها،
فحلَّقت روحه في آفاق الرضا والتسبيح، والحمد والسلام، تلك الآفاق اللائقة بكمال الإنسان.


كلمات لروح حائرة


غَرَسَ الزُّهْدُ بِقَلْبِي شَجَرَهْ***بَعْدَ أَنْ نَقَّى بِجُهْدٍ حَجَرَهْ
وَسَـــــقَاهَا إِثْرَ مَا أَوْدَعَهَا***كَبِدَ الأَرْضِ بِدَمْعٍ فَجَّرَهْ
وَمَتَى أَبْصَرَ طَيْرًا مُفْسِدًا***حَائِمًا حَوْلَ حِمَاهَا زَجَرَهْ
نِمْتُ فِي ظِلٍّ ظَلِيلٍ تَحْتَهَا***رَوَّحَ القَلْبَ وَنَحَّى ضَجَرَهْ
ثُمَّ بَايَعْتُ إِلَهِي وَكَذَا***بَيْعَةُ الرِّضْوَانِ تَحْتَ الشَّجَرَهْ

إن أصحابَ القلوبِ الحية الموصولةِ بالله، هم وحدَهم الذين تجدُ أرواحُهم الأنسَ بالله في جوف الليل،
إذ الناس نيام، والكون ساكن يُسَبِّح، يقول سيد قطب: "إن قيامَ الليل والناسُ نيام، والانقطاعَ عن غبش
الحياة اليومية وسفسافِها، والاتصالَ بالله، وتلقي فيضِه ونوره، والأنسَ بالوحدة معه، والخلوةِ إليه، وترتيلَ
القرآن والكونُ ساكن، واستقبالَ إشعاعاته، وإيحاءاته، وإيقاعاته في الليل الساجي، إن هذا كلَّه هو الزادُ
لاحتمال العبء الباهظ، والجهدِ المرير، الذي ينتظر مَن يدعو بهذه الدعوة في كل جيل، وينير القلبَ في
الطريق الشاق الطويل، ويَعصِمه من وسوسة الشيطان، ومن التِّيهِ في الظلمات الحافة بهذا الطريق المنير".

قُلْتُ لِلَّيْلِ كَمْ بِصَدْرِكَ سِــــرًّا***أَنْبِئَنِّي مَا أَرْوَعُ الأَسْــــرَارِ
قَالَ مَا ضَاءَ فِي ظَلاَمِيَ سِرٌّ***كَدُمُوعِ الْمُنِيبِ فِي الأَسْحَارِ


كلمات لروح حائرة


قال الفُضَيْل بن عياض:


"أدركتُ أقوامًا يَستحْيُون من الله في سواد الليل؛ من طول الهجعة، إنما هو
على الجنب،
فإذا تحرَّك قال: ليس هذا لكِ، قُومِي خُذي حظَّكِ من الآخـرة".

أَلاَ يَا نَفْسُ وَيْحَكَ سَاعِدِينِي***بِسَعْيٍ مِنْكِ فِي ظُلَمِ اللَّيَالِي
لَعَلَّكِ فِي القِيَامَةِ أَنْ تَفُوزِي***بِطِيبِ العَيْشِ فِي تِلْكَ العَلاَلِي

وهم وحدَهم الذين تحلِّق أرواحُهم في عالم الوُدِّ والألفة، والحبِّ في الله ولله،
بعد أن خالطتْ حلاوةُ الإيمان قلوبَهم، يقول سيد قطب:

"إن هذه العقيدة عجيبة فعلاً، إنها حين تخالط القلوبَ، تستحيل إلى مِزاجٍ من الحب والألفة،
ومودات القلوب، التي تُلَيِّن جاسيَها، وترقِّق حواشيَها، وتُنَدِّي جفافَها، وتربط بينها برباط وثيق، عميق رفيق،
فإذا نظرةُ العين، ولمسةُ اليد، ونطقُ الجارحة، وخفقةُ القلب - ترانيمُ من التعارف والتعاطف، والولاءِ
والتناصر، والسماحةِ والهوادة، لا يَعرِف سرَّها إلا مَن ألَّف بين هذه القلوبِ، ولا تعرف مذاقَها إلا هذه القلوبُ،
وهذه العقيدة تهتف للبشرية بنداء الحب في الله، وتوقع على أوتارها ألحانَ الخلوص له، والالتقاءِ عليه؛

يقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:

((إن من عباد الله لأُناسًا ما هم بأنبياءَ، ولا شهداءَ، يَغْبِطهم الأنبياءُ والشهداء يوم القيامة؛
بمكانهم من الله تعالى))، قالوا: "يا رسول الله، تُخْبرنا مَن هم؟"، قال:

((هم قوم تحابُّوا بروح الله، على غير أرحامٍ بينهم، ولا أموال يتعاطونها،
فوالله، إنَّ وجوههم لنورٌ، وإنهم على نور، لا يخافون إذا خاف الناس، ولا يحزنون
إذا حزن الناس))؛
صحيح، الألباني - "صحيح أبي داود": 3527.


كلمات لروح حائرة


أُحِبُّ أَخِي فِي اللَّهِ حُبًّا***يَفُوقُ شَذَاهُ إِبْدَاعَ المَعَانِي

وَلَكِنَّ حُبِّي لِلَّهِ أَقْوَى***أَقُودُ بِهِ أَخِي نَحْوَ الجِنَـــانِ

إن هؤلاء قد أنعم الله عليهم برزقٍ وافر، رزق الأرواح والسرائر، فكما أن للأبدان رزقًا، فللقلوب والأرواح
كذلك رزقٌ، قال الإمام ابن تيمية: "وكما أن لله ملائكةً موكلة بالسحاب والمطر، فله ملائكة موكلة بالهدى والعلم،
هذا رزق القلوب وقُوتُها، وهذا رزق الأجساد وقُوتُها"؛ ولكن شتان بين الرزقين، رزق يشد الجسمَ إلى الأرض،
ورزق يحلِّق بالروح إلى الأعلى.

ثَقُلَتْ زُجَاجَاتٌ أَتَتْنَا فُرَّغًـــــــــا***حَتَّى إِذَا مُلِئَتْ بِصَرْفِ الرَّاحِ
خَفَّتْ فَكَادَتْ أَنْ تَطِيرَ بِمَا حَوَتْ***وَكَذَا الجُسُومُ تَخِفُّ بِالأَرْوَاحِ

وإن قلبًا قد أوتي حظًّا وافرًا من الأرزاق التي ذَكَرنا - لهو قلبٌ طاهر مُنَوَّر، يميز بين الحق والباطل؛
كما قال العلماء في شرح الحديث النبوي:

((البِرُّ ما سكنتْ إليه النفسُ، واطمأنَّ إليه القلبُ، والإثمُ ما لم تسكنْ إليه النفسُ،
ولم يطمئنَّ إليه القلبُ، وإن أفْتَاك المُفتُون))؛ (صحيح، الألباني، "صحيح الجامع": 2881):

"هذا في قلب طاهر منوَّر، واقفٍ عند حدود الشرع، يفيض عليه النورُ من مشكاة النبوة، فهو كأنه مرآة مجلوَّة،
فصاحبُ مثلِ هذا القلبِ يرجع إلى قلبه في الشبهات، وهو الذي يميز بين الحق والباطل، وبين الخير والشر".


كلمات لروح حائرة


ولكنْ لا يأسَ من قلبٍ خمد وجمد، وقسا وتبلَّد، فإنه يمكن أن تَدبَّ فيه الحياةُ، وأن يشرق فيه النورُ؛
فالله يحيي الأرضَ بعد موتها، فتنبض بالحياة، وتزخر بالنبت والزهر والثمار، وكذلك القلوب حين يشاء الله،

يقول سيد قطب:

"إن هذا القلب البَشَرِي سريع التقلُّب، سريع النسيان، وهو يَشفُّ ويشرق فيفيض بالنور، ويرف كالشعاع،
فإذا طال عليه الأمد بلا تذكير ولا تذكُّر، تبلَّد وقسا، وانطمستْ إشراقتُه، وأظلم وأعتم، فلا بد من تذكيرِ هذا
القلبِ؛ حتى يذكرَ ويخشع، ولا بد من الطرق عليه؛ حتى يرِقَّ ويشف، ولا بد من اليقظة الدائمة؛ كي لا
يصيبَه التبلدُ والقساوة".

اللهم اغسل قلوبَنا بماء اليقين، وأثلِج صدورنا بسكينة المؤمنين، واجعل ألسنتنا تلهج بالذِّكر مع الذاكرين،
اللهم آمين، والحمد لله رب العالمين.


كلمات لروح حائرة


منقول بتصرف


;glhj gv,p phzvm