المنهج الأسطوري
في آراء المحدثين


2008مـ
جامعة الخليل
علي "محمد زايد" غيث




إشراف الدكتور: جمال غيظان
O

الطالب: علي محمد زايد غيث

المادة: شعر جاهلي
البحث: المنهج الأسطوري
إشراف: الدكتور جمال غيظان






جامعة الخليل



n

فهرست............................................. ..............(3)

المقدمة........................................... ..................(4)

الفصل الأول: الأسطورة
_مفهوم الأسطورة.......................................... ........(5)
_أنواع الأسطورة.......................................... ........(8)
_أنواع المناهج الأسطورية......................................... ..(9)
_علاقة الأسطورة بالشعر...........................................( 9)
_واقع المنهج الأسطوري.......................................... ..(10)
_تقويم المنهج الأسطوري.......................................... .(11)

الفصل الثاني: الأسطورة في الشعر الجاهلي
_صورة الفرس الأسطورة.......................................... (13)
_نماذج أسطورية من الشعر الجاهلي.................................(14)

خاتمة............................................. ...............(19)

المصادر والمراجع.......................................... ........(20)




m


لا يستطيع الولوج في الأسطورة وماهيتها إلا من أحاط بها خبرا, فلا يتأتى لأي شخص أن يسبر غورها وأعماقها هكذا من لا شيء, فلا بد من استنزاف الطاقات والأوقات لإضاءة مشعل ذي طيف بسيط على طريق إدراك ماهية الأسطورة, ومع هذا لا يجدر بأي منا أن يجزم بأمر يتعلق بالأسطورة بشكل أو آخر, فهي بحق يعتريها الغموض وأي غموض, إنها تجعل المرء عاجزا عن الجواب عن ماهيتها وهو يزعم أنه يعرفها, فصدق علينا قول قائلهم: أنا أعرف الأسطورة, وإذا ما سألتني عنها أقف حيران عجبا, لا أستطيع أن أعرفكها؛ فلذا قال يونغ:" إن كل المحاولات ألتي بذلت لتفسيرالأسطورة لم تساهم في فهمها، بل على العكس زادت في الابتعاد عن جوهرها, وزادتحيرتنا نحوها "([1]). فالاسطورة ممتنعة عن الإدراك بوصفها متاهة عظمى.
وعليه, نشأت عدة تعاريف للأسطورة, وهذه التعاريف ساهمت في تعدد المناهج التي قامت على أساس الأسطورة, وستجدها في موضعها من هذا البحث([2]), وحتى يتأتى لنا الدخول في صلب البحث, لا بد من إلقاء الضوء على أهم الشخصيات التي خاضت غمار هذه التجربة, ألا وهي مفهوم الأسطورة, أو المنهج الأسطوري:
يبدو أن هذا المنهج النقدي قد تبلورت ملامحه نتيجة لجهود عالمين, هما: سير جيمز جورج فريزر, عالم الأنثروبولوجيا الاسكتلندي من خلال مؤلفه: ( الغصن الذهبي ), وهو في اثني عشر مجلدا من عام 1890م حتى عام 1915م, تتبع فيه الأساطير إلى بدايتها في ما قبل التاريخ([3]), وكوستاف يونغ الذي ارتبط اسمه أصلا باسم فرويد, وكانت جهوده فيما يتعلق بالنقد الأسطوري في نظرية الذاكرة الجماعية.
إن جهدي هذين العالمين في توكيدهما على سيادة الأسطورة وعلاقتها بالذاكرة الجماعية استهوتا الخيال الخلاق أشد استهواء، ومن ذلك يتبين أن هنالك مصدرين رفدا المنهج الأسطوري, هما: علم الأنثروبولوجيا وعلم النفس التحليلي في الصيغة اليونغية, على الرغم من أن يونغ قد حذر من تطبيق فلسفته على الأدب, وسنعرض الآن لمفهوم الأسطورة حسب ما وردت في الكتب التي تعرضت لها.
الفصل الأول: الأسطورة

مفهوم الأسطورة:

الأسطورة لفظ زئبقي, فمن الصعوبة بقدر تحديد هوية هذا اللفظ, والأظهر أنّ الأسطورة لفظ معرّب عن الرومية: أصله إسطوريَا, بكسر الهمزة وهو القصّة. ويدلّ لذلك اختلاف العرب فيه، فقالوا: أسطورة وأسطيرة وأسطور وأسطير، كلّها بضم الهمزة, وإسطارة وإسطار بكسر الهمزة. والاختلاف في حركات الكلمة الواحدة من جملة أمارات التعريب. ومن أقوالهم:" أعجميّ فالعب به ما شئْت". وأحسن الألفاظ لها أسطُورة؛ لأنّها تصادف صيغة تفيد معنى المفعول، أي القصّة المسطورة. وتفيد الشهرة في مدلول مادّتها, مثل الأعجوبة والأحدوثة والأكرومة.
وقد ذهب أحد المستشرقين إلى أن (أسطورة)قريبة الصلة بقرينتها اليونانية اللاتينية (Historia), بمعنى إنها أخبارتؤثر عن الماضين. لقد اقترنت الأسطورة في لغة العرب بمفهوم الأحاديث المنمقة، أو المزخرفة التي لا نظاملها. فهي مشتقة من السطر من الشيء: بمعنى الصف من الكتاب والشجر والنخل ونحوها.وسطر: إذا كتب كما ورد في قوله تعالى:] ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ[, (القلم: 1), وسطرها بمعنى ألفها,وسطر علينا : أتانا بالاساطير ، وسطر فلان على فلان ، إذا زخرف له الأقاويل،ونمقها ، وتلك الأقاويل: الأساطير.
وكلمة ( أساطير ) وردت في القرآن الكريمجمعاً، ولم ترد مفردةً (أسطورة )، كما إنها جاءت دائماً مضافة إلى (الأولين) فيتسع آيات, هي:

1. ]وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آَذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آَيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ[, (الأنعام: 25).
2. ]وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ [, (الأنفال: 31).
3. ]وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ[, (النحل: 24).
4. ]لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآَبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ[, (المؤمنون: 83).
5. ]وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا[, (الفرقان: 5).
6. ]لَقَدْ وُعِدْنَا هَذَا نَحْنُ وَآَبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ[, (النمل: 68).
7. ]وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آَمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ [, (الأحقاف: 17).
8. ]إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آَيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ[, (القلم: 15).
9. ]إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آَيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ[, (المطففين: 13).

يقول ابن عاشور:" فقولهم: (أساطير الأولين), يحتمل أنهم أرادوا نسبة أخبار القرآن إلى الكذب على ما تعارفوه من اعتقادهم في الأساطير. ويشتمل أنهم أرادوا أن القرآن لا يخرج عن كونه مجموع قصص وأساطير, يعنون أنه لا يستحق أن يكون من عند الله؛ لأنهم لقصور أفهامهم أو لتجاهلهم يعرضون عن الاعتبار المقصود من تلك القصص, ويأخذونها بمنزلة الخرافات التي يتسامر الناس بها لتقصير الوقت."([4]).
لا تقف معاجم اللغة العربية كثيراً أمام كلمة الأساطير.. بل يرى الدكتور أحمد كمالزكي_ صاحب كتاب الأساطير _أن معاجمنا اللغوية تقف, عاجزة عن إعطاء المدلولاتالحقيقية لكلمة الأسطورة.. فالأساطير في هذه المعاجم هي: (الأحاديث التي لا نظاملها), وهى: (الأباطيل والأحاديث العجيبة), و(سطر تسطيراً ألف وأتى بالأساطير)،والأسطورة هي: (الحديث الذي لا أصل له).وهذه كلها تعاريف ومعانى من حيث اللغة, أم من حيث الاصطلاح, فأنقل ما يلي منها:
أ‌- يقول الباحث الفرنسي, كلود ليفي ستراوس: الأسطورة: حكاية تقليدية، تلعب الكائنات الماورائية أدوارها الرئيسية.
ب‌- يقول بول ريكو: الأسطورة: حكاية تقليدية، تروي وقائع حدثت في بداية الزمان.
ت‌- يقول الفيلسوف الفرنسي, جيلبار دوران: الأسطورة: نظم لوقائع رمزية في مجرى الزمان.
ث‌- يقول مرسيا إلياد: الأسطورة: قصة مقدسة تروي حدثاً وقع في بداية الزمان.
ج‌- يقول السواح: الأسطورة: حكاية مقدسة، ذات مضمون عميق يشف عن معاني ذات صلة بالكون والوجود وحياة الإنسان, وإنها سجل أفعال الآلهة، تلك الأفعال التي أخرجت الكون من لجة العماء، ووطدت نظام كل شيء قائم، ووضعت صيغة أولى لكل الأمور الجارية
ح‌- ويرى الناقد السوري، خلدون شمعة أن الأسطورة: قصة متداولة أو خرافية، تتعلق بكائن خارق أو حادثة غير عادية؛ فهي قصة مخترعة أو ملفقة.
خ‌- ومنهم من يرى الأسطورة: قصة مجازية تخفي أعمق المعاني, أو أنها قصة رمزية تعبر عن فلسفة كاملة لعصرها.
د‌- ويرى الدكتور محمد فتوح أحمد أن الأسطورة: حكاية مجهولة المؤلف, تتحدث عن الأصل والعلة والقدر، ويفسر بها المجتمع ظواهر الكون والإنسان تفسيراً، لا يخلو من نزعة تربوية تعليمية.
ذ‌- ويرى الدكتور قيس أن الأسطورة: ليست سجلاً تاريخياً مضبوطا للأحداث الجارية عبر ماضي الجماعات، بل هي تمثل تاريخاً قبلياً، تتوارثه الأجيال المتعاقبة عن طريق التلقين.
ر‌- ويصف الدكتور عبد الرضا علي الأسطورة بأنها: الوعاء الأشمل الذي فسر فيه البدائي وجوده، وعلل فيه نظرته إلى الكون، محدداً علاقته بالطبيعة، من خلال علاقته بالآلهة التي اعتبرها القوة المسيرة والمنظمة والمسيطرة على جميع الظواهر الطبيعية، وتعاقب الفصول، والليل والنهار، والخصب والجفاف، مازجاً فيها السحري بالديني، وصولاً إلى تطمين نفسه, ووضع حد لقلقه و أسئلته الكثيرة. إنها أسلوب لشرح معنى الحياة والوجود صيغ بمنطق عاطفي كاد يخلو من المسببات، امتزج فيها الدين بالتاريخ، والعلم بالخيال، والحلم بالواقع.
ز‌- وفي قاموس اللاروس، الأسطورة: خبر تاريخي, أو حكاية تاريخية بالغت فيها المخيلة الشعبية, أو الابتكار الشعري.

وبعد هذا السرد لما رآه الفلاسفة وغيرهم من معنى للأسطورة، نلحظ اتجاهين، اتجاها يجعل من الأساطير واقعاً تاريخياً، واتجاها يرى أن البشر الأولين إذ صعقتهم ظواهر الطبيعة، بدأوا يعطونها أسماء انتقلت تدريجياً إلى أشخاص، على اعتبار الفكر البدائي، عاجز عن تشخيص المجردات وهكذا صارت الحياة الكونية تكتسب حياة.
إن هذا الاتجاه بشقيه المتضادين، يحصر الأسطورة في اهتمامها بظواهر الطبيعة، التي حاول الإنسان أن يفهمها ويسيطر عليها عن طريق الاسترضاء أو التحدي، وعند عجزه، حاول أن ينسجم معها قدر الإمكان.
لقد أصبحت الأسطورة حاجة روحية لا غناء للإنسان عنها، ففيها تظهر انفعالاته الشعورية واللاشعورية، تأملاته في المستقبل أو ما ينبغي أن تكون عليه الحياة الأفضل، خيالاته التي تحقق ما يعجز عن تحقيقه في الواقع، آماله، توقه الأبدي إلى الجديد، محاولته الجدية للتخلص من فرديته، أي أنها أصبحت فناً وضرورة له؛ ليفهم الحياة، بل ليجعلها أكثر إنسانية، وستبقى الأسطورة حاجة روحية، وضرورة موضوعية للإنسان كالشعر في القرون القادمة. فما دام هذا الإنسان على وجه البسيطة، فإنه يحتاج إلى هذا الفن، لأسباب مختلفة.

أنواع الأسطورة:

الأساطير متنوعة في مواضيعها، فهناك من يرى أنواعها خمسة, هي:

أ‌- الأسطورة الطقوسية: وهي تمثل الجانب الكلامي لطقوس الأفعال ألتي من شأنها أن تحفظ للمجتمع رخاءه.
ب-أسطورة التكوين: وهي التـي تصور لنا عملية خلق الكون.
ج- الأسطورة التعليلية: وهي ألتي يحاول الإنسان البدائي عن طريقها، أن يعلل ظاهرة تستدعي نظره، ولكنه لا يجد لها تفسيراً، ومن ثم فهو يخلق حكاية أسطورية، تشرح سر وجود هذه الظاهرة.
د- الأسطورة الرمزية: وهي ألتي تتضمن رموزاً تتطلب التفسير، ومن المؤكد أن هذه الأساطير قد ألفت في مرحلة فكرية أكثر نضجاً ورقياً.
هـ- أسطورة البطل الإله: وهي التي يتميز فيها البطل بأنه مزيج من الإنسان والإله، (ألبطل المؤله ) ألذي يحاول بما لديه من صفات إلهية أن يصل إلى مصاف الإلهة، ولكن صفاته الإنسانية دائماً تشده إلى العالم الأرضي.

بينما نجد الدكتور, أحمد كمال زكي يقسمها إلى أربعة أنواع, هي:

أ- الأسطورة الطقوسية.
ب- الأسطورة التعليلية.
ج- الأسطورة الرمزية.
د- التاريخسطورة، وهي: تاريخ وخرافة معاً.

أنواع المناهج الأسطورية:

إن تنوع الأساطير أدى إلى تنوع المناهج التي تتناول الأساطير بالدراسة، فلذا ظهرت المناهج التالية:

أ‌- المنهج اليوهيمري الذي يعد من أقدم تلك المناهج، ويرى الأسطورة قصة لأمجاد أبطال وفضلاء غابرين.
ب-المنهج الطبيعي ألذي يعتبر أبطال الأساطير ظواهر طبيعية، ثم تشخيصها في أسطورة، اعتبرت بعد ذلك قصة لشخصيات مقدسة.
ج-المنهج المجازي بمعنى أن الأسطورة قصة مجازية، تخفي أعمق معاني الثقافة.
د-المنهج الرمزي بمعنى أن الأسطورة قصة رمزية، تعبر عن فلسفة كاملة لعصرها، لذلك يجب دراسة العصور نفسها لفك رموز الأسطورة.
هـ-المنهج العقلي ألذي يذهب إلى نشوء الأسطورة نتيجة سوء فهم ارتكبه أفراد في تفسيرهم، أو قراءتهم أو سردهم لرواية أو حادث.
و-منهج التحليل النفسي الذي يحتسب الأسطورة رموزاً لرغبات غريزية وانفعالات نفسية.

علاقة الأسطورة بالشعر:

الأسطورة والشعر توأم، وعودة الشعر إليها، إنما هو حنين الشعر إلى ترب طفولته, بل هو عشق المحبوبة, لا ريب أنه استحكم في نفس العاشق, فمن يملك نزعه؟ لقد وجد الشاعر في الأسطورة ضالته, فالشعر بطبعه لا يفسر كاملا غير منقوص, فلا بد أن الغموض قد استحكمه, كيف لا وهو شعور قائله, والشعور لا يدرك حق الإدراك, والأسطورة تعتمد في تقنياتها على إستخدام الظلال السحرية للكلمة, فالكلمات في أية لغة ذات وجهين: وجه دلالي يرتبط بالمعاني المباشرة للمسميات، ووجه آخر سحري، متلون بظلال متدرجة بين الخفاء والوضوح، قادرة علي الإيحاء بمعان مباشرة، واستثارة مشاعر وأهواء كثيرة. فكلمة شمس على سبيل المثال، تدل على الجرم السماوي المضيء، ولكنها في الوقت نفسه، تعكس في النفس معاني أخرى؛ فهي الوضوح، وهي الانتظام، وهي الصحو والعقل، وهي الحقيقة. وعن طريق الأسطورة، اكتشف الإنسان نوعاً جديداً من التعبير، هو التعبير الرمزي، ويعد هذا التعبير الرمزي عاملاً مشتركاً في كل الأفعال الحضارية، أي في الأسطورة، والشعر، واللغة, والفن, والدين, والعلم. فالأسطورة نظام فكري متكامل، استوعب قلق الإنسان الوجودي.

واقع المنهج الأسطوري:

بعد إلقاء الضوء بشيء يسير على علاقة الشعر بالأسطورة, لم يعد غريبا نشوء منهج نقدي أسطوري؛ لأنه منهج يدرس الأساطير والرموز الخيالية التي تكون بديلا وتعويضا لما هو واقعي ومادي، في حين تكون الرموز وسائط وعلامات بين الداخل الذاتي والواقع الخارجي الموضوعي ذي الأساس الواقعي المادي.
يعتمد النقد الأسطوري على خطوتين أساسيتين إجرائيتين، وهما: الفهم والتفسير. ويعني الفهم قراءة النص الإبداعي, وفهم دلالاته اللغوية ومضامينه المعنوية, وتفكيك شبكة صوره البلاغية ورموزه الخيالية, ورصد كل المفاهيم المتكررة والمطردة, وما تنسجه الصور من تيمات وموضوعات متواترة ومتكررة ثابتة. وبعد ذلك يأتي التفسير ليقوم بعملية التأويل ضمن التصور الأسطوري باحثا عن النماذج العليا ومفاهيم العقل الباطن ورواسب اللاشعور الجمعي قصد ربطها بالنماذج العليا البدائية والفطرية أي بالثقافة الأولى.
كما يعمد الدارس إلى دراسة الرموز والمتعاليات والصور الخيالية كرواسب ثقافية بدائية تذكر الإنسان المعاصر بالإنسان البدائي وتطوراته الحضارية وما بينهما من طقوس مشتركة موروثة. وتشكل هذه الأنماط المتعالية " أحد الأسس التي قام عليها التفسير النمطي أو التفسير الأسطوري الذي أصبحت مهمة الناقد فيه إنسانية في المقام الأول، فالناقد لا يكتفي بمجرد البحث عن جماليات العمل الفني, ولا يقنع بشرحه وتفسيره, ولا يرضى بإيجاد الروابط بينه وبين صاحبه أو أحوال مجتمعه, ولكنه يتجاوز ذلك كله حين يبحث عن الماضي الثقافي والاجتماعي والإنساني لهذا العمل الأدبي"([5]).
و يتبين لنا بعد ذكر كيفية النقد مجموعة من خطوات المنهج الأسطوري, وهي:
1. شرح النص وتفسيره.
2. البحث عن جماليات العمل الفني.
3. ربط النص بصاحبه وأحوال مجتمعه.

4. التعامل مع ظواهر النص لا كظواهر فردية, بل كظواهر جماعية.
5. تحديد شبكة الصور الفطرية والبدائية ذات الطاقة الخيالية الرمزية والأسطورية.
6. تأطير النماذج العليا, والأنماط البدائية التي تشكل مقولات طقوسية وأسطورية.
7. البحث عن الماضي الثقافي والاجتماعي والإنساني لهذا العمل الإبداعي.

إن المتتبع لهذه الخطوات يدرك أن فكرة المنهج الأسطوري تقوم على نظرية اللاشعور الجمعي عند كارل يونغ, وإذا أردنا أن نعرف اللاشعور الجمعي الذي يعد خزانا للرواسب الثقافية البشرية البدائية، فإننا نعرفه بأنه: عبارة "عن صور ابتدائية لا شعورية, أو رواسب نفسية مختلفة لتجارب ابتدائية لا شعورية, أسهم في تركها أسلاف العصور البدائية, وورثت – بطريق ما- في أنسجة الدماغ، ويتم التعبير عن الوقائع العصرية في حياة أي مجتمع عن طريق ربطه بهذه النماذج، إذ لابد أن يعرف الجديد بالقديم على أساس أن الجديد غامض غريب, والقديم واضح مألوف".
ويعني هذا أن مجموعة من النماذج العليا البدائية ترد عند الأفراد المعاصرين, وخاصة الفنانين والمبدعين في قصائدهم الشعرية, وأعمالهم الفنية في شكل رواسب رمزية وحلمية وخيالية تختفي داخل النص عبر الصور الشعرية والفنية؛ لتخلق عالما من الرموز الأسطورية التي تذكر الإنسان الحاضر بماضيه.

تقويم المنهج الأسطوري:
من إيجابيات المنهج الأسطوري أنه يسعفنا في تحليل النص الأدبي أنتروبولوجيا واجتماعيا وثقافيا وإنسانيا، ويساعدنا على تأويل صوره الفنية والشعرية انطلاقا من ربط الحاضر بالماضي، ورصد شبكة الصور التي تتحول إلى رموز ونماذج عليا التي تذكر المبدع بأصوله الإنسانية الفطرية والطبيعية وبثقافته الأولى.
كما يتجاوز المنهج الدلالات السطحية, ويعمد إلى تفكيك الظاهر وتجاوزه نحو الباطن, وذلك باستقراء اللاشعور الجمعي والعقل الباطن. وتتحول القصيدة أو النص الأدبي إلى وثيقة أسطورية تحفر في الذاكرة, وتنبش ماضي البشرية, و تكشف طقوس الإنسان وعاداته وشعائره وثقافته وطبيعته البدائية.
هذا، ومن شروط نجاح النقد الأسطوري خلوه من الانطباعية والأحكام الذاتية الخاضعة للتأويل الشخصي، والاعتماد على التوثيق، وتماسك المنهج وتكامل الرؤية.
بيد أن هذا المنهج له سلبيات تتمثل في إهمال الجوانب الفردية للمبدع التي يهتم بها الجانب النفسي الفرويدي، ويقصي النص أيضا كبنية وعلامات سيميائية التي يركز عليها المنهجان البنيوي اللساني والمنهج السيميوطيقي، ويغفل دور المتلقي في بناء النص الذي تهتم به كل من جمالية التقبل وجمالية القراءة. لذلك يعد المنهج التكاملي أفضل المناهج النقدية؛ لأنه يحيط بالنص الأدبي من جميع جوانبه ومستوياته التركيبية والبنائية ( العتبات، والمبدع، والنص، والقارئ).
وعلى الرغم من سلبيات المنهج الأسطوري والنقد الأنتروبولوجي في فهم النص الأدبي وتفسيره وتأويله، فإنه يبقى منهجا ناجعا في مقاربة رموز العمل الإبداعي من خلال تحديد نماذجه التصويرية البدائية, وربط حاضر المبدع بماضي الإنسان البشري, والتغلغل في أعماق النص العرفانية والباطنية والفلسفية والاجتماعية والوراثة الثقافية قصد رصد الظواهر الجماعية، ولكن بشروط علمية ضرورية كالابتعاد عن الانطباعية واللجوء إلى التوثيق التاريخي, واحترام خطوات المنهج الأسطوري تصورا ورؤية وتطبيقا.


الفصل الثاني: الأسطورة في الشعر الجاهلي

إن ذوي الثقافة الواسعة, أصحاب الحس النقدي المتميز, ذوي الأسلوب الفذ الرشيق, بنظرتهم الثاقبة، وبتحليلهم العميق والبارع, والذي يصل إلى مستوى الإبداع، يستطيعون أن يكشفوا عما ينطوي عليه هذا الشعر من دلالات رمزية ثرّة، ومافيه من ظواهر معقّدة غامضة لا تتكشف إلا للدارس المتبصّر والعارف بأسرار هذا الشعر، وتنفي عنه الاعتقاد السائد بأنه شعر بسيط وواضح، وتغيّر الصورة التي تصوّر الشعراء الجاهليين بسطاء سذجاً يفتقرون إلى الرؤية الفلسفية والتفكير العميق.‏
صورة الفرس الأسطورة:
لقد كان الفرس عند امرئ القيس صورة لعجز الإنسان أمام مواجهة الموت، كما كانا فرس عنترة رمزاً للتعثر والضعف الذي يواجه الإنسان في ظل القهر الاجتماعي والظلم. ونجد صورة مختلفة للفرس عند أبي داؤود الأيادي، الذي كان الفرس عنده رمزاً من رموز التضحية والعطاء, ونموذجاً للمقاومة والتغيير والرفض. بينما نجد الفرس عند طرفة بن العبد رمزاً من رموز القلق ووجه من وجوه الحرب. ومن هنا كانت الناقة لديه هي البديل كرمز من رموز الأمان والاستقرار، كما حاول الشعراء أيضا من خلال صورة الفرس أن يقفوا أمام كل عناصر الجدب والجفاف المادي والمعنوي التي عانى منها المجتمع الصحراوي الجاهلي من خلال دمج صورة الفرس مع الماء والنبات، كما حاولوا تجاوز واقعهم والتغلب عليه من خلال دمج صورة الفرس مع الطيور وغيره من الحيوانات، مما اكسب الفرس صورة أسطورية ذات أبعاد ميثيولوجية وجدنا جذورها في الأساطير اليونانية القديمة, والمتمثلة في صورة الفرس المجنح «قنطورس» وغيرها من الأساطير التي تربط بين الفرس والماء والنار([6]).

نماذج أسطورية من الشعر الجاهلي:

أولا_رمزية الغدير في معلقة امرئ القيس:
يقول امرؤ القيس في معلقته:

10


وَلا سِيمَّا يَوْمٍ بِدَارَةِجُلْجُلِ


أَلا رُبَّ يَوْمٍ لَكَ مِنْهُنَّصَالِحٍ


11


فَيَا عَجَباً مِنْ كُورِهَاالُمتَحَمَّلِ


وَيَوْمَ عَقَرْتُ لِلْعَذَارَىمَطِيِّتي


12


وَشَحْمٍ كهُدَّابِ الدِّمَقْسِالُمَفَّتلِ


فَظَلَّ الْعَذَارَى يَرْتِمَينَبِلَحْمِهَا


13


فَقَالَتْ لَكَ الْوَيْلاتُإِنَّكَ مُرْجِلي


وَيَوْمَ دَخَلْتُ الْخِدْرِخَدْرَ عُنَيْزَةٍ


14


عَقَرْتَ بَعيري يَا امْرأَالقَيْسِ فَانْزِلِ


تَقُولُ وَقَدْ مَالَ الْغَبِيطبِنَامَعاً


15


وَلا تُبْعِدِيني مِنْ جَنَاكِاُلْمعَلَّلِ


فَقُلْتُ لَهَا سِيري وأرْخِيزِمَامَهُ


يذكر الشاعر هنا حادثة دارة جلجل, وهذه الحادثة من تأملها يحس إحساسا بالغ الشدة بأن حاكيها كأنه كان يريد أن يشبع رغبة عارمة كامنة: يشبعها من اللذة الجسدية، ومن ملء العين بالأجساد النسوية العارية، تحت الطبيعة العارية، وتحت وهج أشعة الشمس المشرقة، وعلى ضفاف غدير أزرق الماء...
وهذه الحادثة تحس بجمالها إذا تدارستها من حيث الأسطورة, وتحت زاوية الأنتروبولوجيا: كيفية النحر، والسلخ، وجمع الحطب، وإيقاد النار، ثم وضع اللحم عليها لينضج؛ ثم تناول الطعام على ضفاف ذلك الغدير مع العذارى... إن هذا المنظر يجمع كل معاني الجمال في أرق معانيه، وأروع تجلياته، وأبدع مشاهداته... فالحيز يستحيل هنا إلى فضاء عبقري كأنه سر الحياة ومعناها الأول... ولما كان الحدث هنا، تاريخاني؛ فقد قبلت عنيزة وصويحباتها دعوة الشاعر المغامر... فنحر الفتى لهن مطيته، وظلوا يشتوون لحمها، ويشربون من بعض خمر كانت في بعض رحله.
والشك في تاريخية هذه الحادثة هو أولى الأقوال, وهذا لما يلي:
1. إن فيها تناقضا مريعا، وأمورا لا تتفق مع طبيعة الأشياء، ولا مع تقاليد المجتمع العربي الذي يقوم على الغيرة الشديدة على المرأة...
2. إن الأسطورة، أو ما نراه كذلك، تذكر لدى طفوح حادثة نحر الناقة: عبيدا لم يذكروا من قبل. فهل كان يمكن لفتى مغامر يتتبع فتيات في ضاحية من الحي أن يصطحب معه عبيدا وخدما؟
3. يدل نحر الناقة على أن امرأ القيس لم يكن يتنزه، ولا يغازل، ولا يتمتع من لهو؛ ولكنه كان أزمع على سفر طويل، وتظعان بعيد. وإلا فماله لم يتخذ ركوبته فرسا، واتخذها ناقة؛ وهي للفارس ليست الركوبة المثالية، ولا الركوبة الشديدة السرعة التي يحرص عليها الظاعن في تظعاناته القصيرة.. كان يجدر بالشاعر الأمير أن يتنقل على فرسه لا على مطيته، لأن سفره كان للنزهة، ولأن الحكاية الأسطورية، تزعم أنه كان معه عبيد... ألم يكن من الأولى أن يمتطي هو حصانه، ويترك بعض الجنائب يقودها العبيد لبعض خدماته في الطريق؟
4. إن هؤلاء النساء حين كن أزمعن على الذهاب إلى الغدير, ألم يكن من الأولى لهن أن يصطحبن معهن طعاما ما، يلي بمتطلبات النزهة؟ فما بال نحر الناقة، إذن؟
5. تصور هذه الحكاية هؤلاء العذارى، ومعهن هذا الرجل، وكأنهم كانوا يعيشون في جزيرة نائية عن العالم، أو في غابة متوحشة، أو في فلاة قفر: لا نظام، ولا قيم، ولا شرف، ولا غيرة، ولا حمية جاهلية... إنها حكاية ساذجة، على جمالها، تصور المجتمع العربي، على عهد الجاهلية، مجتمعا متحللا، إباحيا، من رغب إلى امرأة وصلها؛ كما وقع ذلك لامرئ القيس بالأمر المقدر، والسلوك المدبر؛ فظل بياض نهاره مع هؤلاء النساء، واستولى على ملابسهن كيما يراهن كلهن عاريات: ثم لم يحدث من بعد ذلك شيء... بل إن أولئك الحسان هن اللواتي دعونه إلى أن يطعمهن من لحم ناقته؛ بحيث لم يغضبن جراء إجبارهن على أن يراهن وهن عاريات.
كما لم تغضب ابنة عمه عنيزة التي أذلها وأهانها، وأقسرها على ما لم تك إليه راغبة أمام صويحباتها، وربما أمام العبيد أيضا: فأين الشهامة العربية التي تتحلى بها سير الرجال، والتي تكتظ بها نصوص الشعر؟ وأين الشرف العربي الذي تحفل به مواقف الأبطال، في المجتمع الجاهلي؟
إن ما تشتمل عليه الحكاية التي كلفت كلفا شديدا بتجميل الحيز، لم يكن له صلة، في الغالب، حقيقة بالتاريخية، ولكن صلته بالتاريخانية وثيقة. إن تلك الحكاية الجميلة تصور المجتمع العربي قبل الإسلام: كأنه مجتمع يعيش في غابة، بحيث لا يوجد فرق بين حيوان وإنسان، وبين إنس وجان... ولم يكن فيه محرمات محرمة، ولا ممنوعات ممنوعة: فكل، من رغب إلى شيء ناله، ومن تطلع إلى رغبة اشتارها؛ كما جاء ذلك امرؤ القيس الذي عاد إلى الحي ممتطيا غارب بعير ابنة عمه فاطمة (بعد أن كان نحر مطيته للعذارى، واشتواها لهن)، وهو يقبلها، وهو يعانقها، وهو يغازلها، أمام القبيلة كلها (أمام صويحباتها- وأمام إمائها، وأمام العبيد....): ولا ديار ينكر عليه فعلته، ولا أحد ينعى عليه سلوكه... بل آب الشاعر المغامر، العاشق الوامق، أوبة الأبطال إلى الحي والقبيلة كلها تنظر ولا تعجب، ترى ولا تنكر...([7])!

ثانيا_رمزية الغدير في معلقة لبيد:
يقول لبيد بن ربيعة في معلقته:

39


إِنَّ الَمنايَا لا تَطِيشُسِهَامُها


صَادَفْنَ منهَا غِرَّةًفَأَصَبْنَهَا


45


سَبْعاً تُؤاماً كاملاً أَيَّامُها


عَلِهَتْ تَرَدَّدُ في نِهاءِصُعَائِدٍ


إنه يصف، في هذا المصراع الشعري، بقرة وحشية فقدت جؤذرها بعد أن أصابه الصيادون بسهامهم فقتلوه من حيث لم تستطع، هي، حمايته، ولا إنقاذه. لقد ظلت البقرة الأم تنتظر، من حول هذه الغدران الجميلة التي كانت تقع في صعائد؛ فكانت تلوذ نجاة ببعض الشجيرات التي تكفرها وتخفيها عن أعين الصيادين القرمين: ظلت تنتظر ابنها لعله أن يؤوب، وترقب صغيرها عساه أن يعود, بسبع ليالٍ وأيامهنَّ. ظلت البقرة الوحشية بغدران صعائد تنتظر، وتترقب، وتتحسس، وتتمسك بالأمل الخلب، والرجاء الكذب، لعل جؤذرها أن يعود؛ ولكن أنى له ذلك وقد هلك برمية صياد؟ ومع ذلك، بقيت تلك البقرة تقاوم اليأس؛ فكانت تأتوي إلى تلك الشجيرات التي كانت تتوقى بها من المطر الهاطل؛ لعل صغيرها أن يعود.
إن لبيدا لا يصور، هنا، جمال تلك الغدران، بمقدار ما كان يود، أو يود نصه (إذا أولناه بحسب مقتضيات مقصدية النص، لا بحسب مقتضيات مقصدية الناص): تصوير المآسي التي تقع، حوالها، في ذلك الحيز العاري المخوف، في صراع أبدي بين الإنسان والحيوان، وبين الحيوان والطبيعة، وبين الطبيعة والإنسان: من أجل البقاء. كان الصراع حوال غدران صعائد: صراعا وجوديا... فلم يعد الماء سببا من أسباب الحياة، ولا عنصرا من عناصر الخصب والرخاء؛ ولكنه اغتدى سببا من أسباب الموت والفناء, يا لها مأساة تعيشها هذه البقرة على ضفاف هذه الغدران التي كان من المفروض أن تمرح من حولها وترتع، عوض أن تشقى وتقلق!..
الغدير لدى امرئ القيس مصدر للسعادة والمرح والنزهة والجمال والمتاع، ولكنه لدى لبيد مصدر للشقاء والترح والتعب والشظف والصراع من أجل البقاء؛ كأن للماء عقدة مع لبيد، فهو حين يصف ديار حبيبته ينحي باللوائم، من طرف خفي، على جبروت الماء وما تسببه من مآس وشقاء، وأتراح وعناء. فهذه السيول سارعت إلى الديار حتى اغتدت عافية. ولولا هذه السيول المتسلطة لقاومت تلك الديار عوامل الزمن، فظلت كما عهدها الشاعر حين غادرها... لكن السيول الجارفة لم ترحمه ولم ترحمها، فأمست أثرا بعد عين، ولم تبق منها السيول إلا آثارا تحزن أكثر مما تفرح، وتشقي أكثر مما تسعد.
إن الماء هنا أيضا لا يكون مظنة للسعادة والرخاء والنعيم، بمقدار ما يكون مظنة شقاء وقساوة وجحيم. إنه فلسفة الصراع من أجل البقاء، والمناضلة من أجل الحياة([8]).

ثالثا_رمزية الموت والانبعاث:
قضيةُ الموت هذه شغلت الإنسانَ البدائي؛ فعبّر عنها من خلال بحثه الدائم عن الخلود, وما أسطورة " الموت والانبعاث " التي جسّدتها الأساطير البدائية ، وكذلك انشغال "جلجامش " بالبحث عن وسائل لاستمرار الحياة وخلودها إلا من قبيل انعكاس أثر الموت على الإنسان، و ما خلّفه ويخلّفه من شعور دائم بالقلق ومن ثَمّ الاغتراب([9]).

وللاغتراب في الشعر الجاهلي وجوهٌ مختلفة, أبرزها: الشعور بالخوف من الموت0 وقد ردّد الشعراءُ هذا كثيراً: فطرفة بن العبد يقول:


64


عَقِيَلةَ مَالِ الْفَاِحشِاُلمتَشَدِّدِ


أَرى اَلموت يَعْتامُالكِرَامَ ويَصْطفي


66


لكَالطَّوَلِ اُلمرْخَىوثِنْيَاهُ بِاليَدِ


لَعَمْرُكَ إِنّ اَلموَتَ مَاأَخْطأَ الْفَتى



ويقول زهير بن أبي سُلمى أيضاً مؤكّداً أنّ الخوف لا يأتي من الموت نفسه، وإنّما من عدم قدرة هذا الموت على التّمييز بين الشاب والعجوز؛ لذلك فالإنسان يعيش في قلق دائم:


48


تُمِتْهُ وَمِنْ تُخْطِئْ يُعَمَّرْ فَيَهْرَمِ


رَأَيْتُ الَمنايَا خَبْطَ عَشْوَاءَ مَن تُصِبْ



أمّا الذي يُخطئه الموت، فإنه سيواجه مشكلة أخرى تجعله مغترباً وقلقاً ومضطرباً على الدوام هي الشيخوخة التي يقول فيها زهير أيضاً:


46


ثَمانِينَ حَولاً لا أَبا لَكِ يَسأمِ


سَئِمْتُ تَكالِيفَ الحَيَاةِ وَمَنْ يَعِشْ



ويلخّص السموءل قلقَ الشاعر الجاهلي واغترابه من الموت بقوله:


والموتُ يطلبُني ، ولستُ أفوتُ


كيفَ السّلامةُ إنْ أردتُ سلامةً



شيئاً يموتُ، فمتُّ حيثُ حُييتُ


ميتاً خُلِقتُ ، ولم أكنْ من قبلها



وهكذا, فإن هذا الأمر منشؤه أسطوري كما ورد في أسطورة الموت والانبعاث, كما ذكر آنفا.





الخاتمة

بحق, هذا البحث متشعب المسالك, ولا أدَّعي بأنني أتيت به بجديد, والجهد المبذول لا يعدو عن كونه ترتيبا للمادة وتهذيبا لها, ولا بد من إلقاء نظرة على خلاصة البحث, وصفوة الحث.
المنهج الأسطوري غربي النشأة, فقد اعتمد على آراء الغربيين, ولا يتقنه إلا من أحاط بالأسطورة وجذورها خبرا, وهو لا يصلح لكل الشعر, فليس الشعر كله رمزا لأمور بعينها, أو أسطورة بذاتها, وإنما هذا يتفاوت بين الشعراء أنفسهم, بل بين شعر الشاعر نفسه.
ثم إنني ألخص صفوة سعيي المقل بما يلي:
1. لا بد من استخدام المنهج الأسطوري في الشعر القديم؛ حتى نتمكن من تفسيره, وفهم رموزه.
2. الشعر الجاهلي شعر يدلل على أن أهله أصحاب فكر واستنارة, وليسوا بسطاء سذجا.
3. تأثر الشعراء الجاهليين بثقافة غيرهم من الأمم مثل اليونان, حيث إنهم اعتمدوا على أساطير ذكروها في أشعارهم من تلك الأصول. وما ينبغي أن يفهم هذا التأثر على غير وجهه؛ فنحط من قيمة الشعر الجاهلي, فالأمر ليس كذلك.
4. المنهج الأسطوري صعب المنال, فلا يستطيع أن ينتهجه إلا من كان لذلك أهلا, ولصعوبته متحملا, ولغموضه متبصرا.

المصادر والمراجع:

القرآن الكريم.
1. زكي, أحمد كمال: النقد الأدبي الحديث أصوله واتجاهاته، دار النهضة العربية، بيروت، لبنان، ط 1981.
2. حجازي سمير: قضايا النقد الأدبي المعاصر، الجزء الأول، مطبعة الفكر الحديث.
3. مرتاض عبد الملك: السبْع المعلّقات [مقاربة سيمائيّة/ أنتروبولوجيّة لنصوصها], من منشورات اتحاد الكتاب العرب, 1998.
4. ابن عاشور, الشيخ محمد الطاهر: التحرير والتنوير , ع ج: 30, دار سحنون للنشر والتوزيع - تونس – 1997.
5. النبأ, شبكة: مفاهيم بدائية.
6. خمسة مداخل إلى النقد الأدبي/ ويلبر سكوت ترجمة الدكتور عناد غزوان وجعفر الخليلي.
7. محاولة لتعريف الأسطورة.

مجلات وصحف:
· مجلة أم القرى.
· صحيفة 26سبتمبر.






انتهى البحث


بحمد الله


[1] محاولة لتعريف الأسطورة, ص:5 .

[2] خمسة مداخل إلى النقد الأدبي/ ويلبر سكوت ترجمة الدكتور عناد غزوان وجعفر الخليلي, ص: 265.

[3] المرجع نفسه, ص: 267.

[4] التحرير والتنوير, الطبعة التونسية, ج:1, ص: 1270.

[5] النبأ, شبكة: مفاهيم بدائية, ص: 33.

[6] صورة «الفرس الاسطورة» في رسالة الناقده منى المحاقري, صحيفة 26سبتمبر.

[7] ينظر: عبد الملك مرتاض, السبع المعلقات مقاربة سيمائية/ أنتروبولوجية, ص: 127_133.

[8] ينظر: عبد الملك مرتاض, السبع المعلقات مقاربة سيمائية/ أنتروبولوجية, ص: 133_139.

[9] ينظر: مجلة جامعة أم القرى, ج7, ص: 426.

fpe: hglki[ hgHs',vd>