المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : القبور الواعظة



لطفي عيساني
2010-03-18, 10:47 AM
بسم الله الرحمن الرحيم
عَجَائِبُ الوَقْتِ لاَ نُحْصِي لَهَا عَدَدًا *** وَإِنَّمَا بَعْضَهَا نَذْكُرْهُ لِلْعَجَبِ
قُبوُرُنَا حَوْلَنَا وَالْمَيْتُ مُنْجَدِلٌ *** وَضِحْكُنَا حَاضِرٌ فِي البَالِ لَمْ يَغِبِ
أَمَحْفَلُ العُرْسِ أَمْ مَيْتاً نُشَيِّعُهُ *** تَشَابَهَ الْحَالُ..وَاغَوْثَاهُ مِنْ كُرَبِ
وَصَفْقةُ البَيْعِ عِنْدَ القَبْرِ نَعْقِدُهَا *** وَصَعْقةُ الْمَوْتِ تُدْنِينَا مِنَ العَطَبِ
تَبِيعُ، تَشْرِي؛ وَلاَ تَدْرِي أَمُنْقَلِبٌ *** لِأَهْلِكَ اليَوْمَ أمْ لِلْمَيْتِ مُصْطَحِبِ
كَأنَّنَا بَعْدَ هَذَا الْمَيْتِ فِي أَمَدٍ *** مِنَ الْحَيَاةِ بِدَارِ اللَّهْوِ وَاللَّعِبِ
قَسَـاوَةُ القَلْبِ دَاءٌ لاَ دَوَاءَ لَهُ *** إِلاَّ الرُّجُوُعُ إِلَى دَرْبٍ لَنَا رَحِبِ
هَذِي القُبُورُ بِهَا الذِّكْرَى لِمُتَّعِظٍ *** صَوَامِتٌ..إِنَّمَا نَادَتْكَ بِالطَّلَبِ
رَكْبُ الْجَنَائِزِ لاَ يُوحِي بِتَذْكِرَةٍ *** وَعِبْرَةٍ أَنَّنَا فِي دَارِ مُغْتَرِبِ
كَمْ فِي القُبُورِ نَعِيماً لَسْتَ تُدْرِكُهُ *** وَكَمْ بِهَا حُفَرٌ لِلنَّارِ وَاللَّهَبِ
مَا مُؤمِنٌ يَنْظُرُ الأَجْدَاثَ مُعْتَبِراً *** إلاَّ تَغَيَّرَ مِنْ هَمٍّ وَمِنْ نَصَبِ
وَمَيِّتُ القَلْبِ عِنْدَ القَبْرِ فِي عَمَهٍ *** وَليْسَ يَنْفُذُ خَلْفَ السِّتْرِ وَالْحُجُبِ
وَغَافِلُ القَلْبِ عِنْدَ القَبْرِ فِي مَرَحٍ *** سِيمَاهُ تُخْبِرُ.. لاَ تَسْأَلْ عَنِ السَّبَبِ
وَكَيْفَ يَغْفُلُ وَالأَيَّامُ تَنْقُلُهُ *** إِلَى الْمَقَابِرِ لَوْ قَدْ جَدَّ فِي الْهَرَبِ
إنَّ القُبُورَ مزَارٌ سَوفَ تَسْكُنُهُ *** عَمَّا قَلِيلٍ وَمَا الأَعْمَارُ كَالْحُقُبِ
فَرَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْخُلْدِ مُشْرِقَةٌ *** أَوِ الجَحيمُ.. وَيَا بُؤساً لمنْقَلِبِ
هَذَا النَّعِيمُ إِذَا تَطْلُبْ لَهُ شَبَهاً *** كَذَا العَذَابُ، فَأَمْرٌ غَايَةُ العَجَبِ
كَنَائِمٍ سُرَّ فِي أَحْلاَمِ نَوْمَتِهِ *** وَآخَرٌ كَمْ رَأَى فِي النَّومِ مِنْ كُرَبِ
هَذَا يُشَابِهُ بِالتَّقْرِيبِ بَرْزَخَنَا *** وَمَا الْمُشَبَّهُ كَالْمَرْئيِّ عَنْ كَثَبِ
إِذَا رَأَيْتَ أُنَاساً عِنْدَ مَقْبَرَةٍ *** فِي شُغْلِ دُنْيَاهُمُو فَالدِّينُ فِي عَطَبِ
مَرَاكِبُ القَوْمِ جَالَتْ فِي مَقَابِرِهِمْ *** مُعَبِّدِينَ لَهَا خَوْفاً مِنَ التَّعَبِ
جَوَّالُهُمْ جَالَ فِي هَذْرٍ يَلِيقُ بِهُِمْ *** وَسَامِعُ الْهَذْرِ ظَنَّ القَوْمَ فِي طَرَبِ
أَسْلاَفُنَا كُلُّهُمْ بِالغَمِّ مُشْتَمِلٌ *** عِنْدَ القُبُورِ لِأََمْرٍ لَيْسَ بِاللَّعِبِ
تَذكَّرُوا الْمَوْتَ إِذْ يَأْتِي فَيَفْجَؤُهُمْ *** لِأَنَّهُمْ فِي الدُّنَى كَانُوا كَمُغْتَرِبِ
إنْ مَاتَ ميْتٌ تَرَى الأحْزَانَ شَامِلَةً *** أينَ الْمُعَزَّى، فَكُلُّ القَوْمِ فِي رَهَبِ!
فِي دَاخِلِ القَبْرِ أَهْوَالٌ مُهَوِّلَةٌ *** مَنْ عَايَنَ القَبْرَ لَمْ يَرْغَبْ بِمُنْقَلَبِ
إِلاَّ لِيَعْمَلَ أَعْمَالاً تَكُونُ لَهُ *** ذُخْراًَ إذَا جَاءَ وَعْدٌ لَيْسَ بِالكَذِبِ
مَنْ لَمْ تَعِظْهُ قُبُورٌ سَوْفَ يَسْكُنُهَا *** فَعَقْـلُـهُ تَائِهٌ لاَهٍ بِمُسْتَلَبِ
مَوْتُ القُلُوبِ عُقُوبَاتٌ مُعَجَّلَةٌ *** وَمَيِّتُ القَلْبِ لاَ يَدْرِي عَنِ السَّبَبِ
حَالُ الجَنَائِزِ - يَا مَنْ غُرَّ - قَائِلَةٌ *** إِحّذَرْ!.. فَإنَّكَ يَا مَغْرُوُرُ بِالطَّلَبِ
لاَ تُلْهِيَنَّكَ دُنْياً سَوْفَ تَتْرُكُهَا *** وَآخِرُ الأَمْرِ مَحْمُولٌ عَلَى الْخَشَبِ
مِنْ حِينِ جِئْتَ إِلَى الدُّنْيا فَمُتَّجِهٌ *** نَحْوَ القَبُورِ وَلَوْ أَمْعَنْتَ فِي الْهَرَبِ
هَذِي الْحَقِيقَةُ يَا مَنْ غَرَّهُ أَمَلٌ *** قَدْ جَاوَزَ الأجَلَ الْمَخْطُوطَ بِالكُتُبِ
أَنفَاسُنَا وَالْخُطَى عَدًّا بِلاَ خَطَإٍ *** مَعَاوِلٌ هَادِمَاتٌ عُمْرَنَا الْخَرِبِ
مَنْ كَانْ يَضْحَكُ وَالأجْـدَاثُ تَرْقُبُـهُ.. *** فَأَمْرُهُ عَجَبٌ يَدْعُو إِلَى العَجَبِ!.

أما النبي - صلى الله عليه وسلم - فحاله عند القبر كما وَصَفَ البراء بن عازب - رضي الله عنه - حيث قال: (خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي جَنَازَةِ رَجُلٍ مِنْ الْأَنْصَارِ فَانْتَهَيْنَا إِلَى الْقَبْرِ وَلَمَّا يُلْحَدْ، فَجَلَسَ رَسُولُ اللَّهِ وَجَلَسْنَا حَوْلَهُ كَأَنَّمَا عَلَى رُءُوسِنَا الطَّيْرُ.. ) (1)، تأمَّل: (كَأَنَّمَا عَلَى رُءُوسِنَا الطَّيْرُ) تَتَبين لكَ رَهبةُ الْمَقَام! ؛ وقد حَلَف ابنُ مسعود - رضي الله عنه - ألاَّ يُكلِّم رجُلاً رآه يضحك مع جنازة حيث قال له: (أتضْحَك وأنتَ تَتَّبِعُ جنَازة!، واللهِ لا أكَلِّمُكَ أبَداً! ) (2)؛ كيف لو رأى السلفُ الْمُشيِّعين للجنائز اليومَ ومَا هُمْ لاَهُون لاَغُون فيه مِنْ ضَحِكٍ وكلامٍ في أمورِ الدنيا وجوَّالاَتٍ مُصاحِبة لهم ومراكب جائلة في المقابر!، وهذا لا يدل على شيء إلاَّ على قوله - تعالى -: { لاَهِيَةً قُلُوبُهُمْ }!، أمَّا لو تذكَّر الإنسانُ أنَّ هذا مصيره وقد أُخفي عليه حِينُه وتذكَّر ما وَرَدَ في شأن القبر وكَوْنه رَوضة من رياض الجنة أو حفرة من حُفَر النار وسؤال « مُنكَر ونكير » لصارَتْ له حالٌ غير هذه الحالة الإستكبارية الجفائية الْمُعلنة أن صاحبها في شأنٍ غير الشأن الذي خُلِق له وأمِر به، وأن العقل عازبٌ، وفي أودية طول الأمَل ذاهبٌ! ؛ قال إبراهيم النخعي: (كَانَتْ تَكُونُ فِيهِمْ الْجِنَازَةُ فَيَظلُّون الأيَّام مَحْزُونِينَ يُعْرَفُ ذَلِكَ فِيهِمْ! ) (3)، وقال أيضاً: (كُنَّا إذَا حَضَرْنا جِنَازَةً أوْ سَمِعْنَا بِمَيِّتٍ عُرِفَ ذلك فِينَا أيَّامًا؛ لأنَّا قَدْ عَرَفْنَا أنه قَد نَزَل به أمْرٌ صَيَّرَه إِلَى الْجَنَّةِ أوْ إلى النَّارِ) ثم قال: (فَإِنَّكُمْ فِي جَنَائِزِكُمْ تَحَدَّثونَ بِأحَادِيثَ دُنيَاكُمْ! ) (4)؛ وعن الأعمَشِ أنه قال: (إنْ كنَّا لَنشهَد الْجِنَـازَة فلاَ نَدْرِي مَنْ نُعَزِّي مِنْ حُزْنِ القَوْمِ! ) (5)؛ فتأمَّل ذلك وما نَحنُ فيه اليوم!. والله المستعان، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

------------------
(1) جزء من حديثٍ طويل صحيح مشهور أخرجه أبو داود برقم (4753) وغيره، وأخرجه ابن جرير في « مسند عمر » (2 / 494) وصحَّح إسناده.
(2) أخرجه البيهقي في « شُعب الإيمان » برقم (9271)، وابن عبد البَرِّ في « التمهيد » (4 / 87)، وغيرهم.
(3) « الزهد » لوكيع ص (232)، و « حلية الأولياء » لأبي نعيم (4 / 227).
(4) « الزهد » للإمام أحمد ص (365)، و « البداية والنهاية » لأبن كثير (9 / 160).
(5) « مصنف ابن أبي شيبة » (8 / 318) ورقم (169). 122 ara 19-01-2007.