حينَما تنظرُ نظرةً عامَّةً إلى السيرةِ النبويةِ، دونَ سَبْرِ التَّفاصيل، ومُخابَرَةِ الأحداثِ على وجهٍ يطولُ، فإنَّك ستجدُ حتْماً، أنَّها مرَّتْ في مراحلَ متعاقبةٍ، وخُطواتٍ حثيثةٍ كلٌّ منها يتعلَّقُ بما بعدَهَا، وهذه المراحِلُ إنْ وضعْتَهَا فقارَنْتَها بما تمرُّ عليهِ الأمةُ الآنَ لجَزَمْتَ حينئذٍ بأنَّ التَّاريخَ مٌكرَّرٌ، يُعيدُ نفسَهُ، ولا يُخطئُ الكَرَّةَ، ولا ينْسى مرْحلَةً، ولا يغفلُ عنْ خُطوةٍ واحدةٍ.
فمرَّتِ السيرةُ النَّبَويَّةُ بحِقَبٍ عامَّةٍ، وخُطوطٍ عريضةٍ مُرتبةٍ ترْتيباً يُوافقُ العقْلَ والفطْرَةَ والتاريخَ، كيفَ لا واللهُ هو الذي قدَّرَها، ورتَّبَها، وأحسنَ بناءَها على بعضِها:

  1. مرْحَلَةُ بِناءِ النُّواةِ الصافيةِ النَّقِيَّةِ:

    فكان المسلمون بلا قُوةٍ، ولا جَيْشٍ، ولا دَولَةٍ، وإنَّما كانتْ متعلقةً بحمايةِ كافرٍ ذي قُربى، أو مُشْركٍ ألقيتْ في قلبِه رأفةٌ، أومُسلمٍ أعلنَ الإسْلامَ وكانَ ذا سَطْوَةٍ وجاهٍ، وهي التي امتدَّتْ من البعثةِ إلى الهجْرَةِ:


  • أ‌- مرْحلةُ السِّرِّ والكتْمانِ.
  • ب‌- مرْحلةُ الجَهْرِ بالدَّعوةِ.


  1. مرْحَلَةُ الهِجْرَةِ:

    والتي امتدَّتْ من الهجرةِ إلى غزوةِ بدر الكُبرى، وهي المرحَلَةُ الفارقةُ بينَ الاستضعافِ والتَّمْكين، فبدأتْ بهذه المرحلة بداياتُ التَّمْكينِ المَوْعود.
  2. مرحلةُ بناءِ الدَّوْلَةِ الإسلامية النَّبويةِ:

    والتي امتدَّتْ من غزوةِ بدرٍ الكبرى إلى صلحِ الحُديبية، وهذه المَرْحلةُ هي من أخطرِ المراحلِ، وأدَقِّها، وأكثرِها حَرَجاً، فكانتِ الدَّولةُ النبويةُ الناشئةُ اختباراً وتمحيصاً، وكانتْ تنقُدُ الصفوفَ، وتنقضُ عُرى الكاذبين، وتمثَّلتْ هذه المرْحَلَةُ في بناءِ صرْحٍ صغيرٍ، موجودٍ وسطَ عالِمٍ مُظلمٍ كبيرٍ، كالنقطةِ البيضاءِ وسطَ بحْرٍ مُدلهمٍّ أسود ظالمٍ، فاجتمعتِ الأحزابُ، وتحزَّبَتِ أممُ الكُفرِ قاطبةً؛ لإبطالِ هذه المرْحلة، وجيَّشوا جيوشَهم، وهاجموا تلك الدولةَ من كل مكانٍ.

فكانتْ هذه المرْحَلَةُ مشوبَةً بغزوِ الكُفارِ مُحاولين أن يَنقضوا عرى الدولةِ الإسلاميةِ النبوية، وممزوجَةً بمكرِ المنافقينَ المختلطينَ بالمجتمعِ المسلم، فكانتْ أجسادُ المنافقينَ مع المُسْلمين وقلوبُهُم مع غيرِ المسلمين، وكانَ لليهودِ فيها صوْلاتٌ وجَوْلاتٌ وسعْيٌ بفسادٍ، حتى طهَّرَ نبيُّنا المدينةَ من نجاستِهم وعُهرِهم.

  1. مرْحَلَةُ الصلحِ على ضعْفٍ من الكُفرِ وأهلِه:

    تسْليماً منهم بالأمْرِ الواقعِ والتي امتدَّتْ من صلحِ الحديبية إلى فتحِ مكةَ شرَّفها اللهُ تعالى: فصارَ للمسلمينَ كلمةً وقتَها، ولكن ما زال للمُشْركينَ قوة، وكانوا يتربَّصونَ بالمسلمين أن يقعوا في مَرْحَلَةِ ضَعْفٍ، فكانوا كالثعالبِ المُترقبة، والأفاعي السَّامَّةِ المُتَأهِّبة حتى حصلَ ما حصلَ من نقضِ المشركينَ عهدَ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم.
  2. مرْحَلَةُ القُوةِ المُطلقةِ واليَدِ الضاربةِ:

    وهي المرْحلةُ التي مكَّن اللهُ فيها للمؤمنينَ التمكينَ المُطلقَ، الذي لا غُبارَ عليهِ؛ ليتفرَّغوا بعدَها في عصْرِ الخلافةِ الراشدة؛ ليُطهروا الأرضَ من دَنَسِ الكُفرانِ، ورِجْسِ الشرْكِ والكُفران، وهذه المرحلةُ امتدَّتْ من فتحِ مكةِ إلى وفاةِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم.

فتأملْ هذه المراحلَ، وتنبَّهْ إلى لطائفِها ونُكتِها، وغُصْ في معانيها، تَنْجلي لك كثيرٌ من الحقائقِ، وتنكَشِفُ لك كثيرٌ من أسْرارِ ما تمرُّ بهِ الأمةُ الآنَ.
أخوكُم في اللهِ

أبُو مُحَمَّدٍ

بِشر مُحَمَّد خنفَر

23/5/1436

14/3/2015


k/vmR uhl~QmR td hgsdvmA hgk~Qf,dm