المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : اليهود واليهودية والصهاينة والصهيونية الجزء السادس



الصفحات : [1] 2 3 4 5 6 7

ساجدة لله
2010-10-26, 06:01 AM
نتابع الجزء السادس من موسوعة اليهود واليهودية


الإثنية اليهـوديـة
Jewish Ethnicity
انظر: «اليهودية الإثنية».

الرؤية المعرفية العلمانية الإمبريالية والجماعات اليهوديـة
The Secular Imperialist Epistemological Outlook and the Jewish Communities
كان للرؤية المعرفية الإمبريالية والتشكيل الاستعماري الغربي أثر واضح في أعضاء الجماعات اليهودية. ويتضح هذا في فكر نيتشه الذي اكتسح كثيراً من المفكرين اليهود في القرن التاسع عشر (انظر: «النيتشوية والمفكرون من أعضاء الجماعات اليهودية»)، وفي تمثُّل كثير من المفكرين اليهود لأفكار داروين (على سبيل المثال، انظر: «جومبلوفيتش، لودفيج») والفكر الصهيوني بأسره هو أساساً إفراز من إفرازات الرؤية المعرفية العلمانية الإمبريالية والأفكار البرجماتية (انظر: «كالن، هوارس»).

هذا على مستوى الفكر. أما على المستوى السياسي والاجتماعي والتاريخي، فقد قامت الدولة القومية المطلقة في الغرب بترشيد أعضاء الجماعات اليهودية وبتحويلهم إلى مادة بشرية وبطرح الحل العلماني الإمبريالي للمسألة اليهودية، أي تصدير المادة البشرية اليهودية إلى الخارج وبطرح الفكرة الصهيونية وفرضها على أعضاء الجماعات اليهودية.

ولا يمكن فهم حركة انتقال الجماعات اليهودية إلى الأمريكتين وأستراليا ونيوزيلندا وكندا وجنوب أفريقيا وفلسطين إلا في إطار حركة الاستعمار الاستيطاني الغربي،وبخاصة الأنجلو ساكسوني. كما لا يمكن فهم تركُّزهم في الولايات المتحدة إلا باعتبارها التجـربة الاستيطانية الكبرى التي استوعبت حوالي80% من الفائض البشري في أوربا.

ويمكن القول بأن مصير يهود العالم أصبح مرتبطاً تماماً بالإمبريالية بعد أن تركَّز يهود العالم في العالم الغربي، وبخاصة في الولايات المتحدة وإسرائيل. فالمصير اليهودي أصبح هو نفسه مصير الإمبريالية. ولعل هذا يُفسِّر تصهيُن الجماعات اليهودية في العالم وتراجُع الجماعات المعادية للصهيوينة.

الاســـتعمار الاســـتيطاني الغـــربي والجماعــات اليهوديـة
Western Settler Colonialism and the Jewish Communities
يمكن القول بأن نمط هجرة أعضاء الجماعات اليهودية هو حركة تنقُّل تتم دائماً داخل إطار حركة الإمبراطوريات الكبرى التي تيسر لهم هذه الحركة وتتيح لهم فرص الحراك وتوظفهم كجماعة وظيفية استيطانية أو مالية. وإذا كان التهجير البابلي قد تم قسراً، فإن حركة الهجرة العبرانية (اليهودية) التي تعاظمت بالتدريج حتى وصلت ذروتها مع نهاية الألف الأولى قبل الميلاد (حين أصبح عدد اليهود خارج فلسطين أكثر من ضعف عددهم داخلها)، هذه الحركة كانت هجرة تلقائية بحثاً عن الفرص الاقتصادية وتتم في إطار الإمبراطوريات الهيلينية والرومانية. ويمكن القول بأن هجرة يهود شرق أوربا إلى الولايات المتحدة وكندا وفلسطين وغيرها من الدول الاستيطانية بأعداد هائلة حتى انتقلت الكتلة البشرية اليهودية من أوربا (روسيا ـ بولندا) إلى الولايات المتحدة وإسرائيل (فلسطين)، وهي الأخرى هجرة تلقائية تمت داخل إطار إمبراطوري، فهي تتم داخل التشكيل الاستعماري الغربي وتجربته الاستيطانية في أنحاء العالم.

وقد اشترك أعضاء الجماعات اليهودية كمموِّلين ومستثمرين في كثير من النشاطات المرتبطة بالاستيطان الغربي (شركتا الهند الشرقية والغربية الهولنديتان وغيرهما من الشركات، وتجارة العبيد...إلخ). كما اشتركوا في التجارة المثلثة (العبيد من أفريقيا - المشروبات الكحولية والسلع من أوربا - المولاس من جزر الهند الغربية). واشترك كثير من المموِّلين من أعضاء الجماعات اليهودية في الاستثمار في جنوب أفريقيا والولايات المتحدة الأمريكية. كما اشتركت أعداد من أعضاء الجماعات اليهودية في عملية الاستيطان نفسها. وفي بداية الأمر، كان أعضاء الجماعة جزءاً من النشاط الاستيطاني الهولندي فاستوطنوا ابتداءً من منتصف القرن السابع عشر جزر الهند الغربية (مثل: ترينداد، وسورينام، والمارتينيك، وجاميكا، وجزر الباهاما). ولكن سورينام كانت أهم التجارب الاستيطانية الأولى. وقد استوطن اليهود كذلك معظم بلاد أمريكا اللاتينية، وبخاصة في الأرجنتين التي وطَّن فيها المليونير هيرش آلاف اليهود، والتي كانت تُعَدُّ أهم تجربة استيطانية زراعية في العصر الحديث باستثناء تجربة إسرائيل.

ويُلاحَظ أن هذه النشاطات الاستيطانية كانت تدور إما في إطار الاستعمار الهولندي أو في إطار الاستعمار الإسباني البرتغالي، والمادة البشرية الأساسية هنا هي يهود السفارد (المارانو). ولكن المادة الاستيطانية الحقيقية كان مصدرها يهود اليديشية (الإشكناز) من شرق أوربا الذين كانوا يشكلون أغلبية يهود العالم الساحقة مع نهاية القرن التاسع عشر. وكان النشاط الاستيطاني الأكبر ليهود اليديشية داخل التشكيل الاستيطاني الأنجلو ساكسوني، فاتجهت ملايين اليهود إلى جنوب أفريقيا وكندا ونيوزيلندا وأستراليا وهونج كونج، لكن غالبيتهم (85% اتجهت إلى الولايات المتحدة، أهم التجارب الاستيطانية، ثم إلى إسرائيل التي تلي الولايات المتحدة في الأهمية، وهي تجربة استيطانية تمت برعاية إنجلترا ثم الولايات المتحدة، أي التشكيل الأنجلو ساكسوني في جانبه الاستيطاني.

والإطار التفسيري السابق يجعلنا نرى مدى ارتباط الجماعات اليهودية في العالم (الغربي بالذات) بالتشكيل الاستعماري الاستيطاني الغربي، ويضع يدنا على الحقائق الأساسية التالية في واقع أعضاء الجماعات اليهودية في العالم:

1 ـ الدياسبورا اليهودية (أي انتشار أعضاء الجماعات اليهودية في أرجاء العالم) ليست انتشاراً عشوائياً وإنما انتشار يصاحب انتشار التشكيل الاستعماري الغربي، وبخاصة في جانبه الاستيطاني، فهجرة أعضاء الجماعات اليهودية لا تحددها حركيات التاريخ اليهودي أو الطبيعة اليهودية وإنما حركيات الاستعمار الغربي، وبخاصة الاستعمار الأنجلو ساكسوني في جانبه الاستيطاني. ولا يمكن فهم تركُّز أعضاء الجماعات اليهودية في الولايات المتحدة إلا باعتبارها التجربة الاستيطانية الكبرى.

2 ـ لا تشكل إسرائيل استثناء من هذه القاعدة، فهي جزء من نمط وحركية غربية هي الإمبريالية الغربية التي جعلت العالم مسرحاً لنشاطها سواء في أستراليا أو أمريكا اللاتينية أو جنوب أفريقيا أو فلسطين. فالمشروع الصـهيوني جزء لا يتجزأ من التشـكيل الاستعماري الاستيطاني في الغرب، وما كان بمقدوره أن يتحقق دون إمكانيات الإمبريالية الغربية ودون طموحاتها أو آلياتها. واستيطان اليهود في فلسطين هو نقل لفائض بشري غربي إلى بقعة في آسيا أو أفريقيا حيث يتم تحويله إلى دولة وظيفية استيطانية تقوم على خدمة مصالح الغرب نظير أن يقوم هو على حمايتها. فإسرائيل من هـذا المنظـور هي إعـادة إنتـاج لنمط قديم، على حين أن وعد بلفور، ثم دعم حكومة الانتداب للمستوطن الصهيوني، ثم دعم الولايات المتحدة لإسرائيل، وتوقيع الاتفاق الإستراتيجي معها، يبين أن الدولة الصهيونية هي امتداد لارتباط أعضاء الجماعات اليهودية بالاستعمار الاستيطاني الأنجلو ساكسوني.

3 ـ بل يمكن القول بأن يهود الشرق والعالم الإسلامي تم تحويلهم إلى مادة استيطانية تابعة للتشكيل الاستيطاني الغربي من خلال مدارس الأليانس والدعاية الصهيونية وهجرة أعداد ضخمة من اليهود الإشكناز إلى العالم العربي. وهذه العمليات كلها أفقدتهم هوياتهم المحلية المختلفة وأحلَّت محلها هوية يهودية عالمية اسماً ولكنها استيطانية فعلاً جوهرها فك الصلة بين اليهودي ووطنه، ومن ثم يتم استيعابه في المنظومة الاستيطانية. وبالفعل، حينما أُعلن إنشاء إسرائيل، هاجرت الأغلبية الساحقة من يهود البلاد العربية إليها وظل الباقون يجلسون على حقائبهم في انتظار السفر إما إلى الولايات المتحدة أو إلى إسرائيل.

ساجدة لله
2010-10-26, 06:02 AM
موسى ليـفي (1782 – 1854(
Moses Levy
أمريكي يهودي سفاردي من أوائل من استوطنوا ولاية فلوريدا الأمريكية. وُلد في المغرب لعائلة يهودية تجارية من أصل برتغالي، وكان والده وزيراً للسلطان. وفي عام 1800، استقر في جزيرة سانت توماس في بحر الكاريبي ونجح في تجارة الأخشاب ثم نقل نشاطه إلى كوبا حيث أصبح متعهد تموين للحكومة عام 1816.

وفي عام 1819، بدأ ليفي في شراء مساحات كبيرة من الأراضي في فلوريدا التي كانت خاضعة آنذاك لإسبانيا. ثم استقر بها بشكل دائم بعد أن أصبحت جزءاً من الولايات المتحدة عام 1821 . وقد قام ليفي باستثمار أمواله في المشاريع الزراعية والتجارية، كما سعى إلى جذب المستوطنين البيض من اليهود والمسيحيين للعمل في المزارع الكبيرة التي أقامها، وسافر إلى إنجلترا لهذا الغرض. كما نشط ليفي بين المهاجرين اليهود الجدد في فيلادلفيا ونيويورك لتشجيعهم على الاستيطان في فلوريدا، وأقام في نيويورك مدرسة زراعية عام 1821. ولكن مساعي ليفي لم تنجح في جذب القدر الكافي من المستوطنين.

كان ليفي من ملاك العبيد وقد استخدمهم في زراعة أراضيه وتطوير مشاريعه الاستيطانية. وبحلول عام 1840، أصبح يمتلك مساحات كبيرة من الأراضي والضياع ولكنه صار يواجه أيضاً عدداً كبيراً من المشاكل المالية والدعاوى القضائية المرفوعة ضده، كما تعرضت كثير من أراضيه للتدمير أثناء حروب السيمينول، وهي الحروب التي شنها الجيش الأمريكي ضد الهنود الحمر لطردهم من أراضيهم وتوسيع مناطق استيطان الرجل الأبيض.

وقد نجح ليفي في التخلص من مشاكله القانونية، وانخرط في النشاط السياسي في فلوريدا وكتب عدداً من المقالات في الصحف تحت اسم «يولي». وبرغم اهتمامه ببعض القضايا اليهودية وبالكتابة حول بعض المسائل الدينية اليهودية إلا أن ولديه الاثنين ابتعدا تماماً عن اليهودية، وأحدهما ديفيد يولي أصبح أول عضو يهودي في مجلس الشيوخ الأمريكي.

ولا يمكن فهم سيرة حياة ليفي في إطار يهوديته أو هويته السفاردية، فهو يستولي على الأرض ويطرد أهلها منها ويحارب ضدهم ويبيدهم ويوظف الأفريقيــين السـود فيها، ليس لأنه يهودي شرير وإنما لأنه ينتمي إلى التشكـيل الاستعماري الاستيطاني الإحـلالي الأمريكـي، وسلوكه يتحدَّد داخل هـذا الإطـار. ويُقـال إنه شخصياً كان ضد استخدام العبيد السود، ولكنه تنازل عن آرائه حتى يمكنه الاستمرار داخل إطار نمط الإنتاج السائد في مجتمعه.

ناثانيل أيزاكـس (1808 -1860 (
Nathaniel Isaacs
تاجر ومستكشف جنوب أفريقي يهودي من أوائل من فتحوا إقليم ناتال في جنوب أفريقيا للاستيطان الأوربي، وُلد في إنجلترا وأرسلته أسرته عام 1822 إلى جزيرة سانت هيلينا القريبة من أفريقيا ليكتسب خبرة تجارية في تجارة عمه. وفي عام 1825، أبحر أيزاكس إلى بورت ناتال على الساحل الجنوبي الشرقي من أفريقيا وقام على رأس مجموعة من الأوربيين باستكشاف المناطق الداخلية من البلاد، حيث التقى بقبائل الزولو الأفريقية ونجح في إقامة علاقة طيبة مع ملكهم الذي منحه مساحات واسعة من الأراضي وامتيازات كثيرة للاتجار مع قبائل الزولو، وذلك مكافأة له على تعاونه معهم في حروبهم ضد القبائل الأخرى التي انتصروا فيها بفضل الأسلحة الأوربية. وقد أمضى أيزاكس حوالي سبعة أعوام في ناتال عمل فيها بالتجارة (وبخاصة تجارة العاج) وسـاهم في تعليـم الزولو الزراعة وتربية الماشـية، كما أسس مدينة دوربان. ومن جهة أخرى، شجع أيزاكس السلطات البريطانية في مدينة الكاب على توسيع تجارتهم مع إقليم ناتال، وحث الحكومة البريطانية على ضم الإقليم واستيطانه. وهو ما أقدمت عليه الحكومة البريطانية بالفعل عام 1843. وقد رحل أيزاكس عن ناتال بشكل نهائي عام 1821 واشتغل بالتجارة في سيراليون. وفي عام 1836، أصدر أيزاكس كتابه سفريات ومغامرات في شرق أفريقيا الذي يُعَدُّ مرجعاً عن حياة وتقاليد قبائل الزولو الأفريقية.

ويبيِّن تاريخ حياة أيزاكس مدى تفاعُل أعضاء الجماعات اليهودية مع التشكيل الاستعماري الغربي وكيف أن حركتهم وهجراتهم منذ القرن السابع عشر تتم في إطار هذا التشكيل خارج حركيات ما يُسمَّى «التاريخ اليهودي».

أمـرام دارمــون (1815-1878 )
Amram Darmon
جندي فرنسي وُلد في الجزائر لعائلة دارمون اليهودية المرموقة، وقد رحب دارمون بحماس شديد بالاحتلال الفرنسي للجزائر عام 1830 وانضم إلى الجيش الفرنسي حيث اشترك في جميع حملاته اللاحقة ضد السكان المسلمين. ونظراً لمعرفته باللغتين العربية والفرنسية وبطبيعة البلاد، عُيِّن مترجماً حيث اشترك بهذه الصفة في عدة حملات عسكرية. وفي عام 1852، عُيِّن بشكل رسمي مترجماً من الطبقة الأولى. ومُنح وساماً ولقب فارس. وفي الفترة بين عامي 1853 و 1868، ترأس المكتب العربي في ماسكارا حيث توفى. وقد مُنح دارمون الجنسية الفرنسية قبل أربعة أعوام من صدور قانون كرميو عام 1870 الذي أعطى يهود الجزائر حق المواطنة الفرنسية بشكل تلقائي. ويُعتبَر دارمون نموذجاً لتحوُّل أعضاء الجماعات اليهودية في الجزائر وفي المغرب العربي بصفة عامة على أيدي الاحتلال الفرنسي إلى جماعات وظيفية استيطانية من خلال اكتسابهم الثقافة الفرنسية وحصولهم على الامتيازات الممنوحة للأجانب، وقد أدَّى كل هذا إلى ارتباط مصالحهم بمصالح المحتل، وبالتالي عملوا على خدمة مصالحه ودعم وجوده في المنطقة.

ألفـريد بيت (1853-1906 (
Alfred Beit
من رجال المال في جنوب أفريقيا، وشريك سيسل رودس في تأسيس رودسيا التي سُمِّيت زمبابوي بعد استقلالها. وُلد في هامبورج، وانتقل إلى أمستردام حيث تعلَّم تجارة الماس، ثم انتقل إلى جنوب أفريقيا عام 1875 حيث حقق في فترة وجيزة مكانة مهمة في مجال تطوير مناجم الماس والذهب. وقد التقى بسيسل رودس وترسخت علاقتهما. وظل منذ ذلك الحين مرتبطاً بالنشاط المالي لرودس وبطموحاته الإمبريالية والاستعمارية. ووقف بيت إلى جانب رودس في تنافسه مع بارناتو (وهو من رجال المال والماس من اليهود في جنوب أفريقيا) للسيطرة على مناجم الماس في البلاد. واستعان في ذلك بفرع عائلة روتشيلد في لندن. وقد أسسا معاً عام 1888 شركة دي بيرز للتعدين والتي أصبحت الشركة المسيطرة على تجارة الماس في جنوب أفريقيا وفي العالم أجمع.
اشترك بيت مع رودس في إدارة وتطوير المنطقة التي أصبحت تُعرَف فيما بعد باسم «رودسيا»، وذلك من خلال شركة جنوب أفريقيا البريطانية التي أسساها معاً. ويأتي بيت في المرتبة الثانية بعد رودس في مساهمته في استعمار رودسيا وتطويرها وترسيخ وجود الرجل الأبيض بها. كما تورط في المؤة التي دبرها رودس ضد النظام الحاكم في رودسيا عام 1895. وقد حقق بيت ثراءً كبيراً، وكان له العديد من المساهمات الخيرية، وبخاصة في مجال التعليم.

ساجدة لله
2010-10-26, 06:02 AM
الباب الثالث: التحديث وأعضاء الجماعات اليهودية


التحديث وأعضاء الجماعات اليهودية: دورهم فيه وأثره فيهم
Modernization: Role of Members of Jewish Communities and its Impact on Them
«التحديث» (في إطار المنظومة المعرفية العلمانية الشاملة) هو عملية تعديل البيئة الاجتماعية والرؤية المعرفية والأخلاقية بحيث يُخضَع الواقع بأسره (الإنسان والبيئة أو الطبيعة) للقواعد والإجراءات العامة وغير الشخصية ويزداد التحكم فيه، فتُستبعَد كل المطلقات (الأخلاقية والإنسانية والدينية) من الدنيا وتُصفَّى كل الثنائيات ويصبح مصدر المعرفة هو العقل وما يصله من معطيات من خلال الحواس. وينبع من هذه المعرفة نسق أخلاقي يجعل الأخلاق مترادفة مع المنفعة واللذة (وهذه العملية هي في جوهرها عملية ترشيد وعلمنة وفرض للواحدية المادية). وينتج عن ذلك أن الشخصية التقليدية تتحول بالتدريج إلى المواطن الحديث القادر على الاستجابة للقانون العام، والذي لا يدين بالولاء إلا للدولة (المطلقة) أو الوطن والذي يفضل الدخول في علاقات تعاقدية واضحة محدَّدة. وهو بذلك، يصبح منتجاً ومستهلكاً بالدرجة الأولى. كما أن البيئة الاجتماعية نفسها تسيطر عليها مؤسسات الدولة التي تحل محل المؤسسات التقليدية مثل الكنيسة أو الأسرة، أي أن الجماعة العضوية المترابطة (جماينشافت) تتحول إلى المجتمع التعاقدي (جيسيلشافت). ويؤدي كل هذا إلى تزايد هيمنة المؤسسات الحديثة التي يصبح بوسعها توظيف الواقع (الإنسان والطبيعة) وتعظيم الإنتاج (من خلال توحيد السوق وتوحيد القوانين والنظم الاقتصادية) وزيادة الدخل (عن طريق وضع الخطط وإقناع الناس بها من خلال الإعلام). وتصاحب هذه العملية نمو الديموقراطية، وانتشار التعليم، وزيادة الإبداع والحراك الاجتماعي، ونزع القداسة عن الرموز والأفراد، وتزايُد تكيُّف المرء مع القيم والمخترعات الجديدة التي تظهر يوماً بعد يوم، وتعاظُم دور الإعلام والمخابرات. وقد عرَّف أحد العلماء الغربيين الإنسان الحديث بأنه الإنسان القادر على تغيير قيمه بعد إشعار قصير، أي أنه إنسان حركي للغاية لا يهدأ ولا يخضع لأية ثوابت أو مطلقات. كما يُلاحَظ أن عملية التحديث يصاحبها تزايُد التركز في المدن، والاغتراب، وانتشار الإباحية والنزعات العدمية. ويمكن وصف التحديث بأنه علمنة المجتمع.

وعملية التحديث، سواء في الشرق الإسلامي أم في الغرب، هي أهم عملية تاريخية في هذا العصر، وهي سمته الأساسية، فهي تمس كل جوانب المجتمع الإنساني من الاقتصاد إلى أسلوب الحياة. ويعود تاريخ عملية التحديث والعلمنة في الغرب إلى بدايات عصر النهضة،وقد زادت حدتها مع بداية القرن التاسع عشر،ووصلت هذه المرحلة إلى نهايتها مع الحرب العالمية الأولى حيث تحولت المجتمعات الغربية من كونها مجتمعات زراعية إقطاعية وشبه إقطاعية إلى مجتمعات تجارية وأخيراً إلى مجتمعات صناعية رأسمالية إمبريالية.وقد تركت هذه العملية التاريخية أعمق الأثر في أعضاء الجماعات اليهودية،ولا يمكن فهم الحركات السياسية والفكرية وحركة الهجرة بين اليهود إلا بفهم أثر عملية التحديث فيهم ودورهم فيها.

وقد لعب أعضاء الجماعات اليهودية دوراً في تحديث العالم الغربي والشرق العربي من خلال كونهم جماعة وظيفية وسيطة. ولكنه كان دوراً محدوداً بسـبب ارتباطهم إما بالطبـقة الحاكمة، كما هـو الحال في الغرب، أو بالاستعمار في الشرق، إذ أن عملية التحديث لابد أن تتم في صلب المجتمع ذاته وأن يقوم بها أعضاء المجتمع الذين يعيشون فيه وينتمون إليه انتماءً كاملاً.

وقد هاجر يهود البلاد العربية والعالم الإسلامي إلى العالم الغربي أو الدولة الصهيونية قبل أن تتصاعد عملية التحديث في هذا الجزء من العالم، ولذا لم تُبذَل محاولات لتحديثهم ودمجهم في المجتمع.

أما يهود العالم الغربي، فقد كانت تجربتهم مختلفة، إذ تصاعدت معدلات التحديث في المجتمع الغربي ابتداءً من منتصف القرن السابع عشر ودخلت عليه تحولات عميقة غيَّرت بنيته ورؤيته تماماً، وهي تحولات كان اليهود بمعزل عنها، وبخاصة في شرق أوربا، حيث كانوا لا يزالون يلعبون دور الجماعة الوظيفية الوسيطة. ومع نهاية القرن الثامن عشر، كان اليهود من أكثر القطاعات البشرية تَخلُفاً في كل أرجاء أوربا. ومن هنا وجدت الحكومات المركزية المطلقة، التي كانت تود توحيد السوق القومي والسيطرة على كل جوانب الحياة، أن من الضروري تحديث اليهود حتى تتم عملية دمجهم.

وفي الأدبيات التي تتناول ذلك الموضوع، يرد المصطلح مرادفاً لمصطلحات مثل «دمج اليهود» أو «صبغهم بالصبغة البولندية أو الروسية أو النمساوية في بولندا أو روسيا أو النمسا» أو «تحويلهم إلى قطاع اقتصادي منتج» أو تخليصهم من «هامشيتهم» الإنتاجية أو «إصلاحهم» أو «تحويلهم إلى عنصر نافع». والصعوبات التي واجهت عملية التحديث هذه ومدى نجاحها وفشلها هي التي تشكل جوهر ما يُسمَّى «المسألة اليهودية».

وقد كانت عملية تحديث اليهود تتم في أحيان نادرة بناءً على اقتراح من دعاة التنوير بين أعضاء الجماعات اليهودية، كما حدث في بولندا حين قدم أحدهم عام 1792 إلى البرلمان البولندي كتيباً بالفرنسية يقترح فيه الخطوات اللازم اتخاذها لتحديث اليهود. ولكن مثل هذه المبادرات اليهودية كانت نادرة، إذ أن عملية التحديث لم تكن تنبع من الحركيات الداخلية للجماعات اليهودية، وإنما من حركيات المجتمع الذي يحتويها. ولذا، كان التحديث في معظم الأحوال يتم بمبادرة من العالم غير اليهودي الذي يعيش اليهود بين ظهرانيه، كما كان يُفرَض عليهم فرضاً.

وقد أخذ التحديث شكلين أساسيين. أحد هذين الشكلين سياسي مباشر، وهو ما يُطلَق عليه الإعتاق، أي منح اليهود حقوقهم المدنية والسياسية نظير أن يدينوا بالولاء للدولة التي عرَّفت القومية على أساس لا ديني (عرْقي أو إثني)، وهو الأمر الذي خلق عند اليهود أزمة هوية، حيث إن تعريف الشريعة لليهودي على أنه من تهود أو من وُلد لأم يهودية يتضمن عناصر إثنية شبه قومية تتناقض مع فكرة الولاء الكامل للدولة ولقيمها الحضارية والسياسية في حياتهم العامة (على أن يحتفظوا بقيمهم الإثنية والدينية في حياتهم الخاصة إن شاءوا). كما أخذ التحديث شكلاً اجتماعياً واقتصادياً أكثر عمقاً، مثل تشجيعهم على الاشتغال بالزراعة وتحريم اشتغالهم بالربا أو التجارة وغير ذلك من المحاولات والأشكال.

وقد تأثر أعضاء الجماعة اليهودية بهذا المناخ الثقافي وبالتحولات الاجتماعية التي واكبته، فيُلاحَظ أن الهوة التي تفصل بينهم وبين بقية أعضاء المجتمع أخذت تضيق بسرعة حتى اختفت تماماً في بعض البلاد مثل دول غرب أوربا والولايات المتحدة. وبالتالي، تحوَّلت القضية بالنسبة إلى اليهود من قضية حقوق ومزايا خاصة يحصلون عليها، كما كان الأمر من قبل، إلى قضية إعتاق واندماج، إذ أن الاندماج (حسب افتراض فكر الاستنارة والليبرالية) سيحل مشكلة الحقوق بشكل آلي. ولكن الأمور لم تكن بالبساطة التي تصوَّرها مفكرو عصر الاستنارة، فالجماعات اليهودية كان لها خصوصيتها المرتبطة بدورها كجماعة وظيفية وسيطة متميِّزة إثنياً ووظيفياً. لذا، لم تكن عملية الانتقال هينة أو سهلة، خصوصاً أن الفكر القومي العضوي انتشر في أوربا، وهو فكر استبعادي يطرح تصوراً للدولة القومية لا مجال فيه للتعدد الإثني أو الديني، ولا مكان فيه للأقليات.

ومع هذا، فَقَد اليهود تميُّزهم بدرجات متفاوتة، إذ أن ما يحدث عادةً أن القيم العامة التي تسود في الحياة العامة تبدأ في التغلغل في حياة أعضاء الأقليات الخاصة ثم تسود فيها فيفقدون أية خصوصية، دينية أو إثنية، ويصبحون مثل بقية أعضاء المجتمع في حياتهم الخاصة والعامة، فتتزايد معدلات الاندماج بينهم، بل يكتسب الاندماج حركية مستقلة، إذ يصبح نابعاً من داخل الأقليات ذاتهم بعد أن كان مفروضاً عليهم. ثم تظهر مشاكل جديدة لم يجابهها أعضاء الأقليات من قبل، مثل تزايُد معدلات الزواج المُختلَط والانصهار الكامل. والجماعات اليهودية مثل جيد على هذه الظاهرة، فبعد أن كانوا يشكون من معاداة اليهود ومن العزلة والعزل، تسري الآن الشكوى من الزواج المختلط ومن الانصهار. وكانت معدلات الاندماج تختلف من منطقة إلى أخرى في أوربا التي يمكن تقسيمها إلى ثلاثة أقسام من منظور معدلات التحديث وأشكاله:

1 ـ بلاد التحديث الناجح، وهي بلاد غرب أوربا ما عدا ألمانيا.

2 ـ بلاد التحديث الشمولي في وسط أوربا وألمانيا.

3 ـ بلاد التحديث المتعثر أو المتوقف في شرق أوربا، وبالأساس في بولندا وروسيا.

وقد اندمج اليهود في مجتمعات غرب أوربا، وبدأت عملية الاندماج في وسطها وشرقها، ولكنها تعثرت ثم توقفت. وقد ظهرت موجة من موجات معاداة اليهود في ثمانينيات القرن التاسع عشر في معظم أنحاء أوربا، وبخاصة في وسطها وشرقها. ونتيجةً لكل هذا، بدأت الهجرة اليهودية من شرق أوربا إلى وسطها وغربها، ثم إلى الولايات المتحدة التي أصبحت تضم أكبر جماعة يهودية في العالم.

ساجدة لله
2010-10-26, 06:02 AM
وقد ظهرت استجابات يهودية كثيرة لحركة التحديث، فكانت هناك اليهودية الإصلاحية والدعوة للاندماج والاستفادة من الفرص الثقافية والاقتصادية الجديدة، وهذا هو الحل الذي ساد أساساً في الغرب. أما في شرق أوربا، فقد ساد الفكر الحسيدي والأرثوذكسي. وتتلخص الاستجابة الحسيدية في تفضيل البقاء في الماضي وتجاهُل الحاضر، بينما تأخذ الاستجابة الأرثوذكسية شكل تفضيل البقاء في الماضي والعزلة مع محاولة التصدي للحاضر. ولكن كلتا الاستجابتين الحسيدية والأرثوذكسية لم تؤثرا في مصير اليهود ككل. أما الاستجابة الصهيونية واستجابة دعاة قومية الجماعات (سواء من البوند الاشتراكيين أو من الليبراليين)، فإنهما تتجاوزان الإطار الديني التقليدي وترفضان الجيتو كإطار مرجعي وتقبلان المجتمع الغربي الحديث كحقيقة نهائية. ويمكن تصوُّر قومية الدياسبورا باعتبارها قامت بعلمنة الصيغة الحاخامية التقليدية التي عارضت النزعات المشيحانية وعارضت العودة الفعلية إلى فلسطين ونادت بتقبُّل الشتات (أي انتشار الجماعات اليهودية في أنحاء العالم) بوصفه حالة نهائية إلى أن يأذن الإله بغير ذلك. أما الصهاينة، فقد علمنوا الصيغة الشبتانية (نسبة إلى شبتاي تسفي) ، وهي صيغة مشيحانية تؤكد أهمية عودة اليهود الفعلية إلى فلسطين وإنشاء دولة يهودية قومية حديثة مثل كل الدول.

والصهيونية، رغم أنها إحـدى الاستجابات اليهودية لعمليـة التحديث، وذلك باعتبارها محاولة لتقديم حل حديث للمسألة اليهودية (العنوان الفرعي لكتاب هرتزل دولة اليهود)، فإنها استجابة سطحية للغاية. فقد امتصـت كثيراً من ديباجات التحـديث المختلفة، مثل العلمانية والاشتراكية، وطرحت شعارات تحديثية مثل «تطبيع اليهود» وغير ذلك من الشعارات مع احتفاظها ببنية تقليدية جيتوية. طرحت الصهيونية مفاهـيم، مثل الشـعب اليهـودي والتاريخ اليهودي، تبدو كأنها مفاهيم حديثة، ولكن الباحث المدقق سيكتشف أن الشعب اليهودي هو الشعب المختار بعد علمنته، والتاريخ اليهودي، هو امتداد للتاريخ المقدَّس الذي ورد في العهد القديم والذي يفترض علاقة خاصة مع الإله بعد أن تم صبغه بصبغة دنيوية. والدولة الصهيونية دولة وظيفية تجارية قتالية تشبه في كثير من النواحي الجماعات اليهودية الوظيفية الوسيطة.

ولقد أنجزت الصهيونية تحديث بعض أعضاء الجماعات اليهودية في شرق أوربا عن طريق ضمهم إلى المشروع الاستعماري الغربي، الذي حولهم إلى مستوطنين في فلسطين يعيشون داخل جيب غربي يدار بطريقة غربية حديثة. ولكن مجتمعات المستوطنين البيض لم يكن لها أي أثر تحديثي في المجتمعات الآسيوية والأفريقية التي تواجدت بين ظهرانيها. فمؤسسات المجتمع الاستيطاني المقصورة على المستوطنين تتسم بأنها مؤسسات حديثة تدار بطريقة حديثة، بما يتضمنه ذلك من محاولات للترشيد وتعظيم الربح وخلافه، ومع هذا تحاول هذه المؤسسات قصارى جهدها أن تمنع تطبيق المثل نفسه على المجتمعات المحيطة بها وتحاول أن تُبقيها في حالة التخلف والتجزئة، لأن تحديث هذه المجتمعات فيه قضاء على الخلية الاستيطانية وعلى فرص استغلال الأرض ومَنْ عليها من بشر. ولذا، نجد أن المجتمع الاستيطاني هو مجتمع حديث للغاية يبذل قصارى جهده لئلا تنتشر عملية التحديث!

وفي الحقيقة، فإن سلوك الصهاينة هو تعبير عن هذا النمط المألوف. فمنذ البداية، رفض الصهاينة التعامل مع القيادات الفلسطينية الحديثة، وكانوا يفضلون دائماً التعامل مع شيوخ القبائل، كما رفضوا أن ينظروا إلى الفلسطينيين كجزء من التشكيل العربي القومي الحديث، وفضلوا أن ينظروا إلى المنطقة ككل باعتبارها فسيسفاء من شيعة وسنة وأكراد وكاثوليك ودروز وأرثوذكس. كما يحاولون منع الفلسطينيين من إنشاء مؤسسات ذات طابع حديث، مثل الأحزاب السياسية التي تتمتع بحرية التعبير، ويرفضون الاعتراف بقيادتهم القومية.

ومع هذا، يمكن القول بأن النمط الصهيوني، برغم انتمائه إلى النمط الاستعماري، له تفرُّده. فهو لم يُعق المجتمع الفلسطيني عن النمو والتحديث، وإنما (نظراً لإحلاليته) شوَّه بنيةالمجتمع الفلسطيني الاجتماعية والثقافية تماماً، وذلك بطرده الفلسطينيين، أي أن هذه العملية ليست محاولة للقضاء على عملية تحديث المجتمع وحسب، وإنما تهدف أيضاً إلى القضاء على تاريخه بل وجوده.

إصــــلاح اليهـــــود واليهوديـــــة
Reformation or Improvement of the Jews and Judaism
«إصلاح اليهود واليهودية» عبارة تُستخدَم للإشارة إلى موضوع أساسي كامن في الخطاب السياسي الغربي في أواخر القرن الثامن عشر، وهو إمكانية تحديث اليهود، أي تحويلهم من جماعة وظيفية وسيطة تقف على هامش المجتمع (التقليدي) إلى أعضاء مندمجين في طبقات المجتمع (الحديث) كافة. ومن أهم كلاسيكيات إصلاح اليهود كتاب كريستيان دوم بخصوص إصلاح المكانة المدنية لليهود (1781) حتى يصيروا عناصر قادرة على الانتماء للدولة الجديدة نافعة لها.

وقد ترك كتاب دوم أثراً عميقاً في مفكري عصره، وظهرت كتابات أخرى تتبنَّى المقولة نفسها للأب هنري جريجوار وميرابو وغيرهما. وقد نوقشت قضية إصلاح اليهود في إطار مفهوم المنفعة (العقلاني المادي). وتُجمع هذه الكتابات على إمكانية إصلاح اليهود عن طريق تطبيعهم، وجعلهم جزءاً لا يتجزأ من المجتمع في وظائفهم وأزيائهم ولغتهم، وذلك بتوجيههم (بعيداً عن التجارة) نحو الحرف اليدوية والمهن الصناعية، ومنعهم من استخدام «هذه الرطانة الألمانية العبرية الحاخامية»، أي اليديشية التي يستخدمها اليهود، ومن ارتداء الأزياء الخاصة بهم، وكذلك منعـهم من بيـع الكحول. وكل هذه الإجراءات تعني، في واقع الأمر، فكّ عزلتهم كجماعة وظيفية وسيطة، ودفعهم إلى أن يُجَنَّدوا في الجيش حتى يتسنى تطبيعهم تماماً، ويصبحوا مادة بشرية نافعة.

وقد تبنَّى الصهاينة أيضاً هذا المصطلح أو المفهوم الذي يُستخدَم باعتباره مصطلحاً مترادفاً مع مصطلحات أخرى، مثل: «تطبيع اليهود» أو «تحويل اليهود إلى قطاع اقتصادي منتج» أو تخليصهم من «هامشيتهم» و«شذوذهم». لكن دوم طالب كذلك بأن يُحظَر على اليهود كتابة حساباتهم التجارية بالحروف العبرية حتى تزداد الثقة بينهم وبين جماهير الشعب المسيحي، وبأن يتم الإشراف على مدارسهم لاستبعاد العناصر غير الاجتماعية في ثقافتهم والموجهة ضد الآخرين أو الأغيار. وقد طالب كذلك بفرض الاتجاه العقلاني عليهم وتلقينهم احترام الدولة والاعتراف بواجباتهم تجاهها. ويمكن القول بأنه وضع مشروعاً يهدف إلى التخلص من كل أبعاد الخصوصية اليهودية.

لكن فكر دوم هو نتاج عصره، عصر الملكيات الأوتوقراطية المستنيرة وفكرة الاستنارة. ومن هنا، فإن برنامجه المجرد العام يشبه، في كثير من النواحي، برنامج جوزيف الثاني إمبراطور النمسا لتحديث اليهود ودمجهم. والواقع أن فكرة إصلاح اليهود مرتبطة بفكرة نفعهم وإمكانية حوسلتهم، فإصلاح اليهود يهدف إلى جعلهم نافعين يمكن تحويلهم إلى مادة استعمالية، ومن ثم فهو في جوهره عملية علمنة.

ولم تكن عملية الإصلاح مقصورة على اليهود وحسب، وإنما امتدت لتشمل اليهودية كذلك، ولا يختلف مشروع إصلاح اليهودية وتحديثها في أساسياته عن مشروع إصلاح اليهود. وكان هذا الإصلاح يأخذ شكل تحديث وتطبيع حتى تقترب اليهودية من المسيحية البروتستانتية (كانت ألمانيا مهد الإصلاح الديني المسيحي، وهي نفسها بلد الإصلاح الديني اليهودي). وحاول الإصلاح الديني اليهودي التقليل من أهمية الشعائر وتخليص اليهودية من العناصر القومية فيها. واليهودية الإصلاحية هي ثمرة هذه المحاولة وتبعتها اليهـودية المحافظـة والتجديدية في الاتجاه نفسه.

ساجدة لله
2010-10-26, 06:02 AM
نفـــــع اليـــهود
Utility of the Jews
«نَفْع اليهود» مصطلح يعني النظر إلى أعضاء الجماعات اليهودية من منظور مدى نفعهم للمجتمعات التي يوجدون فيها، وهو واحد من أهم الموضوعات الأساسية، الواضحة والكامنة، التي تتواتر في الكتابات الصهيونية والمعادية لليهود، وبخاصة النازية.

والدفاع عن اليهود من منظور نفعهم يتضمن داخله قدراً كبيراً من رفضهم وعدم قبولهم كبشر لهم حقوقهم الإنسانية المطلقة. فالعنصر النافع عنصر متحوسل يُستفاد منه طالما كان نافعاً ومنتجاً، كما يجب التخلص منه إن أصبح غير نافع وغير منتج. وهذا المقياس لم يُطبَّق على أعضاء الجماعات اليهودية وحدهم، وإنما على كل أعضاء المجتمع الذي تحكمه الدولة القومية المطلقة العلمانية التي تقوم بحوسلة الطبيعة والإنسان. ومفهوم نَفْع الإنسان مفهوم محوري في فكر حركة الاستنارة نابع من الواحدية المادية.

وقد كانت الجماعات اليهودية تضطلع بدور الجماعة الوظيفية في كثير من المجتمعات، فكان بعضها يضطلع بدور الجماعة الوظيفية القتالية والاستيطانية في العصور القديمة، وتحولوا إلى جماعة وظيفية تجارية في العصور الوسطى في الغرب. وكان يُنظَر إليهم باعتبارهم مادة بشرية تُستجلَب للمجتمع كي تقوم بدور أو وظيفة محددة، ويتم قبولها أو رفضها في إطار مدى النفع الذي سيعود على المجتمع من جراء هذه العملية. ومما دعَّم هذه الرؤية، فكرة الشعب الشاهد التي تنظر إلى اليهود كأداة للخلاص، ومن ثم ينبغي الحفاظ عليهم بسبب دورهم الذي يلعبونه في الدراما الدينية الكونية، وهي الفكرة التي سادت أوربا الكاثوليكية الإقطاعية. وقد استقر اليهود في إنجلترا وفرنسا في العصور الوسطى في الغرب كأقنان بلاط وكمصدر نَفْع ودَخْل للإمبراطورية. وكان يُشار إليهم أحياناً على أنهم سلع أو منقولات. ويمكن القول بأنه قد يكون من الأدق النظر إلى اليهود باعتبارهم أدوات إنتاج وإدارة، لا باعتبارهم بشراً أو قوى إنتاج. وقد استقر اليهود في ألمانيا ثم في بولندا على هذا الأساس. وظهر بينهم يهود البلاط أو يهود الأرندا، وكانوا هم أيضاً جماعات وظيفية، وكان يُنظَر إليهم من حيث إنهم يؤدُّون وظيفةً ما، كما كان يُحكَم عليهم بمقدار النجاح أو الإخفاق في أدائها. ومن أكثر الأمثلة إثارةً على أن اليهود كان يتم التسامح معهم والتصريح لهم بالاستيطان كمادة نافعة، وضعهم في شبه جزيرة أيبريا، فقد كانت توجد عناصر يهودية كثيرة في بلاط فرديناند وإيزابيلا. بل إن أحد أثرياء اليهود لعب دوراً مهماً في عقد القرآن بينهما وفي توحيد عرش قشطالة وأراجون. وقام بعض أثرياء اليهود بتمويل حرب الملكين ضد المسلمين، وهو ما أدَّى إلى هزيمتهم وإنهاء الحكم الإسلامي. ومع هذا، تم طرد أعضاء الجماعات اليهودية بعد سبعة شهور فقط من إنجاز هذه العملية العسكرية التي مولوها، ذلك أن نجاحها قد أدَّى إلى أن دورهم كجماعة وظيفية مالية نافعة لم يَعُد لازماً.

وقد كان وضع اليهود مستقراً تماماً داخل المجتمعات الغربية كجماعة وظيفية وسيطة ذات نَفْع واضح. ولكن هذا الوضع بدأ في التقلقل مع التحولات البنيوية العميقة التي خاضها المجتمع الغربي ابتداءً من القرن السابع عشر وظهور الثورة التجارية. ولم يَعُد بالإمكان الاستمرار في الدفاع عن وجود اليهود من منظور فكرة الشعب الشاهد (الدينية). فظهرت فكرة العقيدة الألفية أو الاسترجاعية التي تجعل الخلاص مشروطاً بعودة اليهود إلى فلسطين. ولكن هذه الأسطورة ذاتها لا تزال مرتبطة بالخطاب الديني، ولم يكن مفر من أن يتم الدفاع عن اليهود على أسس لادينية علمانية، كما لم يكن بد من طرح أسطورة شرعية جديدة ذات طابع أكثر علمانية ومادية. ومن ثم، ظهرت فكرة نَفْع اليهود للدولة، هذا المطلق العلماني الجديد، فتم الدفاع عن عودة اليهود إلى إنجلترا في القرن السابع عشر من منظور النفع الذي سيجلبونه على الاقتصاد الإنجليزي، حيث نُظر إليهم كما لو كانوا سلعة أو أداة إنتاج. وكان المدافعون عن توطين اليهود يتحدثون عن نقلهم على السفن الإنجليزية بما يتفق مع قانون الملاحة الذي صدر آنذاك ويجعل نَقْل السلع، إلى إنجلترا ومنها، حكراً على السفن الإنجليزية. كما أن كرومويل فكر في إمكانية توظيفهم لصالحه كجواسيس. وعمل اليهود في تلك المرحلة في وسط أوربا كيهود بلاط، وهم جماعة وسيطة يستند وجودها أيضاً إلى مدى نَفْعها.

وحينما قام أعداء اليهود بالهجوم عليهم من منظور ضررهم وانعدام نَفْعهم، دافع أعضاء الجماعات اليهودية عن أنفسهم لا من منظور حقوقهم كبشر، وإنما من منظور نفعهم أيضاً. فكتب الحاخام سيمون لوتساتو عام 1638 كتاباً بالإيطالية تحت عنوان مقال عن يهود البندقية عدَّد فيه الفوائد الكثيرة التي يمكن أن تعود على البندقية وعلى غيرها من الدول من وراء وجود اليهود فيها، فهم قد طوَّروا فروعاً مختلفة من الاقتصاد، يضطلعون بوظائف لا يمكن لغيرهم الاضطلاع بها مثل التجارة، ولكنهم على عكس التجار الأجانب خاضعون لسلطة الدولة تماماً، ولا يبحثون عن المشاركة فيها. وهم يقومون بشراء العقارات، ومن ثم لا ينقلون أرباحهم خارج البلاد. إن اليهود من هذا المنظور يشبهون رأس المال الوطني (مقابل رأس المال الأجنبي) لابد من الحفاظ عليه والدفاع عنه.

وقد تبنَّى منَسَّى بن إسرائيل المنطق نفسه في خطابه لكرومويل حتى يسمح لليهود بالاستيطان في إنجلترا. كذلك تبنَّى أصدقاء اليهود المنطق ذاته، فطالب جوسيا تشايلد رئيس شركة الهند الشرقية عام 1693 بإعطاء الجنسية لليهود الموجودين في إنجلترا بالفعل. وأشار إلى أن هولندا قد فعلت ذلك وازدهر اقتصادها بالتالي. كما كتب جون تولاند عام 1714 كتيباً هاماً للغاية عنوانه الأسباب الداعية لمنْح الجنسية البريطانية لليهود الموجودين في بريطانيا العظمى وأيرلندا دافع فيه عن نَفْع اليهود مستخدماً المنطلقات نفسها التي استخدمها لوتساتو.

ومن أهـم المدافـعين عن نَفْع اليهود، الفيلسوف الفرنسي مونتسكيو، حيث بيَّن أهمية دورهم في العصور الوسطى، وكيف أن طَرْد اليهود ومصادرة أموالهم وممتلكاتهم اضطرهم إلى اختراع خطاب التبادل لنقل أموالهم من بلد إلى آخر، ومن ثم أصبحت ثروات التجار غير قابلة للمصادرة، وتمكنت التجارة من تحاشي العنف، ومن أن تصبح نشاطاً مستقلاًّ، أي أنه تم ترشيدها.

ولعل أدقَّ وأطرف تعبير عن أطروحة نَفْع اليهود ما قاله إديسون في مجلة سبكتاتور في 27 سبتمبر 1712 حين وصف بدقَّة تحوُّل اليهود إلى أداة كاملة، فاليهود منتشرون في كل الأماكن التجارية في العالم، حتى أصبحوا الأداة التي تتحدث من خلالها الأمم التي تفصل بينها مسافات شاسعة والتي تترابط من خلالها الإنسانية. فهم مثل الأوتاد والمسامير في بناء شامخ. ورغم أنهم بغير قيمة في ذاتهم، غير أن أهميتهم مطلقة لاحتفاظ هيكل البناء بتماسكه.

وقد استمر هذا الموضوع الكامن شائعاً في الفكر الغربي، ثم ازداد انتشاره وتواتره مع علمنة الحضارة الغربية وسيادة الفلسفات المادية النفعية التي تحكم على مجالات الحياة كافة، وليس على اليهود بمفردهم، من منظور المنفعة. ولذا، نجد أن فكرة نَفْع اليهود تزداد محورية في الفكر الغربي في أواخر القرن الثامن عشر، وهي أيضاً المرحلة التي لم يَعُد فيها وضع أعضاء الجماعات اليهودية في الغرب مقلقلاً وحسب، بل صل فيها إلى مرحلة الأزمة. وقد تزامنت هذه العمليات الانقلابية مع ظهور فكر كلٍّ من آدم سميث في إنجلترا والفيزيوقراط في فرنسا، حيث كان كل منهما يطالب الدولة بتنظيم وزيادة ثروتها، كما كانا يتقبلان فكرة أن الهدف النهائي (والمطلق) لكل الأشياء هو مصلحة الدولة. ومن هنا، ظهر الفكر النفعي الذي يرى العالم كله من منظور المنفعة. وكان أعضاء الفريق الأول يرى أن الصناعة هي المصدر الأساسي للثروة، في حين كان أعضاء الفريق الثاني، بحكم وجودهم في بلد زراعي أساساً، يرون أن الزراعة هي المصدر الأساسي للثروة. ولكن، مع هذا، تظل فكرة المنفعة هي الفكرة الأساسية. فأعلنت الأكاديمية الملكية في متز عن مسابقة عام 1785 لكتابة بحث عن السـؤال التـالي: هل بالإمكان جَعْل يهود فرنسا أكثر نفعاً وسعادة؟ ونشر كريستيان دوم كتابه الشهير عن موضوع نَفْع اليهود عام 1781 بعنوان بخصوص إصلاح المكانة المدنية لليهود. كما نشرت كتابات عديدة بأقلام الكُتَّاب الفرنسيين الذين ساهموا في الثورة الفرنسية مثل ميرابو وغيره، دافعوا فيها عن نَفْع اليهود أو إمكانية إصلاحهم أو تحويلهم إلى شخصيات نافعة منتجة. وموضوع نَفْع اليهود يشكل إحدى اللبنات الأساسية في كتابات السياسي الإنجليزي والمفكر الصهيوني المسيحي اللورد شافتسبري، الذي اقترح توطين اليهود في فلسطين لأنهم جنس معروف بمهارته ومثابرته، ولأنهم سيوفرون رؤوس الأموال المطلوبة، كما أنهم سيكونون بمثابة إسفين في سوريا يعود بالفائدة لا على إنجلترا وحدها، وإنما على العالم الغربي بأسره.

وقد سيطر الفكر الفيزيوقراطي وفكر آدم سميث على كثير من الحكام المطلقين، حيث كانت حكومات البلاد الثلاثة التي اقتسمت بولندا واليهود فيما بينها، في أواخر القرن الثامن عشر، يحكمها حكام مطلقون مستنيرون (فريدريك الثاني في بروسيا، وجوزيف الثاني في النمسا، وكاترين الثانية في روسيا). فتبنت هذه الحكومات مقياس المنفعة تجاه أعضاء الجماعات اليهودية، فتم تقسيمهم إلى نافعين وغير نافعين. وكان الهدف هو إصلاح اليهود وزيادة عدد النافعين، وطرد الضارين منهم أو عدم زيادتهم. كما كان معظم أعضاء الجماعة اليهودية مركَّزين في التجارة، وقد أخذت عملية تحويل اليهود إلى عناصر نافعة شكل تشجيعهم على العمل في الصناعة أو الزراعة، وهو ما يُسمَّى «تحويل اليهود إلى قطاع اقتصادي منتج». كما لم يكن ممكناً أن يُعتَق من اليهود سوى النافعين منهم. وكان يُنظَر إلى اليهود كمادة بشرية، فكانت تُحَدُّ حريتهم في الزواج حتى لا يتكاثروا. وكان الشباب يُجندون حتى يتم تحديثهم وتحويلهم إلى عناصر نافعة.

ولا يمكن فهم تاريخ الحركة الصهيونية ولا تاريخ العداء لليهود (بما في ذلك النازية) إلا في إطار مفهوم المنفعة المادية هذا. فقد تبنَّى المعادون لليهود هذا المفهوم وصدروا عنه في رؤيتهم وأدبياتهم، فراحوا يؤكدون أن أعضاء الجماعة اليهودية شخصيات هامشية غير نافعة، بل ضارة يجب التخلص منها، وتدور معظم الأدبيات العنصرية الغربية في القرن التاسع عشر حول هذا الموضوع، وهي أطروحة لها أصداؤها أيضاً في الأدبيات الماركسية، وضمن ذلك أعمال ماركس نفسه، حيث يظهر اليهودي باعتباره ممثلاً لرأس المال الطفـيلي الذي يتركز في البورصـة ولا يغامر أبداً بالدخول في الصناعة. وتظهر الأطروحة نفسها في كتابات ماكس فيبر الذي يرى أن رأسمالية اليهود رأسمالية منبوذة، بمعنى أنها رأسمالية مرتبطة بالنظام الإقطاعي القديم ولا علاقة لها بالنظام الرأسمالي الجديد (ومن المفارقات أن اليهودي الذي كان رمزاً لرأس المال المحلي المتجذر، أصبح هنا رمز رأس المال الأجنبي الطفيلي المستعد دائماً للرحيل والهرب).

ساجدة لله
2010-10-26, 06:02 AM
وقد وصل هذا التيار إلى قمته في الفكر النازي الذي هاجم اليهود لطفيليتهم وللأضـرار التي يُلحقونهـا بالمجتمـع الألماني وبالحضـارة الغربية. وقد قام النازيون بتقسيم اليهود بصرامة منهجية واضحة إلى قسمين:

1 ـ يهود غير قابلين للترحيل، وهم أكثر اليهود نفعاً.

2 ـ يهود قابلون للترحيل (بالإنجليزية: ترانسفيرابلtranferable ) وقابلون للتخلص منهم (بالإنجليزية: ديسبوزابل disposable) ويُستَحسن التخلص منهم بوصفهم عناصر غير منتجة (أفواه تأكل ولا تنتج [بالإنجليزية: يوسلس إيترز useless eaters] حسب التعبير النازي المادي الرشيد الطريف) وبوصفهم عناصر ضارة غير نافعة لا أمل في إصلاحها أو في تحويلها إلى عناصر نافعة منتجة.

ومما يجـدر ذكره والتأكيد عليه، أن هذا التقسـيم تقسيم عام شامل، غير مقصور على اليهود، فهو يسري على الجميع، فقد صنَّف الألمان المعوقين والمتخلفين عقلياً وبعض العجزة والمثقفين البولنديين باعتبارهم «غير نافعين»،أي قابلين للترحيل ويستحسن التخلص منهم.وقد سويت حالة كل هؤلاء (بما في ذلك اليهود) عن طريق الترحيل إلى معسكرات السخرة أو الإبادة،حسب مقتضيات الظروف والحسابات النفعية المادية الرشيدة المتجاوزة للقيم والغائيات الإنسانية.

وقد تقبُّل الصهاينة هذا الإطار الإدراكي، فنجد أن هرتزل يرى أن اليهود عنصر بشري فائض غير نافع يجب توظيفه وجعله عنصراً نافعاً للحضارة الغربية عن طريق تحويله إلى مستوطنين، بل عن طريق تحويل أعضاء الجماعات كافة إلى عُمَلاء للقوة الاستعمارية الراغبة في الاستفادة منهم. ويمكن القول بأن الصيغة الصهيونية الأساسية الشاملة هي فكرة الشعب العضوي المنبوذ مضافاً إليها فكرة نَفْع اليهود. ويتحدث ناحوم سوكولوف بالطريقة نفسها عن اليهود وكيفية تحويلهم إلى مادة نافعة. كما كان مفكرو الصهيونية العمالية يصرون على إمكانية تحويل اليهود إلى عنصر نافع ومنتج من خلال غزو الأرض والعمل.

ويجب أن نشير هنا إلى ألفريد نوسيج الفنان الصهيوني الذي عاون هرتزل في تأسيس المنظمة الصهيونية وكان أحد زعماء الصهيونية في ألمانيا. وامتد به العمر إلى أن استولى النازيون على السلطة واحتلوا بولندا. فتعاون نوسيج مع الجستابو ووضع مخططاً لإبادة يهود أوربا باعتبارهم عناصر غير نافعة. وقد حاكمه يهود جيتو وارسو وأعدموه. وقد فعل رودولف كاستنر، المسئول الصهيوني في المجر، الشيء نفسه حينما تفاوض مع أيخمان (المسئول النازي) بخصوص تسهيل نَقْل يهود المجر (باعتبارهم عناصر غير نافعة قابلة للترحيل والإبادة) مقابل السماح لبعض الشباب اليهودي بالسفر إلى فلسطين والاستيطان فيها (« شباب من أفضل المواد البيولوجية » على حد قول أيخمان أثناء محاكمته).

وفي الاعتذاريات الصهيونية، قبل 1948، نجد أن الزعماء الصهاينة يصرون على مدى نَفْع القاعدة الصهيونية للمصالح الإمبريالية ومدى رخصها. وقد فعل ذلك كلٌّ من وايزمان وجابوتنسكي في خطاباتهم وخطبهم. وبعد إنشاء الدولة، لا يزال هذا بُعداً أساسياً في الإدراك الإسرائيلي للذات وفي الإستراتيجية الإسرائيلية، إذ تحاول الدولة الصهيونية أن تظل قاعدة يفوق نفعها كل ما تحصل عليه من معونات، وأن يظل دورها عنصراً أساسياً مهماً ونافعاً للغرب.

والتعبيرات المجازية التي تُستخدَم للإشارة إلى الدولة الصهيونية تؤكد كلها كونها أداة نافعة؛ فالدولة هي حصن ضد الهمجية الشرقية (وضد الأصولية الإسلامية في الوقت الحالي)، وهي مؤخراً حاملة طائرات لأمريكا، وهي في كلتا الحالتين ليس لها قيمة ذاتية، وإنما تنبع قيـمتها مما تؤديه من خـدمات وما تجلـبه من منفعة، فالدولة هنا وظيفة ودور وليسـت كياناً مسـتقلاً له حركياته. وهي تسـتمد استمرارها، بل وجودها، من مدى مقدرتها على أداء هذا الدور. ولذا فنحن نشير إلى الدولة الصهيونية باعتبارها دولة مملوكية، علاقتها بالغرب تشبه علاقة المملوك بالسلطان فهي علاقة نفعية محضة، مستمرة طالما استمرت حاجة السلطان إلى الأداء المملوكي، ونحن نشير لها كذلك باعتبارها الدولة الوظيفية، أي الدولة التي تضمن استمرارها وبقاءها من خلال أدائها لوظيفتها. وربما يبيِّن هذا مدى أهمية الانتفاضة التي أثبتت أن الدولة الصهيونية غير قادرة على أداء دورها ووظيفتها كقاعدة إستراتيجية في الشرق الأوسط، وأن نفعها ليس كبيراً، وأن أداءها لوظيفتها أصبح أمراً مُكلِّفاً للغاية.

ومن هنا تحرُّك الدولة الصهيونية السريع لتجد لنفسها وظيفة جديدة، فبدلاً من أن تكون حاملة طائرات أو معسكراً للمماليك، ستصبح « سوبر ماركت » مثل سنغافورة، ومركزاً للسماسرة والصيارفة، وربما ركيزة أساسية لقطاع اللذة (ملاهي ـ كباريهات ـ مصحات ـ سياحة). ومن هنا أهمية توقيع اتفاقية السلام والإصرار على ضرورة رفع المقاطعة العربية، حتى يتسنى للدولة الصهيونية أن تلعب دورها الجديد الذي لا يختلف كثيراً عن بعض الأدوار التي كان يلعبها أعضاء الجماعات الوظيفية اليهودية في الغرب. إن الدولة الصهيونية ستصبح سوبر ماركت، أي فردوساً أرضياً يضم كل السلع التي يحلم بها الإنسان، فيذوب فيها ويفقد حدوده وينسى كل المُنغِّصات، مثل التاريخ، والذاكرة القومية، والهوية، والكرامة، والقيم الأخلاقية.

ومما يجدر ذكره أن سياسة البلاشفة تجاه اليهود لا تخلو من هذا المنظور النفعي. فعندما كان من مصلحة الاتحاد السوفيتي دَمْج اليهود تمـاماً، قررت الدولة السـوفيتية أن هـذا هو الحل الوحيد للمسـألة اليهودية،وذلك باعتبار أنه لا يوجد شعب يهودي.ولكن الاتحاد السوفيتي وجد في الأربعينيات أن من مصلحته الاعتراف بالشعب اليهودي وبدولته اليهودية في فلسطين،على أمل أن تشكل الدولة اليهودية خلية اشتراكية في الوسط العربي الإقطاعي المتخلف فتقوم بتثوير المنطقة،ومن ثم سمح بالهجرة السوفيتية،بل دافع المتحدثون السوفييت عن حقوق الشعب اليهودي بشراسة غير معهودة فيهم. وكان الاتحاد السوفيتي أول دولة اعترفت بشكل قانوني بالدولة الصهيونية وسمحت بهجرة يهود بولندا وغيرهم.وفي الوقت الحالي،يسمح الاتحاد السوفيتي مرة أخرى بهجرة اليهود السوفييت، بعد البريسترويكا،لإرضاء الغرب والحصول على التكنولوجيا المتقدمة والدعم المادي،وربما للتخلُّص من أعضاء الجماعة اليهودية، أي أن السوفييت يدورون في إطار النمط النفعي المادي، خصوصاً أن هذا التخلص يأخذ شكل تصدير السلعة البائرة للشرق.

ساجدة لله
2010-10-26, 06:03 AM
المــادة البشــرية
Human Material
مصطلح «مادة بشرية» يُستخدَم في الأدبيات الصهيونية حتى الوقت الحاضر للإشارة إلى البشر بشكل عام، بما في ذلك أعضاء الجماعات اليهودية. وقد استخدمه هرتزل في كتابه دولة اليهود وفي مذكراته، وكـذا ناحـوم سوكولوف. ولا يزال المصطلح سائداً في إسرائيل. والعبارة تشبه عبارات أخرى مثل «فائض بشري» أو «الفائض اليهودي»، وهي كلها جزء من الخطاب السياسي الغربي العلماني، وتصلح للإشارة إلى الإنسان، لا باعتباره مطلقاً، وإنما باعتباره مادة استعمالية نسبية يمكن توظيفها وحوسلتها. وقد تبنَّى الصهاينة هذا المصطلح، حيث طرحوا المشروع الصهيوني باعتباره مشروعاً يهدف إلى تحويل الفائض البشري اليهودي غير النافع إلى مادة استيطانية نافعة تُوظَّف في خدمة الاستعمار الغربي في أي مكان من العالم (ثم استقر الأمر على فلسطين). وهذا المصطلح متَّسق تماماً مع الرؤية العلمانية للإنسان التي تخلع عنه كل قداسة وتحوسله وتنظر إليه بمقدار نفعه أو ضرره. وهو مصطلح متَّسق تماماً مع الرؤية المعرفية الإمبريالية للعالم الذي تراه كله مسـرحاً لنشـاط الإنسـان الغربي يهيمن عليه ويوظفه لصالحه. والعبارة تصف، وبدقة شديدة، رؤية الإنسان الغربي إلى أعضاء الجماعات اليهودية، حيث كان يُنظَر إليهم ابتداءً من القرن السابع عشر كأداة تُستخدَم ويُحكَم عليها بمقدار نفعها. وقد تبنَّى النازيون المصطلح نفسه بالنسبة إلى الجنس البشري ككل، بما في ذلك أعضاء الجماعات اليهودية.

وفي إسرائيل، أشار أيخمان، في دفاعه عن نفسه، إلى الصفقة التي عقدها الصهاينة مع النازيين، حيث قام الصهاينة بتهدئة اليهود الذين كانوا في طريقهم إلى أفران الغاز في نظير تسليمهم بعض العناصر اليهودية الشابة التي وصفها أيخمان بأنها من أفضل المواد البيولوجية التي يمكن ترحيلها إلى فلسطين. ومصطلح «المادة البشرية» مرتبط، في افتراضاته المعرفية، بمصطلحات أخرى مثل «تحويل اليهود إلى قطاع اقتصادي منتج» و«تطبيع اليهود».

سيمون لوتسـاتو (1583-1663)
Simon Luzzato
حاخام إيطالي، من أهم كتبه مقال عن يهود البندقية (1638) وهو محاولة للدفاع عن اليهود على أساس نفعهم. فهم يضطلعون بوظائف لا يستطيع غيرهم الاضطلاع بها، مثل التجارة، كما يطوِّرون فروعاً مختلفة من الاقتصاد. ولكنهم على عكس التجار الأجانب خاضعون لسلطة الدولة تماماً، ولا يبحثون عن المشاركة فيها، ولا ينقلون أرباحهم خارج البلاد (وهذا وصف دقيق لما نسميه بالجماعة الوظيفية الوسيطة). وقد بيَّن لوتساتو إمكانية زيادة ريع الدولة بتشجيع النشاطات اليهودية، وأشار إلى الفوائد التي جنتها الدولة من علاقتها بهم. وهذه كانت أول مرة تُستخدَم أطروحة نَفْع اليهود التي دافع عنها بعد ذلك جون تولاند في إنجلترا عام 1714، كما دافع عنها مفكرو عصر الاستنارة.

وكان لوتساتو من أوائل المؤلفين الذين قدموا تحليلاً لما يُسمَّى «الشخصية اليهودية»، فوصف اليهود بأنهم جبناء ومخنثون وجهلة لا يمكنهم أن يحكموا أنفسهم، يهتمون بمصالحهم وحسب ولا يهتمون بالصالح العام. وبيَّن لوتساتو أن سلوك اليهود الاقتصادي يُعبِّر عن الطمع والجشع، وأنهم يعيشون أسرى الماضي ولا يهتمون بالحاضر، كما يبالغون في اتباع تعاليم دينهم وشعائره. ولكن اليهود، مع هذا، يتمتعون أيضاً ببعض الصفات الحميدة، مثل الثبات والاحتمال والصمود والحفاظ على العقيدة وعلى نظام الأسرة، وهم مطيعون ويخضعون لأي شخص إلا إخوانهم في الدين. ونقائص اليهود، كما يرى، هي نتيجة الجبن والضعف لا القوة والوحشية. وقد ألَّف لوتساتو كتابه هذا وهو في حالة أزمة، إذ اكتُشف أن بعض العائلات اليهودية التجارية كانت متورطة في عملية غش تجارية على نطاق واسع.

منَسَّـى بــن إســرائيل (1604-1657(
Manasseh Ben Israel
يهـودي من المارانـو، وحاخـام ومؤلف، وُلد في البرتغال وعمل فيها، ثم فر أبواه واستقرا في أمستردام حيث أصبح منَسَّى حاخاماً في أحد المعابد (1622 ـ 1639). أسس أول مطبعة عبرية في أمستردام عام 1626 نشرت عدة كتب من بينها معجم لأحد كتب المدراش وكتاب نحو اللغة العبرية وطبعة لكتاب المشناه. وقد كان منَسَّى نفسه مؤلفاً غزير الإنتاج، وتعرَّف إلى كثير من الشخصيات المهمة في عصره، مثل هيوجو جروتيوس وملكة السويد كريستينا، وكان يعرف كذلك رمبرانت الذي رسم صورته.

ويعد منَسَّى شخصية نماذجية للقيادة الجديدة التي تسلمت زمام الجماعات اليهودية من الحاخامات والتجار الهامشيين. فهو أولاً من يهود المارانو الذين كان تكوينهم الثقافي مُركَّباً، إذ كانوا على معرفة بكلٍّ من الحضارة الغربية المسيحية والتقاليد الدينية اليهودية. وقد انتقل من شبه جزيرة أيبريا إلى أمستردام في هولندا، أي من اقتصاد إقطاعي تقليدي وحضارة كاثوليكية إلى الاقتصاد الجديد والحضارة ذات التوجه البروتستانتي التجاري. وفكَّر منَسَّى في الاستيطان في البرازيل، أي في التحرك مع التشكيل الغربي الاستيطاني. تلقَّى تعليماً حديثاً وتقليدياً وكان يؤمن إيماناً عميقاً بالقبَّالاه، وانشغل بالحسابات القبَّالية لمعرفة موعد وصول الماشيَّح، وتوصل إلى أن ذلك لن يتحقق إلا بعد أن يتم تشتيت اليهود في كل أطراف الأرض. وقد كان هذا المفهوم القبَّالي هو الديباجة التي استخدمها للدفاع عن ضرورة إعادة توطين اليهود في إنجلترا، وذلك في كتابه أمل إسرائيل الذي ترجمه إلى الإنجليزية عام 1650 ولكن إلى جوار الديباجة القبَّالية كانت توجد ديباجة تجارية دنيوية. والواقع أن تداخل الديباجتين الدينية والدنيوية هو إحدى سمات الصهيونية الأساسية. وقد استرعى الكتاب اهتمام كرومويل (حكم في الفترة من 1648 حتى 1668) الذي دعا منَسَّى إلى زيارة إنجلترا لمناقشة الموضوع. وكان منَسَّى على اتصال بجماعات المارانو التي كانت قد استقرت بالفعل في الأراضي البريطانية، وانتهت المفاوضات بالفشل شكلياً. ولكن كرومويل أعطى أمره، مع هذا، للسلطات بالتغاضي عن استقرار اليهود. كما أن كرومويل منح منَسَّى معاشاً سنوياً قدره مائة جنيه.

ويعود اهتمام كرومويل بطلب منَسَّى واليهود عامة إلى عدة أسباب:

1 ـ كان الكسب التجاري هو الحافز الأساسي نحو اتخاذ خطوة توطين اليهود. فالحرب الأهلية التي سبقت العهد البيوريتاني، ألحقت ضرراً بالغاً بمركز إنجلترا كقوة تجارية وبحرية. وحين استقرت المنافسة بين التجار البيوريتان والألمان، أراد التجار الإنجليز الاستفادة من خبرات التجار المارانو واتصالاتهم الدولية، وبخاصة أنهم كانوا يعرفون الإسبانية والبرتغالية لغة الكتلة الكاثوليكية التجارية المعادية للكتلة البروتستانتية الناشئة في هولندا وإنجلترا.

2 ـ كان كرومويل يطمح إلى تحويل أعضاء الجماعات اليهودية إلى جواسيس يزوِّدونه بمعلومات عن السياسات التجارية للدول المنافسة له، وعن المؤامرات التي يديرها أنصار الملكية في الخارج، بفضل اتصالاتهم وتنقلهم في أوربا، في وقت كان فيه الحصول على معلومات أمراً صعباً للغاية.

3 ـ كان كرومويل يطمح أيضاً إلى أن يستثمر التجار اليهود بعض رؤوس أموالهم الضخمة في الاقتصاد الإنجليزي.

ومن أهم مؤلفات منَسَّى الأخرى، كتابه الموفِّق، الذي حاول فيه أن يُوفِّق بين المتناقضات الواضحة في الكتاب المقدَّس، كما ألَّف كتاباً عن هنـود العالم الجـديد يُوضِّح فيه أنهم أسباط يسرائيل العشرة المفقودة. أما كتابه الدفاع عن اليهود (الذي نُشر بعد وفاته عام 1666) فقد بيَّن فيه أن الدين يجب أن يظل مسألة اختيارية، وبالتالي يجب ألا يُسمح للسلطات الدينية بأن تفرض شيئاً على أتباع الدين قسراً. وقد وجد مندلسون أن الكتاب من الأهمية بمكان بحيث طلب إلى أحد أصدقائه ترجمته، وكتب هو مقدمة له. ويُعَدُّ الكتاب، بذلك، من الكتب التي مهدت لحركة التنوير والعلمنة بين اليهود.

ساجدة لله
2010-10-26, 06:03 AM
جـون تولانـد (1670- 1722)
John Toland
مفكر إنجليزي ودبلوماسي وعالم إنجيلي، وُلد ونشأ كاثوليكياً، ولكنه هرب وهو في سن السادسة عشرة ودخل الكنيسة الأنجليكانية. كان نشيطاً للغاية في المناقشات الدينية والسياسية في عصره (في بداية القرن الثامن عشر). كما كان من أوائل المفكرين الذين اتخذوا موقفاً عقلانياً من الدين، ومن المدافعين عن فلسفة الربوبية، أي عن الإيمان بالرب دون حاجة إلى دين أو وحي إلهي، وهي أولى حلقات علمنة العقل الغربي. وفلسفته، في جوهرها، فلسفة حلولية. ورغم تأثره بالفلسفة التجريبية الإنجليزية (لوك)، إلا أنه ظل عقلانياً على نمط برونو (ترجم بعض أعماله) وديكارت وإسبينوزا (كتب تعليقات على أعماله) ولايبنتس (تعرَّف إليه وتراسلا بعض الوقت)، وسواء أكان تجريبياً أم عقلانياً، فإن تولاند كان حلولياً. ويُقال إنه هو الذي نحت كلمة «بانثيزم pantheism» الإنجليزية.

نشر تولاند عام 1696 كتابه المسيحية لا تحتوي على أية أسرار حيث يذهب فيه إلى أن المسيحية ديانة عقلية يستطيع العقل البشري أن يدركها دون حاجة إلى وحي إلهي، وهذه هي الربوبية. وقد اتُّهم الكتاب بمعاداة عقيدة التثليث وأثار ضجة في حينه ظهرت في عدد الردود عليه التي زادت عن الخمسين. وفي عام 1698، كتب تولاند حياة ملتون التي يثير فيها قضايا تتصل بالعهد الجديد (وهل نصه محرف أو لا؟). وفي العام الذي يليه، نشر كتاب أمينتورا أو الدفاع عن حياة ملتون (1699) طوَّر فيه أطروحته السابقة. ويمكننا رؤية تَصاعُد معدلات العلمنة في كتابه المنشور عام 1720 بعنوان تيترا ديموس الذي يتضمن مقالاً يُقدِّم تفسيرات علمية طبيعية للمعجزات التي وردت في العهد القديم.

وقد كان تولاند يعرف اللغة السلتية، فدرس العقائد الدينية البدائية في إنجلترا، كما قام بدراسة العقيدة اليهودية في مراحلها الأولى. واستناداً إلى هذا، ألَّف كتابه خطابات لسيرينا عن أصل الأديان، وحاول أن يُبيِّن فيه (على طريقة الربوبيين) أن الكهنة (القساوسة) هم الذين أفسـدوا الدين وتاريخ خلـود الروح بين الوثنيين وأصـل عبادة الأوثان.

وقد بدأ تولاند يتجه نحو الدعوة لما يُسمَّى «الدين الطبيعي» ويُفسِّر معجزات العهد القديم تفسيراً طبيعياً مادياً. وتعمَّقت اتجاهات المادية الواحدية لديه، فترجم أحد أعمال جيوردانو برونو عام 1514 عن العالم اللامتناهي والعوالم اللانهائية. وآخر كتب تولاند هو الحلولية (1720) وهو كتاب غامض يضم شرحاً لفلسفة الحلولية ولبعض الأناشيد الغنوصية التي تسخر من العقيدة المسيحية ومحاولة لتقديم عقائد الحركة الماسونية ودفاع عن الإلحاد.

ولا تنبع أهمية تولاند من كتاباته الحلولية وشبه الوثنية وحسب، وإنما من كتاباته الصهيونية أيضاً، فقد نشر عام 1714 كتاباً يُسمَّى الأسباب الداعية لمنح الجنسية البريطانية لليهود الموجودين في بريطانيا العظمى وأيرلندا. ويطالب الكتاب بمنح الجنسية البريطانية لليهود حتى يتم اجتذاب المزيد منهم ليستوطنوا في إنجلترا كعناصر نافعة. وبعد أربعة أعوام، نشر تولاند كتاباً آخر بعنوان نازارينوس عن الإبيونيين يضم ملحقاً يحتوي على أفكار صهيونية، فرؤية تولاند رؤية حلولية كمونية مادية تُهمِّش الإله أو تلغيه وتضع الإنسان في مركز الكون، ولذا فإن العالم بأسره يصبح بالنسبة له مادة نافعة استعمالية يمكن توظيفها. ولكن الإنسان هنا هو كائن لا حدود له ولا قيود عليه، هو مرجعية ذاته. ولذا، يتحول التمركز الإنساني الهيوماني حول الإنسان إلى تمركز عرْقي مادي حول الإنسان الغربي. وحينما يُطبِّق تولاند هذا على الآخر (اليهود)، فإنه يرفضـهم تماماً ويُعبِّر عن احـتقاره العـميق لهـــم ولتراثهم التلمودي، الذي يرى أنه لا جدوى من ورائه ويؤدي إلى تشوه ما يسميه «الشخصية اليهودية».

وكحل للمسألة اليهودية، يطرح تولاند حلاًّ علمانياً إمبريالياً، فهو ينظر لليهود باعتبارهم مادة نافعة أو على الأقل مادة يمكن إصلاحها لتصبح نافعة، وهنا تظهر الصهيونية كتطبيق عملي للرؤية المعرفية العلمانية الإمبريالية، إذ يقترح تولاند أن تقوم القوى العالمية (أي الغربية) بمساعدة اليهود على استرجاع أرضهم.

ويمكن أن نرى في كتابات تولاند كل عناصر المُركَّب الإدراكي الغربي الحديث للعالم ولليهود (مقابل المركب القديم الوسيط) وهي رؤية تدور في إطار رؤية حلولية كمونية.


إسحق دي بنتو (1715-1787)
Isaac De Pinto
أحد أثرياء اليهود، وأحد أكبر المساهمين في شركة الهند الشرقية الهولندية. من أصل ماراني برتغالي، وُلد في هولندا واستقر بين باريس ولندن ابتداءً من عام 1751. له مؤلفات فلسفية عن المادية، ودراسات عن البورصة والترف والثورة الأمريكية. وقد عارض الثورة الأمريكية، وعبَّر عن تأييده للحقوق الاقتصادية للدول المستعمرة. نشر دي بنتو دراسة عن الدورة المالية والائتمان بدأ كتابتها أثناء إقامته في باريس عام 1761، وهي محاولة للرد على نظرية الفيزيوقراط حيث يذهبون إلى أن الزراعة (ومن ثم الأرض) هي المصدر الأساسي لثروة الأمم وليس الصناعة. ودافع عن الائتمان ودورة رأس المال باعتبارهما الأشكال الأساسية في الاقتصاد مقابل ما سماه «جنون الأرض». ورغم أن هذه قضية اقتصادية عامة شغلت المفكرين السياسيين والاقتصاديين في القرن الثامن عشر، إلا أنها ارتبطت بشكل مباشر بالجماعـة اليهـودية التي لم تكن ممثَّلة على الإطلاق في الاقتصاد الزراعي، بل كانت مرتبطة تماماً بالاقتصاد التجاري الصناعي. وقد بيَّن دي بنتو أن الاقتصاد الثابت (الزراعي) يُجمِّد المجتمع بأسره مع أن حركية النشاط التجاري (العناصر الخارجية) يمكن أن تحقق حراكاً اجتماعياً. ولم يذكر دي بنتو اليهود مباشرة إلا في آخر الكتاب، حيث بيَّن أن العهد القديم لا يعارض الإقراض بالربا.

وفي الفترة ذاتها،وإبان إقامته في باريس،نشر فولتير ملحوظاته السلبية عن اليهود، فكتب دي بنتو خطاباً مفتوحاً له عام 1762 بعنوان دفاع الأمة اليهودية: تأملات نقدية.وجاءت في الكتاب أطروحة شديدة الأهمية،وهي أن الجماعات اليهودية في العالم اكتسبت خصائصها الحضارية من المجتمعات التي تعيش فيها،وأنها، لذلك، لا علاقة للواحدة منها بالأخرى. وقد وظَّف هذه الأطروحة في الدفاع عن السفارد البرتغاليين، إذ بيَّن أنهم لا علاقة لهم باليهود الإشكناز، وأنهم (السفارد) لا يختلفون عن شعوب أوربا المستنيرة إلا في العقيدة، بل يتنافسون معهم « في الأناقة والذوق ». ولأن السفارد من نسـل أنبل عائلات قبيلة يهودا وعاشـوا في إسـبانيا منذ السبي البابلي، فليس لهم أدنى علاقة عرْقية أو ثقافية بالإشكناز،بل إن السفارد يرفضون التزاوج أو الاتجار معهم.وبيَّن دي بنتو أنه يوافق فولتير على ما جاء في مقاله بشأن اليهود الإشكناز. غير أنه ينسب اضطلاعهم بوظائف وضيعة غير شريفة، مثل الربا،إلى معاناتهم وعذابهم والإذلال الذي تعرَّضوا ومازالوا يتعرَّضون له.وبهذا، فإن فكر بنتو يعتبر ثمرة من ثمرات عصر الاستنارة الذي يحاول تفسير تدهور أحوال اليهود على أساس تدهور أوضاعهم.

وكذلك، فإن دي بنتو قام بتأييد يعقوب رود ريجيز (1715 ـ 1780) حين تقدَّم بالتماس في عام 1760 إلى لويس الخامس عشر يطلب فيه ضرورة طرد اليهود الألمان (الإشكناز) ويهود أفينيون النازحين من الولايات البابوية. وقد وافقته الحكومة الفرنسية على طلبه الذي نُفِّذ في العام التالي.

ساجدة لله
2010-10-26, 06:03 AM
آرون إيزاك (1730 – 1816)
Aron Isak
مؤسس الجماعة اليهودية في السويد وأول يهودي يُسمَح له بالإقامة فيها بصفة دائمة. وُلد في ألمانيا، واشتغل بائعاً متجولاً، ثم تعلَّم حفر الأختام ليصبح ماهراً ومتميِّزاً في هذه الحرفة. وخلال حرب السنوات السبع (1756 ـ 1763)، كانت له تعاملات مع الجيش السويدي حيث تعرَّف إلى كثير من ضباطه الذين شجعوه بعد انتهاء الحرب على الهجرة إلى السويد نظراً لعدم وجود أحد يحترف مهنة حفر الأختام بها (أي أن دعوته ليستوطن في السويد تمت باعتباره صاحــب كفــاءة غير متوافرة في المجتمع المضـيف). وبالفعل، وصل إلى السويد عام 1774 ولكنه وجد أن إقامة اليهود بها ممنوعة وفقاً للقانون وتحت تأثير المؤسسة الدينية البروتستانتية اللوثرية، التي كانت تشترط على أي مهاجر لا يعتنق المذهب اللوثري أن يُغيِّر دينه. ورفض إيزاك اعتناق المسيحية ودخل مفاوضات طويلة مع الحكومة السويدية حتى يُسمَح له ولغيره من اليهود بالاستقرار في السـويد وممارسـة شـعائرهم الدينية بشكل شرعي. ولم تكن الحكومة السويدية (وعلى رأسها الملك) تعارض استقرار إيزاك أو غيره من اليهود في السويد. ومن المؤكد أنها كانت على يقين من نَفْع اليهود والفائدة التي يمكن أن تجنيها من وراء استيطان أعضاء الجماعات اليهودية بها باعتبارهم جماعة وظيفية تُحوسَـل لصالح الطبقة الحاكمة والملك بسبب نفعها لهم. ولذلك فقد خططت الحكومة لفتح باب الهجرة أمامهم، ولكن مساعيها في هذا المجال قُوبلَت بالرفض والمقاومة من كلٍّ من المؤسسة الدينية وأعضاء الطبقة المتوسطة والجماهير الشعبية.

ولابد أن أعضاء الطبقة البورجوازية الناهضة في السويد كانوا على علم بدور يهود الأرندا في بولندا، التي كانت على علاقة وثيقة بالسويد والتي احتلت السويد أجزاء منها بعض الوقت، ذلك أن طبقة النبلاء من الشلاختا استخدمت يهود الأرندا في ضرب البورجوازية البولندية وإحباط كل جهودها في تحقيق شيء من التراكم الرأسمالي والمشاركة في السلطة. ولذا، فإننا نجد أن معارضة استقرار أعضاء الجماعات اليهودية لم تكن مقصورة على المؤسسة الدينية، فقد قادها أعضاء البورجوازية في السويد، وبخاصة تلك القطاعات التي كانت ستُضار بشكل مباشر من استقرار اليهود، مثل فئة الصياغ وتجار الجواهر المسيحيين، بل انضم للمعارضة بعض اليهود المتنصرين (ربما بسبب تخوفهم مما قد تشكله هجرة أعضاء الجماعة اليهودية على نطاق واسع من منافسة لهم، ومن تهديد لمكانتهم الاجتماعية).

وبدأت عملية توطين اليهود في السويد بفتح باب الهجرة أمامهم عام 1745، فوقفت المؤسسة الدينية والبورجوازية ضد هذا الإجراء. ولكن عمدة إستكهولم شجع آرون إيزاك على البقاء في السويد بعد أن رُفـض طلـبه أول مرة، أرشده إلى الإجراءات اللازمة لتقديم التماس للمـلك، وقد قُبل هذا الالتماس وسُمح لإيزاك بالإقامة هو وشقيقه وشريكه وأسرهم، كما سمحت السويد عام 1779 بحرية العبادة الدينية.

وتدعَّم وضع إيزاك بالتدريج، وبخاصة بعد أن قدم للملك السويدي خدمات مهمة خلال حربه ضد روسيا (1788 ـ 1789)، واستقر وضع الجماعة اليهودية كما تزايد عدد أفرادها، وترأسها إيزاك بعد أن استقر في إستكهولم حتى وفاته. وفي عام 1804، انتهى إيزاك من كتابة مذكراته التي دبجها باليديشية.

حاييـم سالومون (1740-1785)
Haym Salomon
تاجر ومالي أمريكي يهودي، وأحد الشخصيات البارزة في حرب الاستقلال الأمريكية. وُلد في بولندا ثم هاجر إلى الولايات المتحدة عام 1775 حيث عمل في عدة مهام من تلك التي كان يضطلع بها أعضاء الجماعات اليهودية (السمسرة ـ العمل كمتعهد عسكري ـ التجسس ـ الترجمة)، وهو ما يُبيِّن تأثير الموروث الاقتصادي فيه. فافتتح أولاً مكتباً للسمسرة والتجارة بالعمولة في نيويورك، واستطاع بفضل درايته الواسعة باللغات وخبرته المالية وعلاقته الوثيقة بالعديد من الشخصيات المالية والتجارية الأوربية أن يتقدم سريعاً في وطنه الجديد. ثم عمل عام 1776 متعهد تموين للجيش الأمريكي. وبعد احتلال البريطانيين لمدينة نيويورك، سُجن بتهمة التجسس، ثم أُفرج عنه وعُيِّن مترجماً في قسم التموين في الجيش البريطاني. كذلك نجح سالومون في إدارة تجارة مربحة للتموين في نيويورك في ظل الوجود البريطاني. ولكنه قام في الوقت نفسه بتقديم المعلومات للجانب الأمريكي والمساعدة في تهريب السجناء الأمريكيين والفرنسيين، وهو ما اضطره إلى الفرار إلى فيلادلفيا عام 1778 عقب افتضاح أمره. وفي فيلادلفيا أسس مكتباً جديداً للسمسرة في الأوراق المالية والتجارية وقدم خدماته المالية للجيش الفرنسي المتمركز في الولايات المتحدة الأمريكية، حيث كان يعمل سمساراً ومديراً لماليته. وفي عام 1781، اختير سالومون ليصبح مساعداً لروبرت موريـس رئيس مكتب المالية (وقد وصفـه موريـس بأنه "نافع للصالح العام"). وقد أشرف سالومون على أغلب المعاملات المالية المهمة للدولة الأمريكية الجديدة، كما قام بتدبير قروض بلا فائدة لعدد كبير من الشـخصيات الأمريكية المهمة (من بينهم بعض الرؤسـاء اللاحقين). وفي عام 1784، وسَّع نطاق أعماله فافتتح في نيويورك بيتاً للسمسرة والبيع بالمزاد، كما ساهم في تأسيس أول معبد يهودي في فيلادلفيا، وعمل من أجل إقرار حقوق اليهود السياسية، وكان عضواً نشيطاً في الحركة الماسونية. وقد تبيَّن بعد وفاته أنه مات مفلساً.

كريســـتيان دوم (1751-1820(
Christian Dohm
كاتب ومؤرخ ألماني وأحد المدافعين عن إعتاق اليهود وإصلاحهم ودمجهم. درس اللاهوت وانخرط في سلك الحكومة الروسية، وكان يعمل مشرفاً على الأرشيف الملكي حيث قابل موسى مندلسون ونشأت بينهما صداقة. وقد ألَّف كتابه بخصوص إصلاح مكانة اليهود المدنية عام 1781 بناءً على طلب أحد أصدقائه لمناقشة أحوال يهود الألزاس واللورين والدفاع عنهم. وقد طرح دوم فكره منطلقاً من فكرة المنفعة ونفع اليهود، ومن فكر آدم سميث، وكذلك من فكرة القانون الطبيعي وتطبيقها في عالم الاقتصاد. ويعني هذا أنه انطلق من الإيمان بضرورة علمنة القطاع الاقتصادي علمنة تامة وتجريده من أية خصوصية قومية أو أخلاقية، بحيث يصبح الهدف الأوحد هو إنتاج الثروة وتعظيمها بكل السـبل المتاحة. ولتحقـيق هذا، لابد من تجنـيد أكبر عدد ممكن من البشر، فكلما زاد عدد المنتجين زاد النفع ومن ثم زاد الرخاء. وقد أشار دوم إلى الولايات المتحدة (التجربة العلمانية الشاملة الكبرى) باعتبارها مثالاً على دولة نجحت في تجربتها الاقتصادية بسبب عدم التفرقة بين الناس، فهم بالنسبة إليها مادة بشرية منتجة، وأعطتهم جميعهم حقوقهم المدنية حتى يصبحوا نافعين منتجين. وانطلاقاً من هذا المفهوم الليبرالي العلماني، بدأ دوم في النظر إلى المسألة اليهودية مشيراً إلى أن شخصية اليهود الشريرة، ووضعهم المتدني في المجتمع، وضعف خدماتهم للاقتـصاد القومي، ليـست نابعة منهم هم أنفـسهم ولا من دينهم. وقد لاحظ دوم أن العقيدة اليهودية تشجِّع اليهود على ضيق الأفق، وأنهم يتسمون بالمبالغة في البحث عن الربح بأية طريقة وبحب الربا، وهي عيوب ساعدت على تفاقمها العزلة التي يضربونها على أنفسهم بسبب مبادئهم الدينية وسفسطتهم الحاخامية. وأضاف أن الجرائم التي يرتكبها اليهود، مثل خرق قوانين الدولة التي تحدُّ من التجارة واستيراد وتصدير السلع الممنوعة وتزييف النقود والمعادن الثمينة، هي نتيجة طبيعية وحتمية لعيوب الشخصية اليهودية. ولكنه يُلاحظ أن اليهود يتَّسمون أيضاً بالحكمة والعقل الثاقب، وهم مجدُّون ومثابرون ويمكنهم أن يشقُّوا طريقهم في أي موقف. ولنلاحظ أن الصفات الحميدة التي يكتشفها في اليهود هي ما يمكن أن نصنفه باعتباره صفات إجرائية (أو علمانية) لا علاقة لها بالأخلاق، فهم مادة بشرية جيدة.

ماذا حدث إذن لليهود حتى تشوَّهت شخصيتهم على هذا النحو؟ يرى دوم أن عوامل مختلفة مثل التعصب المسيحي، وموقف الدولة منهم منذ سقوط الإمبراطورية الرومانية، ومنعهم من الاشتغال بالزراعة، ولَّدت الشكّ في نفوسهم تجاه المسيحية والدولة القومية، فاهتموا بمصالحهم الاقتصادية دون مصالح الدولة، واشتغلوا بالتجارة اليهودية الصغيرة وحدها، وانهارت شخصيتهم، وازدادوا تمسكاً بديانتهم المفعمة بكره المسيحيين.

ويرى دوم أن اليهود من الممكن أن يصبحوا مواطنين يدينون بالولاء لوطنهم إذا أُلغيَت التفرقة ضدهم واضطهادهم، وإذا تم تلقينهم القيم العلمانية الجديدة التي تضمن الولاء للدولة (المطلق الجديد). ثم يقترح استصدار عدة تشريعات تهدف إلى تحسين وضع اليهود، ومن ثم إصلاح شخصيتهم، فاقترح أن يحصل اليهود على حقوقهم المدنية كاملةً، وإلغاء القيود المفروضة على حركتهم الاقتصادية، وأن يتم تشجيعهم على الاشتراك في الثقافة السائدة (أي أن يتخلوا عن ثقافتهم اليديشية) وإتاحة فرص التعليم العلماني أمامهم. كما ذهب دوم إلى ضرورة الإشراف على مدارس اليهود لاستبعاد العناصر غير الاجتماعية في ثقافتهم التي تشجِّع عداءهم للأغيار. ونادى بضرورة أن يتم تشجيعهم على الاشتغال بالحرف اليدوية، وأن يتعلموا العلوم والفنون كافة، وأن يتعلموا احترام الدول واحترام كل واجباتهم تجاهها. كما طالب دوم بمنحهم حرية العبادة، وبناء المعابد، وحرية الالتحاق بالمدارس المسيحية أيضاً. فاليهود بهذه الطريقة يمكن أن يصبحوا نافعين بالنسبة إلى دولة تريد أن تزيد من عدد سكانها وقوتها الإنتاجية. واليهود على كل حال مفضلون عن أي مستوطنين جدد لأنهم ذوو جذور في البلاد التي يقطنونها أكثر من الأجنبي الذي عاش في البلد بعض الوقت. وقد لاحظ دوم أنه قد بدأ يظهر رعيل جديد من المثقفين اليهود من دعاة التنوير يتبنون هذه الأفكار المستنيرة.

ومـع هـذا، طالب دوم بأن يُعتَق اليهــود لا باعتبـارهم أفـراداً، وإنما باعتبارهم مجموعة عضوية متماسكة، وأن يظلوا جماعة قومية دينية تبقى داخل الجيتو لها مؤسسات الإدارة الذاتية الخاصة بها، وألا يشـغلوا وظائـف عامـة مهمَّة حتى لا يثيروا حفيظة المواطنين المسيحيين. ومعنى هذا أن دوم كان يود تحويل اليهـود إلى مادة نافعة متماسكة تعيش في وسط المجتمع الألماني فيمكنه الاستفادة منها، على ألا تصـبح جــزءاً منه، وأن يظل اليهـود في المجتمع دون أن يكونوا منه. وهذه هي بقايا رؤية اليهود كشعب شاهــد أو أداة للخــلاص أو جمــاعة وظيفــية. وهي الرؤية الصهيونية لليهود ولإسرائيل في الشرق العربي، وهي أيضاً الرؤية النازية لأعضاء الجمـاعة اليهـودية. وانطــلاقاً من هـذا، تم تأسيس معســكرات الاعتـقال النازيـة وجيتو وارسـو النازي. وغني عن القول أن الفيلسوف مندلسون عارض هذا الجانب من المشروع.

ساجدة لله
2010-10-26, 06:03 AM
نابليــــون بونابــرت (1769-1821)
Napoleon Bonaparte
إمبراطور فرنسا في الفترة بين 1804 ـ 1814، وهو يُعَدُّ من أهم القادة العسكريين في التاريخ ويتمتع بمقدرات إدارية. وُلد نابليون في جزيرة كورسيكا وتولى قيادة الجيش الجمهوري أثناء حروب الثورة الفرنسية، وأحرز نجاحاً كبيراً في حملته على إيطاليا (1796 ـ 1797 ) ، ولكن حملته على مصر (1798 ـ 1799) أخفقت تماماً. وعاد إلى فرنسا والحكومة الثورية على وشك الانهيار، فقام بانقلاب عسكري واستولى على الحكم وقاد حروب فرنسا «الثورية». ثم أدخل إصلاحات على النظام التعليمي وفي مجال القانون ونظَّم العلاقة مع الكنيسة (1801)، ثم أصبح إمبراطوراً عام 1804، وبدأ في تكوين أرستقراطية جديدة وبلاط ملكي. وقد امتدت رقعة الإمبراطورية الفرنسية في عهده لتضم كل أوربا تقريباً. وساهم في تحديث أوربا ومؤسساتها السياسية والإدارية من خلال غزواته. ولكن شوكة نابليون انكسرت حينما حاول غزو روسيا، وانتهى الأمر بأن هُزم تماماً ونُفي إلى جزيرة إلبا (1814) ثم إلى سانت هيلينا (1815).

وتأخذ علاقة نابليون بالجماعات اليهودية ثلاثة أشكال، تستند في معظمها إلى مبدأ نَفْع اليهود:

1 ـ كانت جيوش فرنسا تكتسح النظم الإقطاعية في طريقها وتنصب نظماً أكثر ليبرالية. وقد وصلت هذه الجيوش حتى بولندا، حيث كانت توجد الكثافة السكانية اليهودية. وأينما حلَّت هذه الجيوش، كانت تقوم بإعتـاق أعضـاء الجماعات اليهودية ووضْع أسـس تحديث هوياتهم المختلفة. ورغم هزيمة جيوش فرنسا ونابليون، فإن العملية التاريخية التي بدأتها هذه الجيوش كان لها أعمق الأثر في أعضاء الجماعات اليهودية. ومع هذا، لابد من الإشارة إلى أن نابليون قام بتجنيد بعض أعضاء الجماعة اليهودية في روسيا واستغلهم كطابور خامس خلال حربه مع روسيا، أي أنه حولهم إلى جماعة وظيفية جاسوسية (لكن غالبية يهود روسيا الساحقة وقفت ضد نابليون وساعدت الحكومة القيصرية).

2 ـ كان لعلاقة نابليون بأعضاء الجماعات اليهودية في فرنسا أعمق الأثر فيهم. فبعد اندلاع الثورة وإعتاق اليهود في فرنسا، انتشر يهود الألزاس (الإشكناز) الذين كانوا متخلفين حضارياً ويعملون أساساً بالتجارة والأعمال الطفيلية كما كانوا يعملون بالربا، وهو ما أدَّى إلى ظهور مشكلة بينهم وبين فلاحي الألزاس. وقد نشأت مسألة يهودية إشكنازية في فرنسا لم يكن السفارد طرفاً فيها، فأبدى الإمبراطور اهتماماً بالقضية (عام 1806 ) دعا مجلس وجهاء اليهود في باريس، وجمَّد بشكل مؤقت الديون التي اقترضها الفلاحون من المرابين اليهود. وقام الوجهاء بمناقشة القضايا التي قدمتها لهم السلطات مثل: عادات الزواج بين اليهود، والأعمال التي يقومون بها، وواجبهم تجاه الدولة، ومدى إحساسهم بالولاء تجاهها والانتماء إليها. ووافق المجتمعون على أن ولاءهم يتجه إلى الدولة الفرنسية أساساً، وأن اليهود يشكِّلون جماعة دينية، لا جماعة قومية أو إثنية أو عرْقية. ثم دعا نابليون عام 1807 لعقد السنهدرين الأكبر، وأسَّس إدارة يهودية مركزية تعمل من خلال مجالس مختلفة هي المجالس الكنسية. ولا يزال هذا النمط هو المعمول به في فرنسا بل طُبِّق أيضاً في الجزائر. ثم أصدر نابليون قرارات تحد من النشاط التجاري والمالي لليهود؛ ليتحوَّلوا إلى عناصر نافعة في المجتمع مندمجة فيه، كما أصدر قرارات تشجعهم على الاشتغال بالزراعة والصناعة لدمجهم في المجتمع الفرنسي.

3 ـ قام نابليون بأولى حملات الثورة الفرنسية الاستعمارية في الشرق، فاحتل مصر عام 1798. وكانت حكومة الإدارة الفرنسية قد أعدت خطة لإقامة كومنولث يهودي في فلسطين، وذلك مقابل تقديم المموِّلين اليهود قروضاً مالية للحكومة الفرنسية التي كانت تمر آنذاك بضائقة مالية. وكان المفروض أن يموِّل اليهود الحملة المتجهة صوب الشرق، وأن يتعهدوا ببث الفوضى وإشعال الفتنة وإحلال الأزمات في المناطق التي سيرتادها الجيش الفرنسي لتسهيل أمر احتلالها. ويبدو أن نابليون كان مطلعاً على الخطة. ولذا، فقد أصدر، بمجرد وصوله إلى مصر، بياناً يحث فيه اليهود على الالتفاف حول رايته لإعادة مجدهم الغابر ولإعادة بناء مملكة القدس القديمة، أي أن نابليون أصدر أول وعد بلفوري في تاريخ أوربا.

وكانت أهداف نابليون مركبة:

1 ـ كان نابليون يحذو حذو مؤسسي الإمبراطوريات الذين كانوا يهتمون بفلسطين لأهميتها الإستراتيجية، ولذا كانوا يحاولون غَرْس عنصر سكاني موال لهم. ويبدو أن نابليون وجد في يهود الشرق ضالته، حيث يمكن تحويلهم إلى مادة استيطانية تدور في مدار المصالح الفرنسية وتكون عوناً له في دعم نفوذه وتثبيت سلطانه. واليهود إن وُطِّنوا في فلسطين فإنهم سيكونون بمثابة حاجز مادي بشري يفصل ما بين مصر وسوريا، ويدعِّم الاحتلال الفرنسي، ويهدِّد المصالح البريطانية من خلال إغلاق طرق مواصلاتها إلى الهند. ويبدو أن نابليون كان يحاول كسب رضا وتأييد حاييم فارحي، اليهودي الذي كان يتمتع بنفوذ مالي في عكا ويتولى مسئولية تزويدها بالمؤن الغذائية. وأخيراً، فإن نابليون كان يهمه كسب ثقة يهود فرنسا ودعمهم المالي في صراعه الذي بات وشيك الوقوع مع حكومة الإدارة.

2 ـ ولكن، مهما كانت الدوافع، فإن نابليون كان من نتاج عصر الاستنارة، وكان نفعياً لا يؤمن بأية عقيدة دينية، ولذا فإنه لم يكن ليتوانى عن استغلال الدين أو أية عقيدة أخرى. وعلى هذا، فإنه، في ندائه إلى يهود العالم، يتحدث عن حقوقهم التي وردت في العهد القديم وعن احترام الأنبياء (وهو لا يؤمن بأيٍّ منهم). وحينما يصل إلى مصر، فإنه يتحدث عن الإسلام بإجلال شديد ويعلن أنه لم يأت إلى ديار المسلمين إلا للدفاع عن الإسلام ولحمايتهم من الظلم.

ومما يجدر ملاحظته أنه، على الرغم من أن سياسة نابليون بالنسبة ليهود فرنسا كانت ترمي إلى تحويلهم من جماعة وظيفية وسيطة لها سماتها وخصوصيتها إلى جزء من التشكيل الطبقي والحضاري الفرنسي، لا خصوصية له بل مندمج تماماً في محيطه، فإن سياسته في الشرق كانت تقف على الطرف النقيض من ذلك، فقد كانت ترمي إلى تأكيد خصوصية اليهود باعتبارهم شعباً عضوياً، إذ أن هذه الخصوصية هي مصدر عزلتهم، وعزلتهم هي التي ستجعل بالإمكان تحويلهم إلى جماعة وظيفية قتالية استيطانية تُوطَّن في فلسطين لتقوم على خدمة الاستعمار الفرنسي والغربي.

ويُلاحَظ أن المسألة الشرقية، أي ضعف الدولة العثمانية والميراث الذي ستتركه بعد موتها، قد بدأت تلتقي بالمسألة اليهودية. وتتبدَّى عبقرية نابليون في أنه قرر توظيف المسألة اليهودية والجماعات اليهودية في حل المسألة الشرقية حلاًّ يتناسب مع مصالحه.

والنمط الكامن في تفكير نابليون هو أيضاً النمط الكامن في النظرية الاستعمارية الغربية تجاه الشرق وتجاه أعضاء الجماعات اليهودية، وقد تبدى هذا النمط في وعد بلفور في بداية الأمر، ثم وصل ذروته مع توقيع الاتفاق الإسـتراتيجي بين إسـرائيل والولايات المتحـدة عام 1982.

تحويل اليهود إلى قطاع اقتصادي منتج
Productivization of the Jews
«تحويل اليهود إلى قطاع اقتصادي منتج» عبارة إصطلاحية تُستخدَم للإشارة إلى المحاولات التي قامت بها حكومات فرنسا وروسيا وبولندا، وبعض حكومات وسط أوربا، مثل النمسا، لتحويل اليهود عن الاشتغال بالتجارة البدائية والربا وبعض الحرف الأخرى التي كانوا يقومون بها كجماعة وظيفية وسيطة، وتشجيعهم على الاشتغال بالزراعة والحرف والوظائف الأخرى. وقد نجحت المحاولة في فرنسا، ولكنها تعثَّرت في جاليشيا وروسيا وغيرهما من المناطق، وهو ما اضطر الحكومة الروسية، على سبيل المثال، إلى إصدار قوانين مايو1881. ونحن نفضل استخدام مصطلح «تحديث اليهود» فهو أكثر عمومية وحياداً، ولا يحمل أية تضمينات قدحية، وخصوصاً أن اليهود لم يكونوا قط غير منتجين في المجتمعـات الزراعية التقليدية، وإنما أصبـحوا كذلك نتيجة تطور المجتمع. كما أن المصطلح يؤكد العلاقة بين التحولات الاجتماعية والاقتصادية التي خاضتها الجماعات اليهودية في شرق أوربا والتحولات الاجتماعية المماثلة التي مرت بها الأقليات الاقتصادية والإثنية التي تلعب دور الجماعة الوظيفية الوسيطة في مجتمعات أخرى، كالصينيين في شرق آسيا.

وقد دخل المصطلح في الأدبيات الصهيونية العمالية التي تنطلق من الإيمـان بهامشـية وطفيلية يهود المنفى والشـتات وتنـادي بضرورة تطبيعهم.