المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : اللائكية في ميزان العقل والنقل



الصفحات : [1] 2

الهزبر
2011-03-21, 01:36 PM
السلام عليكم

http://www.azeytouna.net/images/titles-inside-dialogue.gif http://www.azeytouna.net/images/line-dots.gif

اللائكية في ميزان العقل والنقل (1)

الكاتب: ياسين بن علي

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه

لم يقع التنصيص في الدستور التونسي على لائكية الدولة، ومع ذلك فإنّ الدولة التونسية دولة لائكية عمليا بمعنى أنها تمارس فصل الدين عن الدولة، وتمنع الخلط بين السياسة والدين، وإن لم تنصّ على ذلك في دستورها. وأما ما ورد في الفصل الأول من الدستور (ضمن الأحكام العامة): "تونس دولة حرة، مستقلة، ذات سيادة، الإسلام دينها، والعربية لغتها، والجمهورية نظامها"، فينقضه ما ورد بعده من أحكام، ومنه ما ورد في الفصل الثامن حيث منع قيام الأحزاب على أساس ديني: "ولا يجوز لأي حزب أن يستند أساسا في مستوى مبادئه أو أهدافه أو نشاطه أو برامجه على دين أو لغة أو عنصر أو جنس أو جهة". فإذا كان الإسلام دين الدولة بنص الدستور، فكيف يمنع حزب من جعل الإسلام مبدأه الذي يقوم عليه، وهدفه الذي يسعى إلى تحقيقه وتطبيقه، وكيف يمنع حزب من استقاء برامجه منه؟
إذا حكمنا على هذا الواقع الدستوري من منظور عقلي منطقي، قلنا: إنه تناقض، ولكن إذا حكمنا عليه من منظور سياسي تاريخي، قلنا: إنه دهاء بورقيبي.
فقد كان بورقيبة رجل دولة يتمتع بدهاء سياسي وحنكة دبلوماسية، وهي صفات انعكست على سلوكه السياسي وإدارته لشؤون الدولة؛ لذلك استطاع أن يسكت كل صوت شكّك في ولائه للإسلام بجملة هي: "الإسلام دينها". ففتح لهم بهذه الجملة أبواب الأمل نظريا، وأغلقه في وجوهم عمليا، واستبدّ بالسلطة ليقنّن من القوانين ما يزيح الإسلام عن الحياة والمجتمع والدولة بكيفية ذكية تقوم على المرحلية تحت غطاء التحديث والعصرنة. ثمّ جاء بن علي رجل الاستخبارات من بعده، فسار على خطاه، ولكن بكيفية تتفّق مع ملامح شخصياته، فأعلن في خطاب أمام مجلس النواب (سنة 1989م): "نقول للذين يخلطون بين الدين والسياسة, إنه لا مجال لحزب ديني"، وهكذا شهدت تونس سنوات من القمع والاضطهاد، وأصبح همّ الدولة تجفيف منابع الدين الذي تزعم أنه دينها وأنها حاميته.
لم تكن سياسة تجفيف منابع الدين هذه، إلا سياسة تطبيق اللائكية عمليا بالحديد والنار؛ إذ سعى بن علي، مستعينا بالتيار الماركسي الكافر والتيار اللائكي الملحد، إلى القضاء على كلّ مظاهر الدين في المجتمع: في السياسة والاقتصاد والقضاء والتعليم والمعاملات والعلاقات بل وفي الحياة الشخصية أيضا، حتى كاد الدين أن ينمحي من البلاد لولا كلمة سبقت من ربك: {إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ (20) كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (21)}، فجعل الله سبحانه وتعالى كيد الطاغية في نحره ففرّ من البلاد. وهكذا، مات بورقيبة، وفرّ بن علي، وأما الإسلام فلم يمت بل بقي يشع نوره في تونس.
نعم، ما يزال نور الإسلام في تونس مشعا، وما يزال دين الملايين، ولكن هل قضي على اللائكية؟ لا، بقيت اللائكية عند فئة من الناس، فما زالت تلك دعواهم؛ لذا وجب علينا أن نتصدى لها بالحجة والبرهان. {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا}.



ما هي اللائكية؟



سنركّز هنا على مفهوم اللائكية كما عرّفه اللائكيون أنفسهم في تونس، ثم ننظر بعدها في المفهوم الغربي لنقارن بينهما. وأعتذر مسبقا للقارئ الكريم عن الإطالة، وأرجو أن يتفهّم مدى الحاجة إلى بسط تعريفات أصحاب اللائكية في تونس؛ فالحكم على الشيء فرع عن تصوره.



· كتب الصحفي عادل القاري: "انتظم منتدى التقدم بمقر جريدة الوحدة يوم 20 أفريل 2007 حول موضوع: اللائكية اليوم. وقد رحّب السيد حسين الهمامي (عضو المكتب السياسي لحزب الوحدة الشعبية) في بداية اللقاء، الذي شارك فيه عدد من ممثلي وممثلات المجتمع المدني التونسي، بضيف المنتدى المناضل الحقوقي السيد صالح الزغيدي (عضو الهيئة المديرة للرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان)، مبرزا أهمية الموضوع مع التأكيد على ضرورة عدم الخلط بين اللائكية والإلحاد. وذكّر بموقف حزب الوحدة الشعبية المتعلق بالفصل بين السياسة والدين وبين النسبي والمطلق وبين الشأن الخاص والشأن العام. السيد صالح الزغيدي، ركّز في مداخلته التمهيدية على ما اعتبره نواة مركزية في مفهوم اللائكية أو العلمانية بعد أن بيّن أنه يفضل استعمال مصطلح اللائكية (جذرها اللغوي القديم في اللغة اليونانية يعني الانتماء للشعب وليس إلى رجال الدين أو المؤسسات الدينية) باعتبار أن انتشار مصطلح العلمانية مردّه ترجمة متأثرة بالثقافة الانقلوساكسونية في المشرق العربي، وفنّد الفكرة الشائعة التي تقول إن اللائكية ذات خصوصية فرنسية حتى وإن كانت مرتبطة في فرنسا بتاريخ ثوري وراديكالي أثمر في الأخير قانون 1905 الذي يفصل بين الدولة والكنيسة الكاثوليكية لينصّ بعد ذلك الدستور الفرنسي في مادته الأولى على لائكية الدولة وهو ما نجده أيضا في الدستور التركي، مذكرا أن دستور الولايات المتحدة الأمريكية كان أول دستور لائكي في الدول الحديثة يفصل بين السلطة السياسية وأي مرجعية دينية ولم يعن ذلك موت الدين أو يتعارض مع بقائه فاعلا في المجتمع المدني الأمريكي. وتقوم النواة المبدئية للائكية التي تجسم حرية المعتقد والمساواة والتسامح على أساس أن الدين لا يتحكم في الدولة أو يسيّرها كما أن الدولة لا تتحكم في الدين أو تسيّره. وأشار المحاضر إلى أن الدين يقوم على نصوص مقدسة ورجال دين. والمطلوب في الدولة أولا تشريع إنساني يختار من خلاله البشر المواطنون أي مجتمع يريدون بناءه وثانيا أن لا يكون لرجال الدين أي سلطة على الدولة. وما زال هذا المفهوم السياسي والثقافي المرتبط بقيم الديمقراطية والمواطنة وحقوق الإنسان مندرجا في مجتمعاتنا العربية والإسلامية ضمن المحظورات (تابوهات)... وفي هذا السياق أشار السيد الزغيدي إلى الارتباط الوثيق بين إنجاز الديمقراطية وإنجاز اللائكية. فالديمقراطية منظومة قيم وليست مجرد آليات (انتخابات، تنظم…) والفكر اللائكي هو الذي يقبل الاختلاف والتعدد أما الفكر الديني فهو يرفض الاختلاف. ومن هذا المنطلق اعتبر أنه لا ديمقراطية في بلاد بها تعددية حزبية (وإن كانت حقيقية) والمرأة فيها مقصاة وغير مساوية للرجل. وهنا يتدخل الدين لتبرير ذلك الإقصاء وعدم المساواة، كما هو حال الإرث عندنا... وإذا كانت الدولة تدعو إلى عدم توظيف الدين فعليها أن تلتزم بذلك قبل غيرها، فالقيم الديمقراطية ترفض كل التمييزات المبنية على الدين أو الجنس أو اللون. ومع ذلك أكد المحاضر أن تونس هي من أكثر الدول العربية تقدما باتجاه وضع مسافة بين الدولة والدين (الدستور التونسي لا ينص على أن الشريعة الإسلامية هي مصدر التشريعات مثلما نجده في معظم الدساتير ######### كما يبرز ذلك في عديد المجالات الاجتماعية. ولكن تبقى بعض الثغرات الدستورية والقانونية حيث ينص الدستور التونسي من جهة على ضمان حرية المعتقد (التي تعني حق اختيار الفرد وممارسته لدينه أو دخول دين آخر دون اعتباره مرتدا ) والمساواة بين المواطنين والمواطنات ثم يحدد من جهة أخرى دين الدولة (الفصل الأول) ودين رئيسها (الفصل 40 ). كما تمنع بعض النصوص الإدارية عقد قران المسلمة بغير المسلم رغم أن مجلة الأحوال الشخصية لا تمنع ذلك... ومع ذلك أعاد السيد الزغيدي التأكيد على أن اللائكية ليست الإلحاد. بل إن الفكر اللائكي هو أكثر من يدافع عن حرية المعتقد وممارسته. أما ما يسمى بالدولة الإلحادية التي تعمل على نشر الإلحاد (مثل الاتحاد السوفياتي السابق) فهي نقيض للائكية، وكما نرفض الدولة الدينية فنحن نرفض الدولة الإلحادية. وقد أثارت هذه المداخلة نقاشا ثريا بدأه السيد الحبيب قيزة (رئيس جمعية محمد علي للبحوث والدراسات والتكوين) الذي أشار إلى وجود إجماع على الديمقراطية وخلاف حول اللائكية. ورأى في ذلك تناقضا خطيرا. حيث أنه لا ديمقراطية بلا لائكية فالديمقراطية حيث السيادة للشعب ليست مجرد مسألة تقنية وحسابية ( أغلبية وأقلية) مذكرا القائلين بأن اللائكية غريبة عنا بالفصل بين العقل والنقل في تراثنا وغياب سلطة الكنيسة، داعيا إلى وجوب القيام بالقطيعة مع العقل الفقهي الذي اعتبره محمد أركون سياجا دغمائيا مغلقا... الأستاذ زهير الشرفي تحدث عن كتيب أعده للنشر بعنوان (كنيسة حرة في دولة حرة)، متسائلا لماذا تدرس الدولة الإسلام والمذهب المالكي ولا تدرس الديانات والمذاهب الأخرى. في حين أن دور المدرسة العمومية هو تخريج تلميذ حر قادر على الاختيار والتمييز بين العبادات وفعل الخير بعيدا عن الحقد الديني... وإجابة عن بعض الملاحظات والأسئلة أوضح السيد صالح الزغيدي أن قضية اللائكية مطروحة على الدولة (كمشرع) وليس على المواطنين. فالمهم أن لا نفتح كتب الأحاديث والقرآن لنستخرج القوانين. ونظرا إلى أن للدين جانبا جماعيا (يهم الدولة) وليس فقط فرديا، يبقى السؤال مطروحا فعلا فيما يتعلق بتسير المساجد كفضاءات عمومية. والمطروح علينا مواصلة النقاش لتعميق المفاهيم والمقترحات، مثل مسألة التعليم وبرامجه (تدريس الدين الإسلامي فقط أم جميع الأديان أم تاريخ الأديان أم الأخلاق)... وللوصول إلى دولة لائكية تفصل بين الإسلام والدولة هناك منظومتان فكريتان أولاهما من داخل الفكر الديني نفسه، وهي قلة قليلة مجتهدة تعرض بعضها للتهميش مثل علي عبد الرازق في مصر (صاحب كتاب الإسلام وأصول الحكم) أو للاغتيال (مثل محمود محمد طه في السودان) والأخرى من خارج المنظومة الفكرية الدينية (وهي التي ينتمي إليها السيد صالح الزغيدي) أي من منظومة عقلانية لا دينية، لا تقدم قراءة جديدة للإسلام أو تأويلا مستحدثا له ولا تعتبر أن ذلك من مهامها أو منطلقاتها ومرجعياتها. أما المطلوب من الإسلاميين فهو أن يعلنوا بوضوح أنهم لا يريدون دولة دينية ولن يطبقوا الشريعة الإسلامية..."(1).
· وقال فتحي بالحاج يحي (أحد مؤسسي الجمعية الثقافية التونسية للدفاع عن اللائكية): "اللاّئكية هي أن يجمعني مع مواطن آخر، أو يربطني بالدّولة في باب الحقوق والواجبات، عقد اجتماعي قانوني ينطلق من اعتباري راشدا ومسؤولا عن أعمالي وعارفًا بما يصلح بي و لا يصلح. ودور القانون أن يذكّرني مثلا بفعلٍ ما كنت أعتقده صالحًا وفيه مضرّة للغير كأن أتجاوز ضوءًا أحمر في حركة مرور لأنّي على عجل أو أن أتوقّف عن العمل ثلاثة مرّات في اليوم بدعوى الصّلاة حاضرًا، وأنا أشتغل معلّما أو سائق حافلة عموميّة أو عونا فنيّا في برج المراقبة بالمطار. أمّا أن يأتي القانون ليرفض عليّ كمواطنة تونسيّة حقّي في اختيار شريك حياتي بدعوى أنّه غير مسلم بينما يبيحها لجاري الذّكر (ولا تقولوا لي تزوّجي جارك وأريحينا، فإنّي أكرهه)، أو أن يُدرَّس أبناؤنا في مادّة التربية الإسلاميّة أنّ الأرض والإنسان هما محور الخلق والكون بينما يكتشفون في دروس الفيزياء أنّها أصغر من نملة تائهة في الصّحراء داخل الكون اللامتناهي. ففي الحالات الأولى مسّ بكرامة الإنسان المطلقة ومبدأ المساواة في المواطنة وإسقاط فاضح لما ورد في الدّستور من ضمان لحرية المعتقد إذ كيف يجوز أن تخوّل الدّولة لنفسها تقرير من هو مسلم ومن هو غير مسلم، ومن يتزوّج من؟ أمّا في الحالة الثانية فثمّة اعتداء على العقل والذّكاء ولو كان ذلك باسم الدّين والهويّة والاستثناء الثقافي والأصالة وغيرها من التّصنيفات التي تجتمع فيها جميع عوائقنا وفيها بعض التّفسير لبقائنا مستهلكين لابتكارات واختراعات وعلوم الغرب رغم أنّنا "أفضل أمّة أُخرِجت للنّاس". والأمثلة كثيرة مثل المساواة في الإرث بين الأنثى والذّكر والتي مازال الخطاب الرّسمي يتعثّر فيها حيث نرى وزيرة المرأة تكاد تقرّ بمعقولية هذا الطّلب بالنّظر لوضع المرأة مع استدراكها القول بأنّ الأمر من ثوابت الإسلام لوضوح الآية القرآنية فيه، لذلك استحال تطبيقه. ولو ترجمنا كلامها لحصلنا على شيء من قبيل "واللّه الحكاية معقولة لكن للأسف نزلت الآية خالية من أيّ ذريعة يمكن اعتمادها أسوة بآية الأربعة نساء وقوله "ولن تعدلوا" !"(2).
· وقالت الدكتورة ألفة يوسف: "إنّ المشكل مع كلمة اللائكيّة هو المصطلح المعتمد. فمن أبجديّات المنهج ضرورة تحديد المفاهيم ومفهوم اللائكيّة بهذا المصطلح المعتمد أو بمصطلح العلمانيّة مصطلح مقلق من منظورين: المنظور الأوّل أنّ المصطلحين ليسا من التراث العربي الإسلاميّ فلا وجود في أمّهات الكتب لكليهما بما يعني أنّهما مصطلحان مستوردان مفتقران إلى الانغراس في التربة الحضارية. أمّا المنظور الثّاني فهو ضبابيّة المفهومين واتّصالهما بالكفر أو اللاتديّن. ونعتقد جازمين أنّ لاستعمالات بعض الفضائيّات لهذين المفهومين بهذه المعاني دورا كبيرا في جعل اللائكية مرادفة للكفر أو اللاتديّن. ولا نظنّ أنّ هذا الاستعمال الخاطئ عفويّ بل نتصوّره مقصودا لتشويه مفهوم اللائيكيّة. وإذا كانت اللائكية في معناها الأبسط فصلا للدّين عن الدّولة فيمكن لي أن أتساءل عن الفرق بينها وبين ما يدعو إليه القرآن من احترام عقيدة البشر واعتبار كلّ واحد حرّا في دينه واقتناعاته العقديّة:{وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ}. بل أكثر من ذلك إنّ القرآن يؤكّد أنّ اختلاف العقيدة بين البشر ممّا أراده الله تعالى في الكون: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآَمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِين}. والموقف من هذا الاختلاف هو بالضّرورة القبول والرّضا لإرادة الله هذه. وإنّنا إذا اتّفقنا في هذه المسألة فإنّ الخلاف بين ما يسمّى لائيكيّين وإسلاميّين قد يتعدّى ذلك ليتّصل بالتّشريع المعتمد في الدّولة. وإنّنا من موقعنا نؤكّد أنّ التشريعات مهما تكن إنّما هي في آخر الأمر قراءات بشريّة سواء استندت إلى العقل والمنطق أو استندت إلى النصوص الدّينيّة مهما تكن. إنّ الثعالبي في كتابه روح التحرر في القرآن يؤكّد أنّ جوهر الأخلاق والدّين واحد. والمهمّ أن نتّفق أنّنا في مجال التشريع الذي يصوغه بشر نظلّ دائما في مجال النسبيّة أي في مجال المسائل الدّنيويّة الّتي نختلف فيها وتتعدّد حولها الآراء والمواقف. إنّ الدّين بصفته علاقة خاصّة بين الإنسان وربّه أمر فرديّ لا يمكن لأيّ كان أن يتدخّل فيه ولا سيّما إذا كان الآخر الدّولة التي من المفروض أن تحقّق لجميع أفرادها إمكان ممارسة شعائرهم أو طقوسهم في أمان وحرّية. أمّا الدّين من حيث يراه البعض وجها من وجوه تنظيم الحياة بين البشر فإنّه يفترض المستحيل أي إمكان نفاذ الدّولة إلى هذه العلاقة الخاصة الفريدة بين الإنسان وربّه، فإذا افترضنا جدلا إمكان ذلك نجد أنفسنا إزاء قراءات بشريّة مصلحيّة سياسيّة تتّخذ الدّين مطيّة ومآرب لسيطرة بعض النّاس على البعض الآخر بحجّة السّعي إلى تطبيق الشّريعة. وإنّي من موقعي داخل المنظومة الإسلاميّة أربأ بالدّين عن أن يتدخّل في الشّؤون السّياسيّة الدّنيويّة التي تظلّ سياقيّة نسبيّة وعرضة للخلافات والمصلحيّة وأعدّ جوهر الإسلام قائما على الحرّية المسؤولة في الحياة الدّنيا لا على ادّعاء امتلاك الحقيقة وفرضها على الآخرين باسم الدّولة. إنّنا نضمّ صوتنا إلى صوت علي عبد الرازق صاحب كتاب "الإسلام وأصول الحكم" مؤكّدين أنّ الإسلام رسالة لا حكم ودين لا دولة"(3).
· وقال الأستاذ صالح الزغيدي (كاتب عام الجمعية التونسية للدفاع عن اللائكية): "نريد أن يعيش شعبنا في دولة مواطنين لا في دولة مؤمنين بالله ورسوله.. نريد أن يكون الإيمان بالله من عدمه أمرا لا يخص إلا صاحبه ولا أحد يمتلك أو يمنح لنفسه الحق في محاسبته.. نريد أن لا يختلط الدين بالسياسة، لأن الدين يفضي على نفسه طابعا قدسيا والسياسة أبعد شيء عن القداسة، الدين إيمان والسياسة رأي... اللائكية تعني أننا نتدبر أمرنا في مجتمعنا وفي زماننا حسب ما يمكن أن يجمع بيننا من مصالح ومستحقات مشتركة لمدة معينة من الزمن تتغير وتتطور فنعيد الكرة وننظر من جديد في أمورنا حسب الظروف الجديدة، وما كان صحيحا وصالحا بالأمس القريب يصبح لاغيا اليوم..."(4).
· وقالت الأستاذة الجامعية والباحثة في الدراسات الإسلامية منجية السواحي: "إنّ العديد من الرافضين لللائكية حجتهم أنها مرتبطة ارتباطا مباشرا بالإلحاد حيث أنها تهمش الدين وتقصيه من الدولة الإسلامية بالأساس والتي تختلف كثيرا عن الغرب بمختلف دياناتهم فالعلمانية تساوي الدنياوية وهي فصل بين كل ما يتعلق بالحياة الخاصة الشخصية للفرد والحياة السياسية فكل شخص حر في ديانته في لباسه في فكره وبذلك هي ضمان للحريات دون تدخل من الدولة وممارسة السلطة على الأفراد فكل شخص من حقه أن يعيش في بلاده بحقوقه وخصوصياته التي يجب أن تحترم من قبل الجميع حتى من قبل القانون وهذه خاصية العلمانية"(5)

يتبع إن شاء الله تعالى...
_____________________
(1) عن "اللائكية اليوم" بتصرف، لعادل القادري، 42/04/2007م، http://adelkadri.maktoobblog.com/

(2) الأوان" تحاور فتحي بالحاج يحيى، أحد مؤسسي "جمعية الدفاع عن اللائكية" في تونس، الجمعة 13 حزيران (يونيو) 2008، بقلم: سفيان الشواربي (http://www.alawan.org/_%D8%B3%D9%82%D9%8A%D8%A7%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%B4%D9%88%D8%A7%D8%B1%D8%A8%D9%8A_. html).

(3) عن "هل اللائكية ممكنة في تونس: هل هي الطريق إلى الديمقراطية أم تهميش للدين"، جريدة الشروق، 16/03/2011م.
(4) المصدر السابق.
(5) عن "اللائكية في تونس: هل هي خيار جديد نحو الحداثة؟"، جريدة التونسية، 10/03/2011م.

الهزبر
2011-03-21, 01:43 PM
http://www.azeytouna.net/images/t_03.gif http://www.azeytouna.net/images/titles-inside-dialogue.gif http://www.azeytouna.net/images/line-dots.gif

اللائكية في ميزان العقل والنقل (2)

الكاتب: ياسين بن علي

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه

مفهوم اللائكية عند الغربيين


· قال موريس باربيه (Maurice Barbier‏): "تعني اللائكية في مفهومها الواسع الفصل بين الدين والحقائق الدنيوية (les réalités profanes). فهي تفترض أنّ هذه الحقائق لا تخضع لاحتواء الدين أو تأثيره، سواء عنى الدين إيمانا ما أو جمعية ما أو سلطة دينية ما. وهكذا، نرى أن الفلسفة في الغرب استقلت عن اللاهوت، وأنّ مختلف العلوم تكوّنت خارج إطار المسيحية بل ضدّها أحيانا، وأنّ كل الحقائق الإنسانية: السياسية، والاجتماعية، والثقافية وغير ذلك، قد استقلت عن الدين. وقد تم تحقيق هذا عبر إجراء من الفصل ليس بقصير المدى، وهو ما نطلق عليه العلمنة (laicization ou secularisation). ولهذا السبب يمكن لنا أن نصف مجتمعا ما أو فكرا ما أو أخلاقا ما باللائكية إذا تخلّصت تماما من أي أثر ديني، ولم تطع إلا المبادئ الصرفة ضمن النظام العقلاني أو الطبيعي. وأما بالمعنى الضيق للكلمة، فيمكننا أن نتحدث عن لائكية التعليم للدلالة على أنه لا يحوي أي خاصية طائفية/دينية (confessionnel)"(1).
· وعرّف فرديناد بويسون (Ferdinand Buisson) الدولة اللائكية بقوله: "دولة محايدة بين الثقافات، مستقلة عن كل علماء الدين، بعيدة عن كل مفهوم تيولوجي [ديني]"(2).
· وقال فيليب غرولات (Fhilippe Grollet): "إن اللائكية التي نطالب بها تحتوي على عنصرين: الأول يتعلّق بتنظيم المدينة أي اللائكية السياسية، والثاني يتعلّق بوجهة نظر حياتية... فالدولة اللائكية هي التي تحقّق فصلا فعليا بين الحياة العامة ومؤسساتها... وبين الكنائس ومختلف القناعات الدينية والفلسفية... فاللائكية إذن هي الوحيدة القادرة على ضمان المساواة بين المواطنين مهما كانت قناعاتهم، وعلى ضمان عدم انحياز السلطة في هذا المجال. وهي أيضا الوحيدة القادرة على حماية حريّة التعبير والتفكير والتدين... وأما من ناحية أخرى فإن لفظ اللائكية غير محصور في عدم الانحياز أو في استقلالية كاملة للسلطات العامة عن القناعات الدينية والفلسفية بل يشمل أيضا وجهة نظر حياتية تقوم على أسس غير دينية بعيدة كل البعد عن أي مرجعية إلهية أو ما فوق طبيعية أو متعالية"(3).
· وعرّف قاموس لاروس (Larousse) اللائكية بأنها: "نظام يزيح الكنائس عن ممارسة أي سلطة سياسية أو إدارية، ويزيحها بخاصة عن تنظيم التعليم"(4).
· وعرّف قاموس أكسفورد العلمانية بأنها: "العقيدة التي تذهب إلى أن الأخلاق لا بدّ أن تكون لصالح البشر في هذه الحياة [الدنيا]، واستبعاد كل الاعتبارات الأخرى المستمدة من الإيمان بالإله أو الحياة الأخرى [الآخرة]"(5).
· وعرّف قاموس ويبسترس (websters) العلمانية بأنها: "عقيدة ترفض الدين والاعتبارات الدينية"، وبأنها: "تعطي الحقّ للتحرّر من قوانين الدين وتعاليمه، وللتحرر من تطبيق الحكومة للدين على الناس ضمن دولة محايدة فيما يتعلّق بمسائل الإيمان... ومن ناحية أخرى فإن العلمانية تشير إلى الاعتقاد بأن الأنشطة والمواقف الإنسانية، وبخاصة السياسية منها، لا بدّ أن تبنى على البرهان والواقع وليس على التأثير الديني"(6).

تنبيه:
لاحظ أننا لا نفرّق هنا بين اللائكية (laïcité) والعلمانية (sécularisme)، ولم نبحث في الأصل اللغوي للمصطلحات، واخترنا عدم الخوض في هذه المسألة التفصيلية الدقيقة؛ لنصبّ عنايتنا على جوهر الفكرة التي ينادي بها اللائكيون في تونس بغض النظر عن مسمياتها وبعض تفاصيلها الدقيقة.

مقارنة بين التعاريف



بصفة عامة، نجد أن تعاريف اللائكية الغربية والتونسية تتفق في عناصر كثيرة أساسية، كمسألة الفصل بين الدين والدولة، وكمسألة إبعاد الدين عن الشأن العام، وكمسألة إبعاد الدين عن التعليم، وكمسألة الحريات وغير ذلك. ولكن، نلاحظ أنّ اللائكي التونسي، بخلاف اللائكي الغربي، يصرّ على إبعاد فكرة الإلحاد عن اللائكية؛ ولذلك تكرّرت مقولة: "اللائكية ليست الإلحاد". وهذا الإصرار على عدم إلحاد اللائكية نجده أيضا عند الشيوعيين كحمة الهمامي بل وعند بعض ما يسمى بالإسلاميين. وهو ما يجعلنا نسأل: لماذا يصر اللائكي التونسي على أنّ "اللائكية ليست الإلحاد"، وهل تعني اللائكية الإلحاد حقيقة أو لا تعنيه؟

اللائكية والإلحاد:



قال عبد الله نعمان: "والعلمانية اليوم نوعان: ملحدة تبلورت في القرن التاسع عشر بعد ظهور الفلسفة المادية من مدرسة هيغل (1770-1831)، ويعتبر فيورباخ أبرز مؤسسيها. وهي تستهدف إلغاء الدين وليس مجرّد الفصل بينه وبين الدولة. ومحايدة وهي تدعو إلى فك الارتباط والتداخل بين الدين والدولة ومن ثم منع رجال الدين من التدخل في شؤون الدولة والمجتمع، على أن تكون الدولة محايدة تجاه جميع الأديان والمذاهب وأن تضمن لكل مواطن حرية الاعتقاد وممارسة الشعائر الدينية من دون تمييز بسبب الأصل أو الجنس أو الدين أو العقيدة..."(7).
فهناك إذن ما يسمى بالعلمانية الملحدة، وليس القول بإلحاد العلمانية من اختراع الأصولية الإسلامية، أو بمؤامرة قصدها تشويه صورة اللائكية – كما زعمت ألفة يوسف مثلا-.
ورغم أنني سقت هذا التقسيم الثنائي لللائكية لبيان شهادة علماني حول إلحاد قسم من العلمانية، إلا أنني أرى أن اللائكية كلّها ملحدة. وإليك البيان:
جاء في القاموس الفلسفي لجاكلين روس (Jacqueline Russ): "الإلحاد (Athéisme):... مذهب ينفي وجود الإله"(8).
وجاء في معجم مصطلحات العلوم الاجتماعية للدكتور أحمد زكي بدوي: "الإلحاد، إنكار الألوهة: إنكار وجود أي اله أو إنكار وجود اله مشخص والمعنى الأول أكثر شيوعا. وكذلك يرفض الإلحاد جميع الحجج التي يستند إليها المفكرون في التدليل على وجود الله"(9).
وعليه، فالإلحاد في المفهوم الغربي، وهو المفهوم الشائع، يعني إنكار وجود إله. وهذا المعنى هو الذي يستخدمه اللائكيون في تونس، فهم ينكرون إلحاد اللائكية بمعنى نفيها لوجود الإله. ولكن، هل هذا هو معنى الإلحاد في ثقافتنا الإسلامية ثقافة المجتمع التونسي؟
قال الله تعالى في سورة الأعراف: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (180)}.
قال الشيخ الطاهر ابن عاشور: "والإلحاد الميل عن وسط الشيء إلى جانبه، وإلى هذا المعنى ترجع مشتقاته كلّها، ولما كان وسط الشيء يشبّه به الحق والصواب، استتبع ذلك تشبيه العدول عن الحق إلى الباطل بالإلحاد، فأطلق الإلحاد على الكفر والإفساد... ومعنى الإلحاد في أسماء الله جعلها مظهرا من مظاهر الكفر، وذلك بإنكار تسميته تعالى بالأسماء الدالة على صفات ثابتة له وهو الأحق بكمال مدلولها فإنهم أنكروا الرحمان كما تقدم، وجعلوا تسميته به في القرآن وسيلة للتشنيع ولمز النبيء عليه الصلاة والسلام بأنه عدد الآلهة، ولا أعظم من هذا البهتان والجور في الجدال فحقّ بأن يسمى إلحادا لأنه عدول عن الحق بقصد المكابرة والحسد"(10).



وقال القرطبي: "قوله تعالى: {يُلْحِدُونَ} الإلحاد: الميل وترك القصد؛ يقال: ألحد الرجل في الدين. وألحد إذا مال. ومنه اللحد في القبر؛ لأنه في ناحيته. وقرئ {يَلْحَدُونَ} لغتان، والإلحاد يكون بثلاثة أوجه. أحدها: بالتغيير فيها كما فعله المشركون، وذلك أنهم عدلوا بها عما هي عليه فسموا بها أوثانهم؛ فاشتقوا اللات من الله، والعزى من العزيز، ومناة من المنان قاله ابن عباس وقتادة. الثاني: بالزيادة فيها. الثالث: بالنقصان منها؛ كما يفعله الجهال الذين يخترعون أدعية يسمون فيها الله تعالى بغير أسمائه، ويذكرون بغير ما يذكر من أفعاله؛ إلى غير ذلك مما لا يليق به"(11).
وجاء في القاموس المحيط: "وألحد: مال وعدل ومارى وجادل، وفي الحرم: ترك القصد فيما أمر به، وأشرك بالله، أو ظلم، أو احتكر الطعام، وبزيد: أزرى به، وقال عليه باطلا..."(12).
وقال الراغب الأصفهاني: "وألحد فلان مال عن الحق، والإلحاد ضربان: إلحاد إلى الشرك بالله، وإلحاد إلى الشرك بالأسباب، فالأول ينافي الإيمان ويبطله، والثاني يوهن عراه ولا يبطله..."(13).
فالإلحاد إذن لا يعني نفي وجود الله فقط بل يعني مطلق الميل عن الحقّ وعن دين الله؛ ولذلك وصف الله سبحانه وتعالى المشركين بالإلحاد مع أنّهم يؤمنون بإله. واللائكية بهذا المعنى ملحدة، ومن تبنى اللائكية فقد ألحد؛ لأنّه ينفي أن يكون الله تعالى هو الحاكم، وينفي أن يكون الله هو المشرّع والآمر الناهي، وينكر دور الدين في الحياة والمجتمع والدولة.


يقول الله عزّ وجل في سورة يوسف: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (40)}. فيقول اللائكي: إن الحكم إلا للإنسان وليس لله.



ويقول الله عزّ وجل في سورة الأعراف: {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (54)}. فيقول اللائكي: الخلق لا يعنينا فهو مسألة شخصية لك أن تؤمن بها ولك أن تنكرها، وأما الأمر فليس له بل للإنسان.
ويقول الله عزّ وجلّ في سورة الشورى: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (10) }. فيقول اللائكي: وما اختلفنا فيه من شيء فحكمه إلى الإنسان والبرلمان وليس إلى الله.
وأخرج البيهقي في السنن الكبرى: عن مصعب بن سعد عن عدي بن حاتم رضي الله عنه قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وفي عنقي صليب من ذهب, قال: فسمعته يقول: {اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله}, قال: قلت: يا رسول الله, إنهم لم يكونوا يعبدونهم قال: "أجل, ولكن يحلون لهم ما حرم الله, فيستحلونه, ويحرمون عليهم ما أحل الله , فيحرمونه, فتلك عبادتهم لهم". واللائكية تريدنا أن نتخذ من الإنسان ربا نعبده؛ لأنها تجعل التشريع بيد المخلوق وتنفي أن يكون للخالق تبارك وتعالى.
لا نريد التفصيل في هذا المقام، إنما أردنا فقط أن نثبت أن اللائكية إلحاد بالمفهوم الإسلامي لكلمة الإلحاد؛ لأنها تشرك بالله، وتميل عن دين الله بمعنى تبعده عن الحكم والدولة والمجتمع وتحصره في البيت أو ما يسمى بالفضاء الخاص.

اللائكي والإلحاد أو إنكار وجود الإله:


سنستعمل هنا معنى الإلحاد بمفهومه الخاص أي نفي وجود إله، وبناء عليه نسأل: هل يوصف كل لائكي بالإلحاد؟
والجواب هو: أنّ اللائكين ينقسمون إلى قسمين:
1. قسم ملحد ينكر وجود إله ويعتبر الدين من صنع الإنسان وأفيون الشعوب، كالشيوعيين. يقول ماركس: "إن أساس النقد اللاديني هو كالآتي: الإنسان هو الذي يصنع الدين، والدين لا يصنع الإنسان"، ويقول: "البؤس الديني هو من جهة التعبير عن البؤس الفعلي، ومن الجهة الثانية الاحتجاج على البؤس الفعلي. الدين تنهدة الخليقة المضطهدة، روح عالم بلا قلب، مثلما أنه روح حضارة منفية الروح عنها. إنه أفيون الشعب"(14). فالشيوعي لا يؤمن بإله ولا يؤمن بدين، فهو ملحد بهذا المعنى. ولاحظ أنّ الشيوعيين في تونس لا يظهرون عقيدتهم ويخفون إلحادهم، فهم يركّزون في دعوتهم على بعض المطالب الاجتماعية والحقوقية والسياسية، ولا يبرزون عقيدتهم المادية المنكرة لوجود إله بل يستغلون اللائكية؛ لأنها الغطاء الأمثل لعدائهم للدين.
2. قسم يؤمن بوجود إله ويعترف بالدين ولكن يعرّفه بأنه علاقة شخصية بين الخالق والمخلوق، ولهذا رأينا كيف تبرّر ألفة يوسف اللائكية بنص ديني، وكيف تدافع منجية السوايحي عن عدم إلحاد اللائكية.
هذا التقسيم سيفيدنا في معرفة كيفية التعامل مع اللائكيين وكيفية مناقشتهم.

يتبع إن شاء الله تعالى...
__________________


La laïcité, Maurice Barbier‏, L'Harmattan1995, p. 8-9(1)
(2) المصدر السابق، ص8
(3) Questions sur la laïcité: Qui sommes-nous, laïques? Philippe Grollet, p.3, outils de réflexion, n:08, mars1999, centre d'action laïque, Bruxelles.
(4) http://www.larousse.fr/encyclopedie
(5) نقلا عن: العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة، للدكتور عبد الوهاب المسيري، ج1 ص57
(6) http://www.websters-online-dictionary.org/definitions/secularism
(7) الاتجاهات العلمانية في العالم العربي، لعبد الله نعمان، ص15
(8) Dictionnaire de Philosophie, Jacqueline Russ, p28
(9) معجم مصطلحات العلوم الاجتماعية، للدكتور أحمد زكي بدوي، ص29
(10) التحرير والتنوير، م5 ج9 ص189
(11) الجامع لأحكام القرآن، ج7 ص328
(12) القاموس المحيط، للفيروآبادي، ج1 ص458
(13) مفردات ألفظ القرآن، للراغب الأصفهاني، ص468
(14) فلسفة الأنوار والفكر الحديث، جورج بوليتزر، ترجمة جورج طرابشي، ص3-4

دانة
2011-03-31, 05:09 PM
السلام عليكم
راعني ما قرأته في الفقرة التي تتحدث عن الدستور التونسي وخلوه من اهم فقرة يمكن ان توجد في اي دولة مسلمة وهي ان الاسلام مصدر التشريع للدولة
موضوع مفيد اخي الهزبر وقد استفدت من قراءته
بارك الله فيك وجزاك عنا خيرا

إدريسي
2011-03-31, 08:19 PM
جزا الله كاتب المقال وناقله خيرا ..

الهزبر
2011-04-01, 12:34 AM
السلام عليكم


الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه



كيف ظهرت اللائكية في المجتمع الإسلامي؟



قال د. عبد الله نعمان: "مع بداية القرن التاسع عشر، قيّض للشرق أن يصحو بعد طول رقاد. وقام رجال النهضة يعيدون الروح إلى جميع مرافق الحياة... وأخذ رواد النهضة يستمدون من المبادئ الفكرية الغربية أصولا لمجابهة قضايا المشرق وواقعه. فنشروا مبادئ الثورة الفرنسية وأشادوا بالحرية والإخاء والمساواة... وفي مرحلة ثالثة، ظهرت حركة جديدة عملت على استيعاب شامل كامل للحضارة الغربية بإحلال النظرة العلمية محلّ النظرة الدينية وحصر الدين في جانبه الروحي الخالص. وكان طبيعيا أن يستوعب النظرة أولا المفكرون المسيحيون بحكم جذورهم الدينية وصلاتهم الباكرة بالفكر الأوربي... ثمّ تطور هذا التفكير إلى تيار علمي وعلماني صريح جاء بعقلية جديدة ونزعة اشتراكية أكيدة وميل يساري واضح، فساعد على تقبّل بذور الماركسية مع حلول الثلاثينات... وما لبث المفكّرون المسلمون أن انضموا إلى هذا التيار العلماني..."(1).



موقف علماء الزيتونة من اللائكية في بداية ظهورها:



أصدر علي عبد الرازق (ت1966م) كتاب "الإسلام وأصول الحكم" سنة 1925م أي بعد سنة من إلغاء الخلافة العثمانية سنة 1924م، دعا فيه إلى الفصل بين الدين والسلطة زاعما: "أنّ الدين الإسلامي بريء من تلك الخلافة التي يتعارفها المسلمون, وبريء من كل ما هيأوا حولها من رغبة ورهبة, ومن عز وقوة. والخلافة ليست في شيء من الخطط الدينية, كلا ولا القضاء ولا غيرهما من وظائف الحكم ومراكز الدولة. وإنما تلك كلها خطط سياسية صرفة, لا شأن للدين بها, فهو لم يعرفها ولم ينكرها, ولا أمر بها ولا نهى عنها, وإنما تركها لنا، لنرجع فيها إلى أحكام العقل, وتجارب الأمم, وقواعد السياسة... لا شيء في الدين يمنع المسلمين أن يسابقوا الأمم الأخرى، في علوم الاجتماع والسياسة كلها, وأن يهدموا ذلك النظام العتيق الذي ذلوا له واستكانوا إليه، وأن يبنوا قواعد ملكهم، ونظام حكومتهم، على أحدث ما أنتجت العقول البشرية, وأمتن ما دلت تجارب الأمم على أنه خير أصول الحكم"(2).



ويقول د. عبد الله نعمان: "وتكمن أهمية عبد الرازق في أنه طرح قضية العلمانية للمرة الأولى في صميم الفكر العربي، بعد أن أصدرت الحركة الكمالية التركية كتيّبا بررت فيه لجوءها إلى العلمانية ببعض المبررات المستمدة من مبادئ الإسلام ذاته. وتكمن أهمية العمل الذي طوره صاحبنا تطويرا أكثر منهجية وعمقا وارتباطا بأصول الإسلام، في أنه استند لأول مرة إلى حجج دينية شرعية مستمدة من القرآن والسنة لتبرير الدعوة إلى العلمانية ضمن إطار الإيمان الديني وليس من منطلق العلمانية الملحدة المنافية للدين. وهنا تكمن أهمية الكتاب الذي يعتبر بحقّ أول محاولة إسلامية لعلمنة الدولة من الداخل"(3).




وقد تصدى للردّ على هذا الكتاب ونقضه جملة من العلماء في شتى أنحاء العالم الإسلامي، ومنهم الشيخ محمد الخضر حسين التونسي (ت1958م) والشيخ محمد الطاهر ابن عاشور (ت1973م).



أما الشيخ محمد الخضر حسين رحمه الله فيعتبر أوّل من ألّف كتابا للردّ على علي عبد الرازق؛ إذ نشر سنة 1925م أي في السنة التي ظهر فيه كتاب عبد الرازق، كتاب "نقض كتاب الإسلام وأصول الحكم". يقول الدكتور محمد عمارة: "كان الشيخ صديقا لأسرة عبد الرازق، يتردد على منزلهم، وبينه وبينهم علاقات المودة والاحترام.. وعندما قارب طبع كتاب الشيخ علي عبد الرازق (الإسلام وأصول الحكم) على التمام، طلب آل عبد الرازق من الشيخ الخضر عناوين زعماء العالم الإسلامي ومفكريه ليهدوا إليهم الكتاب، فأتاهم بقائمة العناوين من صديقه محب الدين الخطيب.. فلما طبع كتاب (الإسلام وأصول الحكم) أهديت إليه نسخة منه، ففاجأته أفكار صاحبه.. فعكف على الرد عليه ونقضه، فطبع الرد في نفس السنة، ونفدت طبعته خلال شهر واحد"(4).



وأما الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور رحمه الله فقد ألّف هو الآخر كتابا للردّ على علي عبد الرازق وعلمانيته؛ فأصدر سنة 1926م كتاب "نقد علمي لكتاب الإسلام وأصول الحكم". وقد نقض الشيخ الطاهر كلام عبد الرازق وبيّن أن الإسلام دين ودولة، وأنّ الحكومة واجبة بالعقل والنقل. قال رحمه الله: "إنّ الخلافة بمعناها الحقيقي هي ركن ديني، بل هو الحافظ لأركان الدين كلّها"(5).



موقف علماء الزيتونة من اللائكية في تونس:




شهدت تونس أثناء فترة الاستعمار الفرنسي وقبيل الاستقلال صراعا بين تيارين: تيار يدعو إلى اللائكية ويمثله بورقيبة ومن معه، وتيار يدعو إلى دولة إسلامية ويمثله علماء الزيتونة. وقد لخّص لنا الشيخ محمد الشاذلي ابن القاضي رحمه الله ماهية هذا الصراع (سنة 1955م) فقال: "... مذهبان مختلفان: أحدهما يرى حصر الدين في العلاقة التي بين العبد وربه، وبعبارة أخرى حصره في العبادات، ويمكن أن يلحق بذلك الأحوال الشخصية عند البعض من أهل هذا المذهب، وأما ما سوى ذلك من أحوال الدولة ونظام الحكم والقوانين فهذا الباب يقتبس من أوربا وينقل ما عندها ويطبق على البلاد الإسلامية وعلى هذا الأساس يفصل بين الدين والدولة كما فصلت أوربا بينهما، ويكون المشرعون علماء تعلموا في أوروبا علم الحقوق وجردوا العقل من القيود التي تقيده فيحكمون العقل ويشرعون ويقتبسون... والمذهب الثاني يرى أن التشريع الإسلامي عنصر صالح يحمل بين ثناياه المرونة الكافية، فشريعة الإسلام صالحة لهذا العصر كما كانت صالحة في العصور الأولى، وما طرأ من انحلال لا تتحمله الشريعة وأحكامها بل هو من جراء عدم تطبيقها والخروج على بعض أحكامها فحصل ما حصل. وأساس التعاليم الإسلامية عدم التفرقة بين الدين والدولة..."(6).



وقد قاوم علماء الزيتونة مسألة اللائكية والفصل بين الدين والدولة من خلال الخطب والمقالات والدروس. وإذا نظرنا في أعداد المجلة الزيتونية سنجد مقالات كثيرة تنقض فكرة اللائكية وتبيّن أن الإسلام لا يفرّق بين الدين والدولة. ومن هذه المقالات مقال "فصل الدين عن الحكومة" للعلامة الشيخ محمد البشير النيفر رحمه الله (ت1974م). ومما جاء فيه قوله: "ثم جاءت الحرب العالمية الأولى فكان ممن صلي نارها الدولة العثمانية الدستورية وهي يومئذ دولة الخلافة ودينها الإسلام حسب المنصوص عليه في دستورها ثم وضعت الحرب أوزارها وخرجت الدولة منها مغلوبة على أمرها فرأت دولة انكلترا أنه جاء الوقت الذي تتمكن فيه من القضاء على الخلافة الإسلامية الدينية وتقيم مكانها دولة تقطع الصلة بينها وبين من يعتصم بحبل الدين من الدول والأفراد في الشرق والغرب وسخّرت لهذا أحد قواد الأتراك [كمال أتاتورك] ممن رضي أن يقوم بهذا ويقضي على الخلافة ويجردها عن الدين وفي هذا ما فيه من الفوائد للدولة الانكليزية والخسارات الجمة على الإسلام ودولته... حتى إذا تم له الأمر جاهر بالقضاء على الخلافة وأعلن أنه أسس حكومة لائكية أي حكومة لا دين لها إذ لا معنى لللائكية عند من يستعملها ويدعو إليها إلا ما قلنا: لا دين ولا معنى لتعليم لائكي إلا تعليم لا ديني، ولا يكاد يفهم العالم بمدلولات الألفاظ من اللائكية إلا هذا... قضى ذلكم القائد على دولة الخلافة الدينية وأقام خلفا عنها دولة لائكية ظهر أثرها في مظاهر من أشنع المظاهر نأتي على أهمها ليعتبر بها المعتبرون ويتفطن الغافلون من المسلمين من عامة الشعوب للهوة التي يراد بهم أن يتردوا فيها إذا دعوا إلى اللائكية. ويجمع كل ما سنلم نبذ الدين وترك التقيد بقيوده: 1. حذف التعليم الديني من برامج مدارس الحكومة... تغيير الأوضاع الشرعية ويظهر هذا فيما يأتي: 1) إباحة ما حرم الله ومنه أن يتزوج المسلمة من ليس بمسلم... 2) تحريم ما أحل الله... 3) التسوية بين الرجل والمرأة في الإرث على خلاف ما أجمع عليه المسلمون وجعله القرآن قاعدة... "(7).



أقول: سبحان الله، وكأن الشيخ رحمه الله يتحدث عن مجتمعنا اليوم وطلبات دعاة اللائكية، رغم مرور أكثر من نصف قرن على مقاله!




ومما جاء في المقال أيضا قول الشيخ: "إن الحكومة الإسلامية على ما يقتضيه الكتاب والسنة وجرى عليه أمر المسلمين سلفا وخلفا حكومة ترتبط بالدين كمال الارتباط والتلازم بينهما كالتلازم بين الصورة وظلها، ولا يحاول أن يفرق بينهما إلا الذين يقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض..."(8).



وختم الشيخ مقاله بقوله: "... لا خطر يهدد أحدا من الناس ولا مصلحة من المصالح العامة والخاصة أن تبقى الحكومة الإسلامية على صبغتها الحقيقية آخذة بزمام السلطتين الدينية والمدنية بل الخير كل الخير أن تبقى على جمعها الحميد، وقياسها على بعض الحكومات المسيحية التي فرقت بين السلطتين قياس ليس له من الحق جامع بل الفارق بيّن كفلق الصبح وحسبنا الله ونعم الوكيل وهو يقول الحقّ ويهدي السبيل"(9).



خطاب الشيخ محمد العزيز جعيط حول لائكية الدستور




منحت تونس (في جوان 1955م) الاستقلال الذاتي تمهيدا للاستقلال التام (1956م)، وبدأت الأطراف السياسية تتجهّز لتشكيل الدستور. وقد كانت هناك نية من الحزب البورقيبي للتنصيص على لائكية الدولة في الدستور (كما ترى فإن التاريخ يعيد نفسه). وقد تصدى علماء الزيتونة لهذه المحاولة، ومنهم العلامة شيخ الإسلام المالكي محمد العزيز جعيط رحمه الله (ت1970م) الذي ألقى خطابا أمام الملك محمد الأمين الأول يوم عيد الأضحى المبارك أنكر فيه على من تحدثه نفسه إمكان قيام دستور لائكي في تونس. ومما جاء فيه قوله رحمه الله: "... إننا أمة تفخر بدينها وتعتز بانتسابها إليه. وتعتقد أن سعادتها رهينة التمسك بتعاليمه ومباديه. فإنا نعلن عن إنكارنا ومقاومتنا لإقحام اللائكية فيما عسى أن يحدث من نظم لهذا البلد الذي خلقنا من تربته وطبعنا على محبته وأخلصنا لله في خدمته. ونسجل أمام هذا الجمع الرهيب أن إهمال التنصيص في دستوره على أن حكومته إسلامية تدين بالإسلام، بله التسجيل بأنها لائكية النظام، باعث قوي على التفرق والانقسام، وقطع حبل الوئام، ومثير لفتنة مشتعلة شديدة الاضطرام لا يعلم غايتها إلا الملك العلام، زيادة عن كونه سبة يسم هذا البلد بطابع معرة لا يمحوها كرّ الليالي والأيام... وهل من شكر نعمة الاستقلال تنكرنا لديننا الذي هو مقوم ذاتنا، وحافظ حياتنا. فليحذر المسئولون من مغبة الاندفاع في تيار التقليد، ولنذكر جميعا أنه يهون على المسلم أن تصاب نفسه ويسلم له دينه المجيد"(10).



هذا الموقف العظيم الذي وقفه الشيخ محمد العزيز جعيط رحمه الله، هو الذي منع التنصيص على لائكية الدستور التونسي، وجعل التيار البورقيبي التغريبي اللائكي يتراجع ويسلك مسلك الدهاء السياسي، فنصّ على إسلام البلد في دستورها وحكمها عمليا باللائكية.



يتبع إن شاء الله تعالى...



__________________________

(1) أنظر: الاتجاهات العلمانية في العالم العربي، ص34-36

(2) الإسلام وأصول الحكم، لعلي عبد الرازق، دراسة ووثائق، للدكتور محمد عمارة، ص182

(3) الاتجاهات العلمانية في العالم العربي، ص177

(4) نقض كتاب الإسلام وأصول الحكم، للدكتور محمد عمارة، ص17

(5) نقد علمي لكتاب الإسلام وأصول الحكم، للطاهر ابن عاشور، ص35

(6) مقال: الشريعة الإسلامية والنظم الاجتماعية، للشيخ محمد الشاذلي ابن القاضي، المجلة الزيتونية، م9 ج5 ص228-229

(7) مقال: فصل الدين عن الحكومة ج1، بتصرف، المجلة الزيتونية، م9 ج5 ص254-256

(8) مقال: فصل الدين عن الحكومة ج2، المجلة الزيتونية، م9 ج6 ص300

(9) السابق، ص323

(10) خطاب شيخ الإسلام المالكي يوم عيد الأضحى، المجلة الزيتونية، م9 ج4 ص219

الهزبر
2011-04-01, 12:44 AM
السلام عليكم



اللائكية في ميزان العقل والنقل (4)


الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه

العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة:


مال بعض المفكرين إلى تقسيم العلمانية/اللائكية وعدم التعامل معها كمنظومة معرفية سياسية فلسفية واحدة. فمن هؤلاء من قسّم العلمانية إلى: فرنسية وأنجلو سكسونية، ومنهم من قسّمها إلى لينة ومتشددة (Soft and Hard Secularism)، أو (laïcité ouverte vs militante)، ومنهم من قسّمها إلى ملحدة ومحايدة، ومنهم من قسّمها إلى جزئية وشاملة.


وقد اشتهر في الساحة الثقافية العربية التقسيم الأخير بعد أن تبناه وبلوره الدكتور عبد الوهاب المسيري في دراسة حول العلمانية بعنوان: العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة.



قال الدكتور المسيري: "1. العلمانية الجزئية: هي رؤية جزئية للواقع (برجماتية ـ إجرائية) لا تتعامل مع أبعاده الكلية والنهائية (المعرفية) ومن ثمّ لا تتسم بالشمول. وتذهب هذه الرؤية إلى وجوب فصل الدين عن عالم السياسة وربما الاقتصاد، وهو ما يُعبَّر عنه بعبارة «فصل الدين عن الدولة». ومثل هذه الرؤية الجزئية تَلزَم الصمت بشأن المجالات الأخرى من الحياة. كما أنها لا تنكر بالضرورة وجود مطلقات وكليات أخلاقية وإنسانية وربما دينية أو وجود ماورائيات وميتافيزيقا. ولذا، لا تتفرع عنها منظومات معرفية أو أخلاقية. كما أنها رؤية محددة للإنسان، فهي قد تراه إنسانا طبيعيا/ماديا في بعض جوانب حياته (رقعة الحياة العامة) وحسب، ولكنها تلزم الصمت فيما يتصل بالجوانب الأخرى من حياته. وفيما يتصل بثنائية الوجود الإنساني ومقدرة الإنسان على التجاوز، لا تسقط العلمانية الجزئية في الواحدية الطبيعية/المادية، بل تترك للإنسان حيزه الإنساني يتحرك فيه (إن شاء).
2. العلمانية الشاملة: رؤية شاملة للعالم ذات بعد معرفي (كليّ ونهائي) تحاول بكل صرامة تحديد علاقة الدين والمطلقات والماورائيات (الميتافيزيقية) بكل مجالات الحياة. وهي رؤية عقلانية مادية، تدور في إطار المرجعية الكامنة والواحدية المادية، التي ترى أن مركز الكون كامن فيه، غير مفارق أو متجاوز له (فالعلمانية الشاملة وحدة وجود مادية)، وأن العالم بأسره مكون أساسا من مادة واحدة، لا قداسة لها ولا تحوي أية أسرار، وفي حالة حركة دائمة لا غاية لها ولا هدف، ولا تكترث بالخصوصيات أو التفرد أو المطلقات أو الثوابت. هذه المادة – بحسب هذه الرؤية – تشكل كلا من الإنسان والطبيعة. فهي رؤية واحدية طبيعية مادية. وتتفرع عن هذه الرؤية منظومات معرفية... كما تتفرع عنها رؤية أخلاقية... وأخرى تاريخية... ورؤية للإنسان... والعلمانية الشاملة بهذا المعنى، ليست مجرد فصل الدين أو الكهنوت، أو هذه القيمة أو تلك عن الدولة أو عما يسمى "الحياة العامة.. وإنما تعني فصل كل القيم الدينية والأخلاقية والإنسانية (المتجاوزة لقوانين الحركة والحواس) عن العالم، أي عن كلّ من الإنسان (في حياته العامة والخاصة) والطبيعة ونزع القداسة عنهما، بحيث يصبح العالم مادة نسبية لا قداسة لها، يوظفها الإنسان الأقوى لصالحه"(1).
هذا هو معنى العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة، كما شرحه الدكتور المسيري. وقد تبنى هذا التقسيم بعض المفكرين والسياسيين ممن يطلق عليهم تيار الوسطية، ومنهم الأستاذ راشد الغنوشي.

رأي الأستاذ راشد الغنوشي في العلمانية:


لاعتبارات كثيرة، لا يمكن لنا أن نتحدث عن اللائكية في تونس دون التطرّق لرأي الأستاذ راشد الغنوشي وموقفه منها. وموقف الأستاذ راشد من اللائكية هو موقف الردّ في مرحلة أولى، والقبول في مرحلة ثانية.



أمّا الردّ فيفهم من قوله: "ولكننا كمسلمين لا نحتاج لهذه العلمانية من أجل تحرر العقول والمجتمعات من الأوهام والتسلط وتقدم العلوم والتقنيات، ففي الإسلام ما يغني عنها وفي شكل أعمق وأوسع... إن فكرة العلمانية في المحصلة النهائية ضد المجتمع المدني بل هي موت الإنسان حسب تعبير الأستاذ محسن الميلي... لا حل لهذه المعادلة في إطار المجتمع المدني الغربي المؤسس على العلمانية، وإنما حلها في إطار ديني إسلامي يجمع بين الدنيا والآخرة..."(2). وقوله: "لئن اختلف المسلمون حول مؤهلات هذا القائد ومصدر شرعيته، فإنهم أجمعوا حول الضرورة الشرعية لمنصب القيادة في الأمة، ولم تتحول هذه المسألة موضوع خلاف، إلا بأثر الغزو الغربي الذي حمل إلى المسلمين مشكلات غريبة عن تاريخهم وثقافتهم، مثل مشكلة الصراع بين الدين والدولة، وفصل الدين عن الدولة، إلا أن تصاعد الصحوة الإسلامية في الأمة، وتفاقم أزمات إفلاس الأنظمة العلمانية، وظهور نماذج حديثة للحكم الإسلامي، وتنامي المطالب بذلك نقل النقاش غالبا من المجال النظري حول أصالة الدولة في الإسلام إلى الحياتي، أي تنزيل ذلك المثل الأعلى في كل لحظة من لحظات حياتنا، بما يجعل الله حاضرا في حياتنا وقريبا منا أبدا، وبما يجعل حياتنا كلها عبادة"(3). وقوله: "نحن إذا نريد هذه الحداثة بما هي حرية مطلقة للعقل، وبما هي علم وصناعة وحتى بما هي ديمقراطية وسيادة الشعب، ولكن نريد أن ندخلها من بابنا الخاص وليس من باب فرنسا وليس من باب أمريكا، ولا من باب روسيا، أي من باب الإسلام لا العلمانية، أليس لنا الحقّ في أن ندخل العالم الحديث من بابنا الخاص؟"(4).

وأما القبول فيفهم من قوله: "... الحل العلماني تجاوز هذا المستوى الإجرائي إلى مستوى فكري فلسفي نقيض للدين من كل وجه وليس مجرد تخصيص له كما بدأ. حدث ذلك بالخصوص في بعض البيئات الغربية التي كان التدافع فيها شديدا عنيفا بين دعاة التحرر من جهة وبين الكنائس وحلفائها من ملوك الإقطاع من جهة أخرى مثلما حصل في فرنسا، حيث بلغت حدة التصادم أن رفع اليعاقبة الثائرون شعار "اشنقوا آخر ملك بأمعاء آخر قسيس". وبلغ تيار العلمانية الأصولية أو الملحدة أقصاه مع ماركس، إذ أعلن الحرب على الدين بوصفه أفيونا للشعوب، فقامت إمبراطورية الشيوعية على الإلحاد، فكانت أقصر الإمبراطوريات عمرا. أما نيتشة فقد أعلن موت الإله، وأعلنت وجودية سارتر التصادم الكامل بين الحرية وبين الإيمان "إما أن أكون حرا، أو يكون الله موجودا". العلمانية هنا تجاوزت مستواها الإجرائي الذي بدأت به متمثلا في حرية العقل وفي الفصل بين الدين والدولة، إلى المستوى الفلسفي أو العلمانية الشاملة مقابل العلمانية الجزئية بلغة المرحوم المسيري... أولا: يمكن اعتبار التمييز بين منظور علماني جزئي وآخر شمولي كالذي كشف عنه الدكتور عبد الوهاب المسيري تمييزا إجرائيا نافعا بهذا الصدد، لأنه يتيح لنا تجنب إطلاق حكم عام على مفهوم يبدو لأول وهلة واحدا، ولكن عند فحصه يبرز تعدد سياقاته. حتى إن الدكتور المسيري ذهب إلى قبول العلمانية الجزئية المؤمنة. ثانيا: العلمانية بصفتها بحثا حرا عن الحقيقة لا قيود فيه على العقل ولا على التجربة والاستقصاء غير ما يفرضه العقل على نفسه من قيود منهجية، ومن احترام لإنسانية الإنسان، العلمانية هذه بصفتها حرية مطلقة للعقل في البحث والنظر والتجربة لا يعترضها من مصادر الإسلام معترض. القرآن كله دعوة للنظر في كل شيء في الكون والحياة والإنسان، باعتبار ذلك تجليا لعظمة الخلاق والسبيل إلى معرفته وعبادته "زيادة العلم بالصنعة يزيد علما بالصانع" كما ذكر الحكيم ابن رشد... ثالثا: بهذا المعنى يمكن أن تجد العلمانية الجزئية لنفسها مكانا في تصور إسلامي اعترف بنوع من التمايز بين المجال السياسي بما هو شأن دنيوي يدور على جلب المصالح ودرء المفاسد، مما تأهل فيه العقل للإدراك، وبين المجال الديني وبالخصوص التعبدي مما لا سبيل إليه في كلياته وجزئياته غير سبيل الوحي من عقائد وشعائر وأخلاقيات ومقاصد. وشأن هذا ومرجعه ما ثبت بنص يقيني الثبوت ورودا ودلالة، ولذلك ميز الفقهاء والأصوليون بين مجال العبادات، والأصل فيه التقيد بالنصوص الواردة دون تعليل ولا تعطيل وبين مجال المعاملات، والأصل فيه البحث عن العلل والمقاصد والمآل، إذ الحكم يدور مع العلة. ومن هذا القبيل الحديث الصحيح "أنتم أعلم بأمور دنياكم"، وكان ذلك يتعلق بمسألة فنية زراعية. فلم يرسل الأنبياء عليهم السلام ليعلموا الناس فنون الزراعة والمواصلات والحروب وتنظيم المحاكم وفنون إدارات الدول. وحتى إن حدث أن مارسوها فليس ذلك من جوهر رسالتهم. ولذلك ميز الأصوليون في عمل الرسول عليه السلام بين مهمته الرسالية التبليغية، وبين ما يخرج عن ذلك من نشاطه السلطاني قاضيا ومحاربا ومفتيا وزوجا. الملزم للمسلمين يقتصر على الجانب الأول أما الجانب الثاني فيندرج ضمن الاجتهاد أو لنقل ضمن السياسة. وكان الأصحاب عندما يلتبس عليهم الأمر يسألون: أهذا الأمر وحي أم رأي؟ أي سياسة. فإذا كان الأول قالوا سمعنا وأطعنا وإذا كان من الصنف الثاني أعملوا رأيهم حتى وإن خالف رأي النبي عليه السلام..."(5).

وهكذا، فقد مرّ فكر الأستاذ راشد الغنوشي بمرحلتين:



مرحلة أولى يتعامل فيها مع العلمانية كمنظومة فكرية واحدة، وكفلسفة دخيلة على المجتمع الإسلامي لم تنشأ فيه "إلا بأثر الغزو الغربي الذي حمل إلى المسلمين مشكلات غريبة عن تاريخهم وثقافتهم، مثل مشكلة الصراع بين الدين والدولة، وفصل الدين عن الدولة"؛ لذا فنحن "كمسلمين لا نحتاج لهذه العلمانية... ففي الإسلام ما يغني عنها وفي شكل أعمق وأوسع"، وهي "في المحصلة النهائية ضد المجتمع المدني بل هي موت الإنسان".
ومرحلة ثانية ينظّر فيها للعلمانية الجزئية من خلال تفكيك المصطلح تبعا للدكتور المسيري، وفق منهج تجزئة المفهوم الذي "يتيح لنا تجنب إطلاق حكم عام على مفهوم يبدو لأول وهلة واحدا، ولكن عند فحصه يبرز تعدد سياقاته"، و"بهذا المعنى يمكن أن تجد العلمانية الجزئية لنفسها مكانا في تصور إسلامي".

ملاحظات على تقسيم العلمانية إلى جزئية وشاملة:


بالنسبة لنا، فإننا نتعامل مع العلمانية كفكرة كلية واحدة، ولا نرى فائدة في تقسيمها لأسباب كثيرة منها:



1. عرّف الدكتور المسيري العلمانية الجزئية بقوله: "هي رؤية جزئية للواقع (برجماتية ـ إجرائية) لا تتعامل مع أبعاده الكلية والنهائية (المعرفية) ومن ثمّ لا تتسم بالشمول. وتذهب هذه الرؤية إلى وجوب فصل الدين عن عالم السياسة وربما الاقتصاد، وهو ما يُعبَّر عنه بعبارة «فصل الدين عن الدولة»". وبناء عليه نسأل: ماذا بقى للدين إذا فصل عن السياسة والاقتصاد؟ وما قيمة الدين إذا لم يتدخل في شؤون السياسة والاقتصاد؟ وما علاقته بالدنيا إذا فصل عن الدولة؟



2. واقع العلمانية الجزئية أنّها لا تختلف عن العلمانية الشاملة من حيث تقييد الدين، وإنما تختلف عنها من حيث مجال التقييد أو هامش الحرية المعطاة للدين في المجتمع.



3. ليست العلمانية الجزئية مجرد رؤية برجماتية إجرائية بل هي رؤية معرفية تقوم على فلسفة عقلانية لا تقرّ بصلاحية الدين للحكم ورعاية شؤون الإنسان. فلا يمكن لنا أن نفصل "المستوى الإجرائي" للحل العلماني عن "المستوى الفكري الفلسفي"، بدليل سؤالنا: لماذا يجب الفصل؟ فيحتاج القائل بالعلمانية الجزئية إلى تبرير فكري معرفي يبرّر صدق الإجراء وصحته. وهو ما فعله الأستاذ راشد الغنوشي مثلا، رغم تأكيده على أنّ الحل العلماني مجرّد إجراء وليس فلسفة أو رؤية فكرية معرفية.



4. علينا أن نلاحظ، عند دراستنا للعقل الغربي، أننا نتعامل مع عقلين: عقل نظري وعقل عملي. فالعقل النظري الغربي هو عبارة عن تراكمات ومذاهب وأطروحات فكرية فلسفية مختلفة بل متناقضة أحيانا، وأما العقل الغربي العملي فهو العقل السائد الواقعي أو هو المبدأ الذي تقوم عليه الدول الغربية بما يمثلّه من عقيدة ونظام. وهنا نسأل: هل صراع الأمة الإسلامية مع العقل الغربي العملي أم مع العقل النظري.


واقع الأمر، أنّ الأمة في صراع مع عقل عملي وليس مع عقل نظري. فنحن في صراع مع لائكية فرنسا وعلمانية ألمانيا، ولسنا في صراع مباشر مع وجودية سارتر وعدمية نيتشه. لذا، فإنّ الحديث عن علمانية شاملة مادية ملحدة كنقيض لعلمانية جزئية إجرائية "مؤمنة"، هو فخّ معرفي فلسفي، ونافذة غير مرئية تدخلنا من حيث لا نشعر في دائرة العقل الغربي العملي.


5. عادة ما يتحدث أصحاب تقسيم العلمانية إلى جزئية وشاملة عن نموذجين يكشفان عن مظاهر العلمانية بشقيها. فتقدّم فرنسا كنموذج لللائكية الشاملة المضادة للدين، وعلى النقيض من ذلك تقدّم انجلترا كنموذج للعلمانية الجزئية حيث تبرز بعض مظاهر الدين في المجتمع.



والحقيقة، أنّ فرنسا غير معادية للدين (وفق فهمها للدين). يقول ###ولا ساركوزي: "لا يمكن لنا أن نعتمد في تربية الشباب على قيم زمنية أو مادية فقط... فالمنظومة الأخلاقية تكون أكثر صلابة وتجذر إذا انطلقت من منطلق روحي ديني....". ويقول: "إن الدين عنصر حضاري (بمعنى أنه مساهم في التحضر)...". ويقول: "فيما يتعلّق بنقل القيم وتعلّم الفرق بين الخير والشرّ، فإنّ المعلم لا يمكن له البتة أن يحلّ مكان رجل الدين (le curé ou le pasteur)"(6). فساركوزي اللائكي لا ينكر دور الدين في بناء منظومة أخلاقية صلبة، ولا يعادي الدين بمعناه الغربي أي باعتباره علاقة شخصية بين الإنسان وربه، إنما يعادي الإسلام؛ لأنه لا ينطبق عليه تعريف الدين من منظور غربي. ويمكن القول إن فرنسا تلتزم بعلمانية صارمة تحاول تقليص ظهور الدين في الحياة العامة، وتسعى إلى إبقائه ضمن حدود الحياة الشخصية بقوة القانون.



وأما انجلترا، فالملكة فيها على رأس الكنيسة الأنجليكانية، ولكنّها لا تحكم؛ إذ الملكية كالدين في إنجلترا رمزية اعتبارية لا غير. ويشرح البروفيسور عبد الله أحمد النعيم (في كتابه الإسلام والدولة العلمانية) الحالة الانجليزية فيقول: " ومع أنها ظلت الدين الرسمي للدولة إلا أن علاقة الكنيسة الأنجليكية بالدولة أصبحت رمزية وطقوسية فقط... ومع القبول الشائع لهذه العلاقة بين الدين وعلمانية الدولة، هناك بعض التوتر والغموض بالنسبة للتعليم مثلا... إلا أنه لا شك في حقيقة علمانية الدولة في إنجلترا..."(7). ويمكن القول إن إنجلترا تلتزم بعلمانية لينة تسمح بمساحات أكبر لظهور الدين في الحياة العامة بخلاف فرنسا، ولكنها علمانية بمعنى أنها تفصل الدين عن الدولة عمليا من حيث التشريع والتقنين. كما يمكن القول، إنّ النموذج العلماني النظري التونسي (وفق الدستور) شبيه بنموذج إنجلترا، وأما النموذج العلماني العملي، فهو بلا شكّ أشد صرامة من النموذج الفرنسي.



والقصد من هذا الكلام، أنّ العلمانية علمانية بغضّ النظر عن نماذجها، وأنساق تنزيلها على الواقع وأنماط تطبقيها. فلا معنى للعلمانية الجزئية، إلا تبعيض وجود الدين وممارسته في المجتمع، ولا شكّ في بطلان هذا من منظور إسلامي. قال الله تعالى: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ}.



هذه بعض الملاحظات على تقسيم العلمانية إلى جزئية وشاملة، وسنفصّل فيها أكثر حين الردّ على الشبهات.

يتبع إن شاء الله تعالى...

_______________________
(1) العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة، د. عبد الوهاب المسيري، ج1 ص220-221
(2) أنظر: مقاربات في العلمانية والمجتمع المدني، لراشد الغنوشي، ص104-109
(3) السابق، ص122
(4) السابق، ص156
(5) مقال: الإسلام والعلمانية، لراشد الغنوشي، الخميس 13 تشرين الثاني (نوفمبر) 2008م.
عن موقع: http://www.ghannoushi.net/ (http://www.ghannoushi.net/)
(6) ينظر: Le livre noir de la laïcité. Les atteintes à la laïcité de l'enseignement : un cas d'école, intervention de Eddy khaldi. Gauche Avenir, p.31
(7) ينظر: http://sharia.law.emory.edu/ar

الهزبر
2011-04-01, 12:55 AM
السلام عليكم




اللائكية في ميزان العقل والنقل (5)





الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه



العلمانية الشيوعية في تونس:



في ندوة صحفية عقدها حزب العمال الشيوعي التونسي يوم الأربعاء 23 مارس 2011م بمناسبة الاعتراف به، ألحّ حمة الهمامي "على ضرورة فصل الدين عن الدولة"، واعتبر " أن علاقة الدولة بالدين لا ترتبط بالهوية التونسية التي تمتد على أكثر من ثلاثة آلاف سنة، ولكن العلاقة ومسألة الدين والدولة مربوطة أساسا بالحريات وحقوق الإنسان. هذا النقاش قد يتحوّل إلى الشجرة التي تحجب الغابة. عربي ومسلم من أجل ماذا؟ تساءل الهمامي مؤكدا على قيمة الفكر والديمقراطية والمساواة والعدالة الاجتماعية والتوزيع العادل للثروة وحرية الإبداع"(1).



ورغم الدعوة إلى العلمانية إلا أن حزب العمال الشيوعي يسعى جاهدا إلى الظهور بمظهر المحايد للدين بل بمظهر المدافع عنه.

يقول حمة الهمامي (في كتاب: في اللائكية): "ولابدّ من الإشارة إلى أن القوى السياسية الظلامية وغيرها من القوى الرجعية روّجت وتروج وابلا من الأكاذيب والافتراءات بشأن اللائكية (أو العلمانية). فهي تزعم أن اللائكية تعني الإلحاد وقمع المؤمنين ومنعهم من ممارسة شعائرهم الدينية في كنف الحرية والطمأنينة. وفي الحقيقة لو عكسوا لأصابوا. فليس ثمة من ضامن لحرية المعتقد أكثر من الدولة اللائكية. إن اللائكية، وليكن ذلك واضحا للجميع، لا تعني الإلحاد، بل فقط تحويل الدولة إلى مؤسسة مدنية تضمن مساواة أبناء الوطن الواحد في الحقوق والواجبات مهما كان جنسهم أو معتقدهم أو مذهبهم. فيمارس المواطن معتقده بكل حرية ودون أن تتدخل الإدارة لتفرض عليه هذا المعتقد أو ذاك أو لتميّز بين هذا المواطن أو ذاك بسب معتقده أو لتمنع الناس من التفكير الحرّ بدعوى أن ذلك مناف لتعاليم الدين، الخ. بعبارة أوضح يعتبر المعتقد في ظل الدولة اللائكية مسألة شخصية يحسمها الفرد بينه وبين نفسه دون أن ينجرّ عن ذلك مساس بحقوقه أو بذاته"(2).



ويقول مبيّنا موقف الاشتراكية من الحرية الدينية (في مطارحات حول قضيّة المرأة: مسألة الحجاب/الخمار والعلمانية): "إن الذين يَعْرِفون التراث الاشتراكي يدركون أن مَن وضعوه وطوّروه لم يدافعوا، خلافا لما تدعيه بعض الأطراف "اليسارية"، عن الأساليب الإدارية القمعية في التعامل مع القضايا العقدية. فـ كارل ماركس وفريدريك أنجلس مؤسّسا الاشتراكية العلمية ناهضا بشدة التطرف اللاديني أو الإلحادي لما فيه من ضرر بقضية العمال والكادحين. إن ماركس الذي دعا الاشتراكيين إلى النضال من أجل تحرير العمال من الأوهام الدينية التي تستغلها البورجوازية لتحملهم على قبول واقعهم المزري والتخلي عن السعادة في دنياهم في انتظار "سعادة الآخرة" التي يُقال لهم إنها ستعوّض لهم بؤسهم الدنيوي، دافع بحزم عن حرية الضمير مؤكدا أنه "ينبغي أن يكون في وسع كل امرئ أن يُلـَبـّيَ حاجاته الدينية والجسدية (الطقوس– من عندنا) على السّواء دون أن يحشر البوليس أنفه في الموضوع" (كارل ماركس- نقد برنامج غوته). وهذا هو معنى أن يكون الدين "قضيّة خاصة بالنسبة إلى الدولة"، لا تتدخل فيه و لا تفرض شكلا من أشكال العقائد أو القناعات على مواطنيها. أما أنجلس الذي كتب الكثير حول الدين وحول الحركات الدينية عبر التاريخ، فإنه سَخـَرَ أيّما سخرية وهو بصدد الرد على الفوضوية والفوضويين الذين يمثلون الترجمة المكثفة للنفسية البرجوازية الصغيرة التي تخفي عجزها بالبريق الراديكالي، سخر من أولئك الذين يزعمون أنهم قادرون على إلغاء الدين من حياة الناس وفرض الإلحاد بمجرد قرار فوقي، مبينا أنه بإمكان المرء أن يُسطـّر ما يريد على الورق دون أن يجد ذلك طريقه إلى التنفيذ، وأن القرارات التعسّفية هي أحسن وسيلة لتقوية القناعات الغيبية. وفي نفس الإطار انتقد أنجلس بشدة قوانين بيسمارك التي سنـّها في إطار ما سُمّي "النضال الثقافي" للتضييق على الحزب الكاثوليكي الألماني بواسطة القمع البوليسي للكاثوليكية والتي لم تجد طريقها إلى التنفيذ بل عُلّقت ثم أُلغيت لطابعها الفوقي التعسّفي، علما وأنها لم تفعل شيئا سوى توطيد الإكليريكيّة الكاثوليكية وإنزال الضرر بقضية الثقافة الفعلية أي الثقافة التقدّميّة التي ترتقي بوعي الشعب (أنجلس، نصوص حول الدين. ص 142 – المنشورات الاجتماعية، فرنسا 1972). لقد اعتبر أنجلس هذا التمشـّي الإداري خطيرا لأنه "يبرز إلى السّطح الانقسامات الدّينيّة بدلا من الانقسامات السّياسيّة و يصرف انتباه فئات من الطبقة العاملة وعناصر ديمقراطية أخرى بعيدا عن المهامّ الجوهريّة للصراع الطبقي والثوري نحو عداء الإكليريكيّة السطحي جدّا و الكاذب بشكل بورجوازيّ جدّا" (لينين، نصوص حول الموقف من الدّين، ص 100-101، دار الطليعة، بيروت،1978). وبناء على هذا الموقف المادّي الجدلي، ناضل أنجلس كما ناضل الاشتراكيون-الديمقراطيون الألمان في أواخر القرن التاسع عشر من أجل إلغاء كلّ التدابير الزجريّة البوليسيّة ضدّ أيّ دين من الأديان في نفس الوقت الذي كانوا يشرحون فيه للعمّال الجذور التاريخيّة و الاجتماعيّة لهذه الأديان و ينبّهونهم إلى دور الكنيسة في محاولة إخضاعهم للاستغلال و إلهائهم عن النضال ضدّه. وكان أوغـست بيبل الزعيم الاشتراكي الألماني سخـر من التطرف اللاديني ونفى أن تكون له صلة بالاشتراكية العلمية واصفا النزعة المتطرفة في معاداة الأكليروس (anti-cléricalisme) بأنها "اشتراكية البورجوازية الصغيرة" باعتبارها تعزل الدين عن قاعدته الاجتماعية وتحاربه بصورة تبشيريّة تجريدية موضحا أن الخطاب المتطرف ضد الدين لا يعني بالضرورة أنه الخطاب القادر على تخليص الجماهير الكادحة من الأوهام الدينية، بل إنه خطاب بورجوازي راديكالي يترجم عن فكرة سطحيّة تزعم أنّ الفكر و الثقافة يفعلان فعلهما بواسطة نفسيهما و ليس من خلال الصراع الطبقي الملموس. وقد انتقد لينين في كتاباته السياسية انتقادا لاذعا دور الكنيسة في مساندة الاستبداد القيصري وبث الأوهام الدينية الرجعية في صفوف العمال والفلاحين حتى يقبلوا بواقعهم المزري ويتخلوا عن النضال من أجل تغييره كي يكدّس الملاكون العقاريون وأصحاب المصانع الثروات على حسابهم و دعا إلى مقاومة تلك الأوهام، ولكنه كان في الآن نفسه حازما بخصوص الأسلوب الذي ينبغي اتـّباعه في هذه المقاومة: لا حربَ سياسيّة على الدّين بل حربًا على الاستغلال الرأسمالي الذي تكمن فيه الجذور الاجتماعيّة للأوهام الدّينيّة، ولا قمعَ بوليسيًّا للأديان و القناعات بل الحريّة لها جميعًا، ولا صراعَ مع العقائد المختلفة إلا بالأسلحة الفكريّة المحظة، ولا تقسيمَ للعمّال والشعوب على أساس العقيدة بل توحيدها ضدّ الاستغلال و الاضطهاد. ولم يتردّد لينين في الدّعوة إلى قبول العمّال المتديّنين في صفوف الحزب طالما أنهم يتبنـّون برنامجه السياسي ويدافعون عنه مشدّدا على عدم توجيه أي إساءة إلى قناعاتهم الدّينيّة. لقد كان الهمّ الأوّل للينين توحيد نضال العمّال ضدّ الاستغلال الرأسمالي باعتباره العامل الذي من شأنه أن يرتقي بوعيهم و يحرّرهم من تأثيرات الكنيسة الرجعيّة. (لينين، نصوص حول الموقف من الدين، دار الطليعة بيروت، الطبعة الثانية 1978). إن هؤلاء المفكرين الاشتراكيين العظام لم يكن برنامجهم السياسي "محاربة الدين" و"نشر الإلحاد"، بل إن هدفهم لم يكن خوض معركة مجردة ومقطوعة عن الواقع ضد الدين..."(3).



حقيقة الشيوعية في تونس:



يصرّ الشيوعيون في تونس على أن اللائكية لا تعني الإلحاد أو محاربة الدين، وقد يكون في هذا الكلام بعض الصواب إذا كان اللائكي غير ملحد، ولكن السؤال الذي يحاول الشيوعيون تجنبه هو: ما موقف الشيوعية من الدين؟ وإذا كانت اللائكية لا تعني الإلحاد بالضرورة، فهل تعنيه الشيوعية بالضرورة أم لا؟

يقول لينين (في الاشتراكية والدين): "يجب أن يعلن الدين كمسألة شخصية. من خلال هذه الكلمات فإن الاشتراكي عادة ما يعبّر عن موقفه تجاه الدين، ولكن لنتجنب سوء الفهم يلزمنا أن نحدّد معنى هذه الكلمات بكل دقة؛ إننا نطالب بأن يكون الدين مسألة شخصية إذا تعلّق الأمر بالدولة، وأما إذا تعلّق الأمر بالحزب فلا يمكننا البتة اعتبار الدين مسألة شخصية. فيجب أن لا تهمّ الدولة بالدين، ويجب أن لا يكون للهيئات الدينية أي صلة بالسلطة الحكومية. كما يجب أن يكون كل شخص حرا في ممارسة أي دين يرغب فيه، وأن يكون حرا أيضا في عدم ممارسة أي دين بمعنى أن يكون ملحدا [غير مؤمن بدين]، وهذا كقاعدة عامة [أي الإلحاد] حال كل اشتراكي... وأما إذا تعلّق الأمر بحزب البروليتاريا الاشتراكية فإن الدين ليس مسألة شخصية. إنّ حزبنا هو جمعية من الطبقة الواعية ومن الطلائع المقاتلة من أجل تحرّر الطبقة العاملة، ومثل هذه الجمعية لا تستطيع، ولا ينبغي لها، أن لا تهتم بغياب الوعي الطبقي والجهل أو الظلامية المتمثلة في شكل عقائد دينية. إننا نطالب بالفصل الكامل للكنيسة عن الدولة حتى نتمكن من محاربة ضبابية الدين بأسلحة أيديولوجية محضة فقط... لقد أوجدنا هذه الجمعية – حزب العمال الاشتراكي الديمقراطي الروسي- تحديدا لهذا الغرض وهو الصراع ضد كل تضليل ديني للعمال. فبالنسبة لنا، ليس الصراع الأيديولوجي مسألة شخصية، إنما هو قضية الحزب بأكمله، وقضية كل البروليتاريا"(4).

هنا، يميّز لينين بين موقفين:

الأول، هو موقف الدولة من الدين: ويقوم هذا الموقف على تبني الدولة لللائكية لعزل الدين عن المجتمع، وحصره في الجانب الخاص كمسألة شخصية؛ من أجل محاربته بأسلحة أيديولوجية.

الثاني، هو موقف الحزب من الدين: ويقوم هذا الموقف على تبني الحزب الاشتراكي الشيوعي للإلحاد كأيديولوجية، مما يعني أنّ الإلحاد ومحاربة الدين هي قضية عقدية لكل ماركسي لينيني شيوعي. "فنقد الدين – عند الماركسية – هو أساس كل نقد". يقول ستالين: "يجب أن يكون مفهوما أن الدين خرافة، وأن فكرة الله خرافة، وأن الإلحاد هو مذهبنا"(5).

وعليه، فإن الإسلام عند الشيوعيين في تونس، خرافة ووهم ومنظومة رجعية ظلامية؛ لأنّ مذهبهم هو الإلحاد وإنكار وجود الله. يقول لينين: "ليس صحيحا أن الله هو الذي ينظم الأكوان... وإنما الصحيح هو أن الله فكرة خرافية اختلقها الإنسان ليبرر عجزه... ولهذا فان كل شخص يدافع عن فكرة الله إنما هو شخص جاهل عاجز"(6).



وهنا، قد يخطر ببال القارئ سؤال سأله لينين نفسه. قال: "إذا كان الأمر كذلك، فلماذا لا نعلن في برامجنا بأننا ملحدون؟ ولماذا لا نمنع المسيحيين أو غيرهم من المؤمنين بإله من الانضمام إلى حزبنا؟"(7).



يشرح لنا لينين السبب وراء عدم التنصيص على الإلحاد في برنامج الحزب، مؤكدا على أن برنامج الحزب وما تبناه من فكر يقوم على المنهج العلمي والنظرة المادية للعالم؛ فإذا وقع شرح برنامج الحزب للعمال، فسيقع آليا شرح الجذور الحقيقية لضبابية الدين من ناحية تاريخية واقتصادية. ويؤكد لينين أيضا على أنّ الدعوة إلى الاشتراكية تقتضي ضرورة الدعوة إلى الإلحاد، إلا أنّ الحزب الاشتراكي لا يطرح قضية الدين كقضية فكرية ولا يبحثها وفق نزعة تجريدية مثالية؛ لأنه لا يمكن في مثل هذا الواقع القضاء على الدين. ومن هنا، فإن العمل الموحد مع هذه الطبقة المقهورة من أجل خلق الجنة على الأرض، أهم بكثير من توحد موقف البروليتاريا حول الجنة في السماء(8).



وعليه، فالدعوة إلى الشيوعية دعوة ضمنية إلى الإلحاد، إلا أنّ هذه الدعوة لا تأخذ شكل الصراع الفكري البارز في مجتمع متديّن لكي لا ينصرف العمال عن النضال الثوري. فالمسألة إذن بالنسبة للشيوعيين مسألة تكتيكية بحتة.



تنبيه:




لاحظ أنّ جل الحركات السياسية كحركة النهضة وحزب العمال الشيوعي، وأغلب الأشخاص كصلاح الدين الجورشي وعبد الفتاح مورو، يؤكدون دوما على تجنب الصراع الأيديولوجي في الفترة الحالية، والتركيز على قضايا المجتمع، بمعنى عدم الخوض في الإسلام أو اللائكية أو الشيوعية من ناحية فكرية عقدية والاقتصار على معالجة بعض مشاكل المجتمع التونسي، السياسية منها والاقتصادية والاجتماعية. والواقع، أن تغييب الصراع الفكري العقدي عن المجتمع هو غاية الشيوعية، وهو نوع من أنواع العلمنة المنتجة لتغييب الدين ككل.




ونحن نقول: إن الصراع الفكري العقدي هو أساس كل صراع، فلا تتحقّق النهضة ولا التغيير الحقيقي إلا به. قال الله تعالى: {مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ}. فلا يجتمع الكفر والإيمان في قلب رجل، ولا يجتمعان أيضا في قلب مجتمع؛ فلا بدّ من إحقاق الحقّ وإبطال الباطل عبر صراع فكري عقدي، تنتصر فيه فكرة واحدة يؤسس عليها المجتمع. وأمّا ما يسمى بـ"التعددية الثقافية" في المجتمع، فهو من خيال الغرب الذي اختلقه وتخلى عنه بعد أن تبيّن له عدم واقعيته. لذلك رأينا الغرب يعلن موت التعددية الثقافية عبر ساسته كميركل وكاميرون وساركوزي، وعبر فلاسفته كيورغن هابرماس و باسكال بروكنر؛ لأنّ المجتمع في حقيقته لا يقوم إلا على ثقافة واحدة. ولكن هل تتسامح الثقافة الرائدة مع بقية الثقافات أو لا؟ وكيف تتسامح؟ فتلك مسألة أخرى.



اللائكية: أوّل مراحل الإلحاد:



قلنا: إنّ الدعوة إلى الشيوعية دعوة ضمنية إلى الإلحاد، والحزب الشيوعي يدعو بالضرورة إلى الإلحاد، ولكن السؤال الآن: كيف يتحقّق الإلحاد في المجتمع؟



والجواب هو: أنّ الإلحاد عند الشيوعيين يتحقّق من خلال اللائكية التي تعدّ عندهم أوّل مراحل الإلحاد. وإليك البيان:

قال حمة الهمامي (في مطارحات حول قضيّة المرأة: مسألة الحجاب/الخمار والعلمانية): "إن القمع لم يكن في يوم من الأيام وسيلة لتحرير الإنسان من الأوهام الدينية أو من الخرافات والأساطير التي تتخذ طابعا عقديا. لأن القناعات سواء كانت دينية أو إيديولوجية لا تتغير إلا بالنقاش والإقناع، بل لا تتغير إلا إذا توفرت الأرضية الاجتماعية والثقافية المناسبة التي تجعل المعنيات أو المعنيين يقتنعون بأن القناعات الجديدة تمكنهم من تحقيق ذواتهم"(9).



وقال: "إن هؤلاء المفكرين الاشتراكيين العظام لم يكن برنامجهم السياسي "محاربة الدين" و"نشر الإلحاد"، بل إن هدفهم لم يكن خوض معركة مجردة ومقطوعة عن الواقع ضد الدين. إن ذلك مناف لنظرتهم أصلا، التي تركز أولا وقبل كل شيء على تغيير الشروط الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية للعمال والكادحين، لخلق الشروط الإنسانية لحياة لا يحتاج فيها الفقير والضعيف لأوهام دينية كي يهرب من واقعه المزري"(10).



وقال: "وخلاصة القول إن معارضة الحجاب/الخمار ينبغي أن تكون جزءا من بديل ديمقراطي تقدمي وطني شامل، يهدف إلى وضع حدّ للاستبداد في بلادنا، ويسدّ الباب أمام أي استبداد آخر مهما كان لونه، ويفتح آفاقا للشعب التونسي بأسره وللنساء خصوصا ويخلصهن من كافة أشكال الاستلاب الفكري والاقتصادي والسياسي ويجعل منهم سيّدات مصيرهن وأجسادهن وذواتهن المعنوية، ومن المؤكد أنه يوم يتحقق كل هذا للنساء التونسيات فإنهن سيتخلّيْن طواعية عن الخمار، ولكن أيضا عن كل أشكال اللباس التي تشيّؤهنّ، وستنظرن إلى ذلك على أنه مجرد ذكريات تنتمي إلى عصور الوحشية"(11).




فحمة الهمامي لا يدافع عن الدين؛ إذ يصرّح بأن الدين أوهام وخرافات، إنما يدافع عن أطروحة الماركسية التي تقول باندثار الدين وغلبة الإلحاد إذا تهيأت ظروفه. فلم يفعل الهمامي شيئا سوى تفسير عبارة لينين: "إننا نطالب بالفصل الكامل للكنيسة عن الدولة حتى نتمكن من محاربة ضبابية الدين بأسلحة أيديولوجية محضة فقط...". فهو يعتبر الخمار رمز تخلف ورجعية، ولكن لا يقول بقمع لابسته وقهرها، إنما بعلمنة المجتمع التي ستفرز التخلي عن قيم الدين آليا.




وأما قول الهمامي: "إن ماركس... دافع بحزم عن حرية الضمير مؤكدا أنه "ينبغي أن يكون في وسع كل امرئ أن يُلـَبـّيَ حاجاته الدينية والجسدية (الطقوس– من عندنا) على السّواء دون أن يحشر البوليس أنفه في الموضوع" (كارل ماركس- نقد برنامج غوته)". فهو من باب تجميل مظهر الشيوعية الملحدة أمام الشعب التونسي المسلم. وهي حيلة لا تنطلي على هذا الشعب الذي قرأ نصّ ماركس كاملا وليس جزءا منه كما ساقه الهمامي. فالنص الكامل لماركس هو: "حرية الاعتقاد: إذا كان يراد بهذا أيام النضال من أجل الثقافة هذه، تذكير الليبراليين بشعاراتهم القديمة، فلم يكن بالإمكان تحقيق هذه الرغبة إلا على النحو التالي: "ينبغي أن يكون في وسع كل امرئ أن يلبي حاجاته الدينية والجسدية على السواء دون أن يحشر البوليس أنفه في الموضوع". ولكنه كان على الحزب أن ينتهز هذه الفرصة ويعرب عن اقتناعه بأن "حرية الاعتـقاد" البرجوازية لا تعني بالفعل سوى التساهل بجميع الأنواع الممكنة من "حرية المعتـقد الديني" وأن يعلن أنه بالعكس يسعى جاهدا إلى تحرير الضمائر من الأوهام والخرافات الدينية. ولكن بعضهم عندنا يمتنع عن تجاوز المستوى البرجوازي"(12)

.

"إن الدين حسب تعبير كارل ماركس هو "التحقيق الوهمي للكائن الإنساني لأن الكائن الإنساني لا يملك واقعا حقيقيا". وهذا ما يفترض من وجهة ثانية تشبث الجماهير المسحوقة به لأن التعويض الوهمي الذي يوفره لها هو ما يخفف عنها وطأة الاضطهاد، فالمساواة الحقيقية في المجتمع مثلا يستعاض عنها بمساواة وهمية معنوية كالأخوة في الدين أو المساواة الحقوقية، وهذه المساواة لا تميز جوهر العلاقات القائمة لكنها ترفع معنويات المؤمنين بها إذ تلغي بجرة قلم الفوارق الطبقية وتصالح الإنسان مع واقعه ومع مضطهِديه. ويصبح الاغتراب الاجتماعي بذلك منتجا آليا لاغتراب آخر في مستوى الوعي ولأن الدين تعويض وهمي وسعادة وهمية للشعب فإن إلغاء شتى صنوف الاستغلال وتحقيق سعادة الإنسان الفعلية على وجه الأرض هو الشرط الضروري لإلغاء الدين... يقول كارل ماركس : "إن إلغاء الدين من حيث هو سعادة وهمية للشعب هو ما يتطلبه صنع سعادته الفعلية. إن تطلب تخلى الشعب عن الوهم حول وضعه هو تطلب التخلي عن وضع بحاجة إلى وهم"..."(13).

فاللائكية إذن ليست إلا مرحلة من المراحل التي تقود إلى هيمنة الأيديولوجية الشيوعية الملحدة. وفي هذه المرحلة، تحقّق الشيوعية السعادة الحقيقة للإنسان، فيتخلى آليا عن سعادته الوهمية أي الدين.



يتبع إن شاء الله تعالى...

________________________

(1) تغطية جريدة "الصحافة" للندوة الصحفية التي عقدها حزب العمال يوم الأربعاء 23 مارس 2011 بمناسبة الاعتراف به.

أنظر: http://www.albadil.org/spip.php?article3750 (http://www.albadil.org/spip.php?article3750)

(2) http://www.albadil.org/spip.php?article2337 (http://www.albadil.org/spip.php?article2337)

(3) http://www.albadil.org/spip.php?article1602 (http://www.albadil.org/spip.php?article1602)

(4) ترجمة خاصة: Socialism and Religion, Lenin



http://www.marxists.org/archive/lenin/works/1905/dec/03.htm (http://www.marxists.org/archive/lenin/works/1905/dec/03.htm)



(5) عن العمل وحقوق العامل في الإسلام، باقر شريف القرشي، ص95

(6) المصدر السابق.

(7) ترجمة خاصة: Socialism and Religion, Lenin



http://www.marxists.org/archive/lenin/works/1905/dec/03.htm (http://www.marxists.org/archive/lenin/works/1905/dec/03.htm)

(8) ينظر المصدر السابق.

(9) http://www.albadil.org/spip.php?article1602 (http://www.albadil.org/spip.php?article1602)

(10) المصدر السابق.

(11) المصدر السابق.

(12) كارل ماركس: نقد برنامج غوته

http://www.marxists.org/arabic/archive/marx/1875-cg/04.htm (http://www.marxists.org/arabic/archive/marx/1875-cg/04.htm)

(13) حول الدين، لمحمد علي الماوي، مركز الدراسات والأبحاث العلمانية في العالم العربي.

http://www.ssrcaw.org/ar/show.art.asp?t=2&aid=247638 (http://www.ssrcaw.org/ar/show.art.asp?t=2&aid=247638)

الهزبر
2011-04-01, 01:08 AM
السلام عليكم




اللائكية في ميزان العقل والنقل (6)




الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه

اللائكية في ميزان العقل:



مناقشتنا العقلية لللائكية تختلف باختلاف اللائكيين أنفسهم:

1. مناقشة الملحد:

إذا كان اللائكي ملحدا لا يؤمن بوجود إله ولا يؤمن بدين كالشيوعي مثلا، فلا نناقش معه فكرة فصل الدين عن الحياة، إنما نناقش معه إثبات وجود الله وما ينجرّ عنه من إثبات الدين؛ فمن الخطأ المنهجي أن نناقش مسألة فصل الدين عن الحياة مع ملحد غير مؤمن بالدين.
فلو قال شيوعي: أنا أطالب بفصل الدين عن الحياة في تونس.
قلنا له: هل تؤمن بدين، أو هل تؤمن بالإسلام الذي هو دين أهل تونس؟
الأصل أن يقول الشيوعي: أنا أنكر وجود إله أصلا، وأرى الدين من صنع الإنسان، وأعدّه عامل رجعية وتخلف.
هذا الجواب يتفق مع مبدأ الشيوعي وينسجم مع تصوّره الفكري العقدي. وبناء عليه نقول: المشكلة إذن تتعلّق بالفكرة الأساسية وهي إثبات وجود إله؛ فلنبحث أولا وجود الله أو عدم وجوده، ثم نبحث بعدها في تطبيق شرعه أو عدم تطبيقه. وبعبارة أخرى: حاكمية الله متفرعة عن إثبات وجوده والإقرار بربوبيته وألوهيته، فلنبحث أولا في وجوده أو عدم وجوده، ثم نبحث بعدها في حاكميته أو عدم حاكميته.
ولكن الشيوعي في تونس يخالف هذا الأصل (لاعتبارات تكتيكية) ويقول: ليست اللائكية بالنسبة لي مشكلة دينية إنما هي مشكلة سياسية. وأنا لست ضد كون الدين من مكونات المجتمع في تونس، ولا أطالب بتخلي التونسي عنه، إنما أطالب بحصره في الحياة الخاصة وإبعاده عن الحياة العامة، ثم من شاء أن يؤمن فليؤمن، ومن شاء أن يلحد فليلحد.
والجواب على هذا من خلال سؤال: من قال بحصر الدين في الحياة الخاصة وإبعاده عن الحياة العامة؟

فإن قال الشيوعي: قال هذا الدين نفسه.


قلنا: إذن أصبحت اللائكية مسألة دينية نبحث فيها عن حكم الشرع، وأنتم لا تقولون بهذا. ثمّ، إذا زعمت أنّ الدين نفسه يقول بفصله عن الدولة، فعليك أن تثبت ذلك من الدين، وليس لك ذلك؛ لأنك لا تؤمن به، فكيف تحكمه؟



فإن قلت: لا أحكمه، إنما أذكر أقوال العلماء كعلي عبد الرازق، بمعنى أحكم أهله فيه؟



قلنا: سنذكر لك العشرات من العلماء، كالطاهر ابن عاشور ومحمد العزيز جعيط ومحمد الخضر حسين ومحمد البشير النيفر ومحمد الشاذلي ابن القاضي وغيرهم، وكلّهم يقول: الإسلام دين ودولة. فلو حكمنا في هذه المسألة "حكما ديمقراطيا" لكنت الخاسر فيه؛ لأنّ الإسلام عند العلماء لا ينفصل عن الدولة.

أما إن قال الشيوعي: أنا قلت هذا. وأنا لا أكرهك على ترك الدين ولكن أكرهك على حصر الدين في بيتك. فليكن إيمانك في بيتك.


قلنا: ليس لك أن تعرّف الدين بنفسك وتلزمني بتعريفك. فهذا هو الإقصاء بعينه. وأنا لا أوافقك على تعريفك وأعرّف الدين بأنه عقيدة ونظام حياة. وأنا لا أكرهك على الإيمان بالدين، ولكن أكرهك على حصر الكفر في بيتك. فليكن كفرك في بيتك. فما الفرق بيننا إذن؟


فإن قال الشيوعي: الدولة الإسلامية عبر تاريخها مارست القمع وحاربت العقل، فكانت مثال النموذج الفاشل.



قلنا: لنفترض هذا جدلا، ولكن الدولة الشيوعية (الإتحاد السوفياتي) كانت أيضا فاشلة بل انهارت في مدة زمنية قياسية.


سيقول الشيوعي: كما قال الرفيق حمه الهمامي: "نحن لا نزال متمسكين بموقفنا الذي يعتبر التحريفية أي الحياد عن المبادئ الاشتراكية الحقيقية مسؤولة عن انهيار الأنظمة الاشتراكية و"الديمقراطية الشعبية" وعن تحولها إلى أنظمة بيروقراطية"(1).


سنقول: ونحن أيضا، نرى أن الدولة الإسلامية عبر تاريخها ارتكبت جملة من الأخطاء نتيجة سوء فهم للإسلام الصحيح. فسوء فهم الإسلام هو الذي أوجد الخلل وليس الإسلام.

فإن قال الشيوعي: في الدولة الإسلامية يغيب التسامح العقدي وتكبت الحريات ولا يسمح بالتعددية، ويمارس الحكم المطلق، وغير ذلك من مظاهر الديكتاتورية.


قلنا: هذا كذب، والشاهد يهود تونس الذين بقوا على يهوديتهم ولم تلزمهم الدولة الإسلامية بترك معتقدهم. وأما التعددية والحقّ في المحاسبة والنقد وغير ذلك، فيسمح به ضمن حدود الإسلام. بمعنى أن الدولة الشيوعية لا تسمح بوجود حزب يقوم على الإسلام ويدعو إلى قيام خلافة إسلامية، فكذلك الدولة الإسلامية لا تسمح بوجود حزب شيوعي يقوم على الماركسية أو الاشتراكية العلمية ويدعو إلى دولة شيوعية ملحدة. وهذه الدولة الشيوعية الملحدة دولة تسود فيها ديكتاتورية البروليتاريا؛ فهي دولة ديكتاتورية. فهل تلومنا على شيء تدعو إليه وتسعى إلى تطبيقه؟


سيقول الشيوعي: كما قال الرفيق حمه الهمامي: "من حيث النظرية لا نرى تناقضا بين دكتاتورية البروليتاريا والديمقراطية ويجب الرجوع إلى التراث الماركسي في هذا المجال. فكلمة دكتاتورية البروليتاريا قد تزعج لأن فيها كلمة دكتاتورية. لكن ينبغي النفاذ إلى الجوهر واجتناب الوقوف عند الشكليات. ففي كل نظام هناك طبقة اجتماعية تحكم وفي كل نظام حكم هناك جانب من الدكتاتورية وآخر من الديمقراطية والمهم معرفة ضد من تمارس الدكتاتورية ولفائدة من تمارس الديمقراطية: لفائدة الأقلية أم الأغلبية؟ في النظام الرأسمالي البورجوازية هي التي تحكم وتمارس دكتاتورية أقلية على الأغلبية. وفي النظام الاشتراكي الطبقة العاملة تحكم وتوفر الديمقراطية للأغلبية ولا تمارس الدكتاتورية إلا على الأقلية المستغلة، دكتاتورية اقتصادية وسياسية، الخ. إلى أن تنتهي مقاومة تلك الأقلية"(2).



سنقول: الديمقراطية الاشتراكية (لا البرجوازية) تمهّد لديكتاتورية عمالية "تستخدم البروليتاريا سلطتها السياسية لقمع مقاومة المستغلِين، ولدعم انتصار الثورة، ولإحباط أية محاولات لإعادة الحكم البورجوازي، ولضرب الأفعال العدوانية للرجعية الدولية"(3). فالديمقراطية الاشتراكية التي يدعو إليها الشيوعيون هي ديمقراطية طبقية تمهّد للقضاء على أقلية رجعية ومنها الدينية أو كما قال الهمامي: "لا تمارس الدكتاتورية إلا على الأقلية المستغلة، دكتاتورية اقتصادية وسياسية، الخ. إلى أن تنتهي مقاومة تلك الأقلية". ولا ندري متى أصبحت الديكتاتورية (العنف والقمع والاضطهاد) مقبولة إذا مورست على الأقلية فقط للقضاء عليها نهائيا؟ ولا ندري كيف جاز للشيوعيين وصف الإسلام بالديكتاتوري مع أن الديكتاتورية من ضمن أهدافهم بل هي شرط لازم عندهم لتحقّق الاشتراكية؟



فالقضية إذن، ليست قضية دولة ديكتاتورية، ولا قضية حقوق ولا حريات (لأنها نسبية)، إنما هي قضية مبادئ تتصارع فيما بينها. والشيوعي يريد فصل الدين عن الحياة العامة؛ لأنه لا يؤمن بالدين ويعتبره خرافة، ويعتبر فصله عن الحياة العامة مرحلة من مراحل القضاء عليه كليا في حالة ديكتاتورية البروليتاريا. ويذكر لنا التاريخ أن الشيوعيين عملوا على القضاء على التدين في دولة الاشتراكية.



"وتألفت الجماعات والهيئات للدعاية اللادينية، وأصدرت مجلة أسبوعية هي (بلا دين) وفي عام (1925) عقد بموسكو مؤتمر لوضع الإجراءات الخاصة بالقضاء على النزعة الدينية، وبث روح الإلحاد في المدارس والجيش وفي صفوف الأقليات القومية، وفي المدن والقرى، ووحدت الهيئات الإلحادية جهودها في (اتحاد الإلحاد) الذي بث فروعه في كافة أنحاء الاتحاد السوفياتي، وفي عام ( 1929) بلغ عدد فروعه تسعة آلاف فرع وفي عام (1935) بلغ عدد فروع الاتحاد سبعين ألفاً تضم الملايين، وبلغ من تأثير تلك الدعاية أن أصبح معظم السكان ملحدين، وفي سبتمبر عام ( 1929 ) ذكرت صحيفة ( المناهضة للدين) أنه تم في مارس ( 1929 ) إغلاق ( 423 ) كنيسة (243 في المدن و 180 في القرى ) كما حولت من الكنائس ( 156 ) كنيسة إلى مسارح وسينما ومتاحف و 138 إلى مدارس و14 إلى محال عامة تعاونية، و 10 إلى مراكز بيطرية. وفي 15 مايو سنة 1932 صدر قانون هدفه القضاء على الهيئات الدينية في غضون خمسة أعوام ومما جاء فيه: "في أول مايو سنة (1937) لن يبق في كافة أرجاء الاتحاد السوفياتي أي مكان للعبادة، ويجب القضاء على فكرة الإله من الاتحاد السوفياتي بحسبانها من بقايا القرون الوسطى وأداة لاضطهاد الجماهير العاملة"..."(4).


إن مشكلة الشيوعيين في تونس مع الدين نفسه. يقول حمه الهمامي:"الشريعة تميّز بوضوح بين الجنسين وتقيم الفوارق بين الطبقات وتبيح الاسترقاق والعقوبات الجسدية. ومحاولة الاتكال على "الاجتهاد" للخروج من هذا التناقض لا تحل المشكل بصورة جذرية ومبدئية. فـ"الاجتهاد" له حدوده "الشرعية" المعروفة التي لا يمكن تجاوزها. ومهما يكن من أمر هذا "الاجتهاد" فإنه لا يسدّ الباب أمام الجور والتعسف باسم الدين، اللذين لا يخدمان سوى مصالح الطبقات المحظوظة المعادية للديمقراطية والتقدم"(5). فهم ينتقدون الدين، ومع ذلك يزعمون أنهم لا يحبون هذا النقاش الأيديولوجي العقدي؛ لذلك علينا أن نصر نحن على النقاش العقدي معهم.

وعليه، فقد عدنا إلى أصل النزاع وأساس الصراع وهو: لا يمكن بحث قضية فصل الدين عن الدولة مع شيوعي ملحد دون البحث في الأساس العقدي للمسألة. فلنبحث أولا وجود الله أو عدم وجوده، ثم نبحث بعدها في تطبيق شرعه أو عدم تطبيقه. وإذا صحّ الاعتقاد بطل الانتقاد.

يتبع إن شاء الله تعالى...

____________________
(1) الاشتراكية أو البربرية، لحمه الهمامي، ملحق (2) حوار مع جريدة النهار: http://www.albadil.org/spip.php?article2344 (http://www.albadil.org/spip.php?article2344)
(2) المصدر السابق.
(3) ينظر: ديكتاتورية البروليتاريا: http://www.marxists.org/arabic/glossary/terms/08.htm (http://www.marxists.org/arabic/glossary/terms/08.htm)
(4) عن العمل وحقوق العامل في الإسلام، باقر شريف القرشي، ص102-103
(5) في اللائكية: لا مجتمع مستقبليا دون دولة لائكية، لحمه الهمامي: http://www.albadil.org/spip.php?article2337 (http://www.albadil.org/spip.php?article2337)

الهزبر
2011-04-09, 12:12 AM
السلام عليكم



اللائكية في ميزان العقل والنقل (7)




الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه

اللائكية في ميزان العقل:

2. مناقشة المؤمن:

اللائكي المؤمن هو من يؤمن بالإسلام أو هو من لا ينكر الإسلام، إلا أنّه لا يقول بشموله ويرى حصره في جانب الحياة الخاصة باعتباره علاقة شخصية بين الإنسان وخالقه.


ومنطلق البحث مع اللائكي المؤمن يرتكز على سؤال هو: لماذا يجب يحصر الإسلام في الحياة الخاصة (البيت) وإبعاده عن الحياة العامة (المجتمع، الدولة)؟



من اللائكيين من يجيب على هذا السؤال من داخل المنظومة الإسلامية، كألفة يوسف مثلا التي تقول: "وإذا كانت اللائكية في معناها الأبسط فصلا للدّين عن الدّولة فيمكن لي أن أتساءل عن الفرق بينها وبين ما يدعو إليه القرآن من احترام عقيدة البشر واعتبار كلّ واحد حرّا في دينه واقتناعاته العقديّة:{وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ}. بل أكثر من ذلك إنّ القرآن يؤكّد أنّ اختلاف العقيدة بين البشر ممّا أراده الله تعالى في الكون: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآَمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِين}. والموقف من هذا الاختلاف هو بالضّرورة القبول والرّضا لإرادة الله هذه...". فهي ترتكز على الشرع لبيان لائكيته. وبإذن الله تعالى، سنبيّن لها ولأمثالها بطلان هذا المنهج حين مناقشتنا الشرعية لفكرة اللائكية.



ومن اللائكيين من يجيب على هذا السؤال من خارج المنظومة الإسلامية، كصالح الزغيدي (كاتب عام الجمعية التونسية للدفاع عن اللائكية) الذي ينطلق من منهج عقلاني غربي لفصل الإسلام عن الحياة.



وسنناقش هنا ما يسمى بالمبررات العقلية الداعية إلى فصل الدين عن الحياة، وبالتالي فصله عن الدولة.

1. المبرّر الأول: تعريف الدين


أجمع دعاة اللائكية على أنّ الدين (الإسلام) علاقة شخصية بين الإنسان وخالقه. وسؤالنا هو: من أين لهم هذا التعريف؟
فإن قالوا: هذا التعريف من الإسلام نفسه أي أنّ الإسلام في ذاته علاقة شخصية بين الإنسان وخالقه.
قلنا: هذا غير صحيح؛ لأنكم تعلمون علم اليقين أن الإسلام يتضمّن تشريعات تنظّم علاقة الإنسان بنفسه وعلاقته بغيره، وهو ما يطلق عليه "الشريعة"، وتعلمون علم اليقين أنّ الإسلام كان مطبقا في دولة يطلق عليها الدولة الإسلامية أو الخلافة الإسلامية. علاوة على هذا، فأنتم تنتقدون أحكام الحدود والإرث مثلا وهي ليست علاقة شخصية، وهذا يعني أنكم تقرّون بوجود جملة من الأحكام الإسلامية التي تنظم علاقات مجتمعية، وتقرّون ضمنا بأنه غير محصور في مجرّد علاقة شخصية بين الإنسان وخالقه.



فإن قالوا: هذا التعريف من خارج الإسلام أي أننا حكمنا على الإسلام بأنّه علاقة شخصية بين الإنسان وخالقه بغضّ النظر عن حقيقة موقفه هو من المسألة.


قلنا: هذا باطل لأمور كثيرة منها:



الأمر الأول: أنّ الحكم على الإسلام دون أخذ موقفه بعين الاعتبار يدلّ على نزعة إقصائية تعسفية ضدّ الإسلام.
الأمر الثاني: أنّ الحكم على الإسلام من خارج الإسلام بأنه علاقة شخصية بين الإنسان وخالقه يدلّ على نزعة إقصائية تعسفية ضدّ المسلم الذي يخالف التعريف اللائكي. فهو من باب إكراه المسلم المخالف للتعريف على تعريف ورأي وعمل أي إلزام المسلم بالقوة على اللائكية. فالشعب التونسي يرفض اللائكية بنسبة 95% على الأقل، ومع ذلك يريد دعاة اللائكية إلزامه بتعريفهم بقوة القانون وسلطة الدولة.
الأمر الثالث: أنّ الحكم على الإسلام بحصره في البيت، وإلزام الناس بهذا التعريف، يخالف قاعدة النسبية التي تزعمها اللائكية ويتبجّح بها اللائكيون؛ إذ يجعلون تعريفهم للدين من باب المطلق الذي لا تجوز مخالفته. فإن خالفهم أحد الناس أكرهوه على رأي وموقف بحجة التعريف وسلطة القانون الذي يسعون إلى تقنينه.
الأمر الرابع: أنّ الحكم على الإسلام بحصره في البيت دون أخذ موقفه بعين الاعتبار، يعني الحكم على الله عزّ وجلّ بأنه لا يحكم خارج البيت.
سيقول اللائكي: أنا لا أحكم على الله فأنا مؤمن به، ولكنني أحدد العلاقة به ضمن المجال الشخصي والحياة الخاصة.
والجواب على هذا: أنّ الإيمان يعني إثبات وجود الخالق، وهذا يقتضي منا بداهة النظر في علاقته بالمخلوق. بمعنى، إذا قلنا: إننا نؤمن بخالق خلقنا، فإننا لا نتوقف عند ذلك الإثبات بل نسأل: هل من علاقة بيننا وبينه أم لا؟ هل خلقنا وتركنا أم خلقنا وكلّفنا؟ فلا بدّ لنا كمخلوقين من النظر في علاقتنا بالخالق.
وعلاقة الخالق بالمخلوق: إمّا أن يحدّدها الخالق أو يحدّدها المخلوق. أمّا المخلوق فلا يمكن له تحديد علاقته بالخالق، لأنه عاجز وقاصر ومحدود، فلا يتأتى له العلم بإرادة الخالق منه ما لم يعلمه الخالق نفسه؛ لذلك يجب عقلا أن يكون تحديد علاقة الخالق بالمخلوق، للخالق نفسه. وبناء عليه نسأل: من حدّد علاقة الخالق بالمخلوق التي اقتضت وفق التصور اللائكي حصر العلاقة في البيت؟



فإن قيل: حدّدها المخلوق. قلنا: لا شكّ في بطلان هذا؛ وما أدرانا أنها إرادة الخالق.



وإن قيل: حدّدها الخالق. قلنا: أين الدليل؟


الأمر الخامس: أنّ اللائكي الذي يزعم الإيمان، ويطالب بفصل الدين عن الحياة والدولة باعتبار الدين عنده مسألة شخصية، يناقض نفسه من جهة العقل؛ لأنّه يثبت الدّين وينفيه في آن واحد. أمّا إثباته للدّين فمن خلال قوله بأنه يؤمن بالدين، وأمّا نفيه للدّين آن إثباته، فيفهم من واقع الدّين نفسه الذي يعرّفه بأنه إيمان بخالق وبيوم بعث وحساب. فإذا كان الإيمان بالخالق يقتضي بداهة إثبات كلّ صفات الكمال له، كالقدرة والعلم المحيط بكلّ شيء، فإنّ فصل الدين عن الحياة ينفي هذا الإيمان؛ لأنّه يسلب عن الخالق صفات كماله من خلال نفي قدرته على تدبير شؤون الخلق أو من خلال عدم الاعتراف له بالحاكمية والتشريع. وإذا كان الدّين يقتضي بداهة الإيمان بيوم حساب نحاسب فيه على كل كبيرة وصغيرة، فإنّ الفصل ينفيه؛ لأنّه ينفي أعمال الحساب. فعلى ماذا سيحاسبنا الله يوم القيامة، إذا كان الدين لا علاقة له بحياتنا؟ ثمّ هل سيحاسبنا الله يوم القيامة على عدم الالتزام بشرعه أم سيحاسبنا على عدم الالتزام بالقانون الوضعي؟ ومثال ذلك: يحرّم الله عز وجلّ الربا بنص قطعي، والقانون الوضعي يبيحه. فماذا نفعل؟ إذا التزمنا بالحرمة، فقد حكّمنا الشرع في مسألة تتعلق بالمعاملات أي لم نفصل الدين عن الحياة وخالفنا اللائكية. وإذا عملنا بإباحة القانون للربا أي مارسنا اللائكية، فقد خالفنا أمر الله القطعي. ووفق اللائكية، لا يجب أن نلتزم بالشرع إنما يجب أن تلتزم بالقانون، وهذا يعني أنّ الله لن يحاسبنا على عدم الالتزام بالشرع (لأنه غير ملزم أو غير موجود)، ولن يحاسبنا على الالتزام بالقانون (لأنه بشري)، أي أن الله لن يحاسبنا على شيء.

2. المبرّر الثاني: القداسة


يقول اللائكيون: "الدين مقدّس ولا يتدخل في السياسة حتى لا يشوّه". ويشرح هذا المعنى اللائكي صالح الزغيدي بقوله: "نريد أن لا يختلط الدين بالسياسة، لأن الدين يفضي على نفسه طابعا قدسيا والسياسة أبعد شيء عن القداسة، الدين إيمان والسياسة رأي.. يقول الدكتور رفعت الأسد: «إذا تحول الرأي إلى دين، فتلك كارثة، وإذا تحول الدين إلى رأي، فتلك كارثة ثانية».. فأن يتحول الدين إلى حزب سياسي، يعني ذلك أن الدين يصبح موضوع جدل وصراع بين الفرقاء على الساحة السياسية، ويتحول الفضاء السياسي إلى حلبة دينية تتصارع فيها المذاهب والتأويلات والتفسيرات والمقاربات الفقهية، في حين أن السياسة لا تحتمل ذلك، لأنها مجموعة من الأفكار والتصورات الدنيوية المختلفة والمتنوعة والمتناقضة والمتغيرة باستمرار"(1).
ومصطلح "قداسة الدين" يستعمله كل اللائكيين بلا استثناء (ملحد ومؤمن) من باب التمييز بين الشأن الديني والشأن السياسي أو الدنيوي. وهم يعنون بالمقدّس الثابت الذي لا يقبل النظر فيه البتة أي لا يقبل النقاش ولا يقبل التبديل والتغيير؛ لأن مصدره الله الذي لا يسأل عما يفعل ولا يراجع فيما حكم. وإليك بطلان هذا الزعم:
أولا: إذا كان المقدّس هو ما لا يقبل النظر فيه البتة ولا يقبل مراجعة ومناقشة ولا يقبل التبديل والتغيير، فهذا نجده في كل المبادئ. فالشيوعية الاشتراكية فيها المقدّس، والرأسمالية العلمانية فيها المقدّس، إلا أن الفرق من جهة التقديس بمعنى أنّ الثابت في الإسلام ثابت بأمر الله تعالى، والثابت في الشيوعية والرأسمالية ثابت بأمر الإنسان. وللدلالة على هذا يكفي أن نذكّر اللائكي بأن اللائكية والديمقراطية والحريات لا تقبل النظر فيها عنده أي مقدّسة.
فهناك في الإسلام ما لا يقبل النظر فيه البتة وهو ما ثبت بدليل قطعي الثبوت قطعي الدلالة. وهناك ما يقبل النظر فيه فكرا وسلوكا وهو ما ثبت بدليل ظني الثبوت أو الدلالة، وهذا أغلب الأحكام الشرعية الفروعية. فعندنا إذن ما لا يقبل أن يناقش ويغيّر وهو قليل، وعندنا ما يقبل ذلك وهو كثير. فلا فرق بين الإسلام وغيره من المبادئ فيما يتعلّق بهذه المسألة.
ثانيا: المشكلة لا تكمن في الإسلام من حيث تضمّنه الثابت والمتغير، إنما تكمن في تعامل اللائكي مع الإسلام من حيث إخضاعه كلّه للنقاش والتبديل. فاللائكي يجعل الإسلام كلّه، أصوله وفروعه، مما يقبل النقاش والتغيير، ولا يجعل أصول فكره اللائكي وبعض فروعه قابلة للنقاش والتغيير. فعند اللائكي: من حقّك أن تعلن فصل الدين عن الدولة، وليس من حقك أن تعلن ربط الدين بالدولة. وعند اللائكي: من حقك أن تستمد رؤيتك من أقوال ماركس، وليس من حقك أن تستمدّها من أقوال محمد (عليه الصلاة والسلام). وعند اللائكي: من حقّك أن تقول بأن الزنا حرية شخصية، وليس من حقك أن تقول بأن الزنا حرام. وعند اللائكي: من حقك أن تثبت وجود الله أو تنفيه، ومن حقك أن تؤمن بنبوة محمد (صلى الله عليه وسلم) أو تكفر بها، ومن حقك أن تؤمن بالإسلام أو تكفر به، ومن حقك أن تقبل بالقرآن أو ترفضه، فكل ما يتعلق بالإسلام يقبل التشكيك والنقد، وأما ما يتعلق بالفكر اللائكي كاللائكية نفسها والديمقراطية والحريات (وفق التصور الغربي) فليس من حقك التشكيك في هذا الفكر أو رفضه والعمل على تغييره.
وهذا يعني،أنّ اللائكي يناقض نفسه بنفسه؛ لأنه قد حكم على الإسلام بعدم القداسة عندما جعله كلّه (أصولا وفروعا) مما يقبل النقاش، وحكم على فكره هو بالقداسة عندما لم يجعله كلّه مما يقبل النقاش، ومع ذلك يزعم أن الإسلام مقدّس؟!
ثالثا: إذا كان اللائكي يزعم أنه مؤمن، ويزعم أيضا أنّ الدين مقدّس، فكيف يتعامل المؤمن مع المقدّس؟ هل يعمل به أو يرفضه؟!
وإذا كان اللائكي يزعم أن القرآن مقدّس، وهذا القرآن المقدّس يقول له: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} فهل يعمل بما جاء فيه أم يضعه في زاوية في البيت؟
وإذا كان اللائكي يزعم أنه مؤمن، ويزعم أيضا (من تلقاء نفسه) أنّ القرآن مقدّس بمعنى أنّ أحكامه ثابتة لا تقبل التغيير، فكيف يقول بعدها: دعنا نبدّل حكم الميراث (مثلا)؟ فهل يعقل هذا ما يقول؟
وصدق الله عزّ وجلّ القائل: {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ}.

يتبع إن شاء الله تعالى...

____________________
(1) عن "هل اللائكية ممكنة في تونس: هل هي الطريق إلى الديمقراطية أم تهميش للدين"، جريدة الشروق، 16/03/2011م.

الهزبر
2011-04-09, 11:30 PM
السلام عليكم



اللائكية في ميزان العقل والنقل (8)





الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه

3. المبرّر الثالث: التعددية


يقول صالح الزغيدي: "الفكر اللائكي هو الذي يقبل الاختلاف والتعدد أما الفكر الديني فهو يرفض الاختلاف"(1). والردّ على هذا من وجوه:



أولها: أنّ الفكر اللائكي لا يقول بتعددية مطلقة، إنما يقول بتعددية مقيّدة. والدليل عليه قول الزغيدي نفسه: "وكما نرفض الدولة الدينية فنحن نرفض الدولة الإلحادية"(2). فهو يتحدّث عن تعددية ضمن منظومة فكرية معيّنة أي يتحدّث عن تعددية مقيّدة وليست مطلقة. ونحن نقول له: وكذلك الفكر الديني (الإسلامي) يرفض الدولة اللائكية والدولة الإلحادية. فما الفرق إذن؟


ثانيها: حقيقة الأمر أنّ الفكر اللائكي في ذاته غير تعددي ولا يقبل الاختلاف، بدليل أنّه يقيم الدولة والمجتمع على أساس فكرة واحدة لا تقبل النقاش والتغيير وهي فكرة فصل الدين عن الحياة. فالفكر اللائكي يقصي الدين ولا يقبل به كمخالف.



فإن قال لائكي: الفكر اللائكي لا يقصي الدين إنما يحصره في الحياة الخاصة أي في البيت؛ فلك أن تكون مسلما ولكن في حياتك الخاصة.
قلنا: الفكر الإسلامي لا يقصي اللائكية إنما يحصرها في البيت؛ فلك أن تكون لائكيا ولكن في حياتك الخاصة. فما الفرق إذن؟ وأين يكمن تميّز اللائكية؟



ثالثها: حقيقة الأمر أنّ الفكر الإسلامي يقبل التعدّد والاختلاف؛ فلا مانع من تعدد المذاهب الفقهية والأحزاب السياسية ضمن المنظومة الإسلامية. ولا مانع أيضا من وجود غير المسلمين في المجتمع الإسلامي، فلهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين، ولا يكره أحد منهم على ترك عقيدته أو ثقافته. وقد قبل الإسلام أن يعيش غير المسلم (اليهودي والنصراني والبوذي وغير ذلك) بين المسلمين دون أن يتخلّى عن دينه وثقافته، ودون أن يلزمه بذلك أو يشترط عليه ذلك، فهو بذلك يحافظ له على خصوصيته الثقافية، ويصون له كينونته المتميّزة أي يضمن له المحافظة على هويته كما شاء لنفسه. جاء في ميثاق المدينة: "..وإن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين [يريد صلى الله عليه وسلم أَنهم بالصلح الذي وقع بينهم وبين المؤمنين كجماعة منهم كلمتهم وأيديهم واحدة]، لليهود دينهم، وللمسلمين دينهم ، مواليهم وأنفسهم ، إلا من ظلم وأثم ، فإنه لا يوتِغ إلا نفسه وأهل بيته.." (سيرة ابن هشام).

4. المبرّر الرابع: المواطنة


يقول صالح الزغيدي: "نحن اللائكيين، همنا الوحيد هو ضمان التعايش المشترك بين جميع المواطنين والمواطنات على اختلاف مشاربهم ومعتقداتهم الدينية والعقائدية في ظل نظام حداثي يتطابق مع العصر ومع التقدم الذي أصبح غير قابل للتراجع.. نريد أن نعيش في ظل دولة لسنا رعايا فيها، لا رعايا لسلطان يستبد علينا باسم الكرسي ولا رعايا لسلطان يحكمنا ويستبد علينا باسم السماء.. نريد أن يعيش شعبنا في دولة مواطنين لا في دولة مؤمنين بالله ورسوله.."(3).


ويقول خميس الخيّاطي: " ... ومن التنافر أنتجت قوة تلاقي إيجابية تترك الإيماني في خانة الحميمية وتضع المواطنة كنقطة لقاء بين كل المنتمين لرقعة وطنية واحدة .. هذه المساحة هي «اللائكية» أو ما نسميه تعريبا بـ«العلمانية» وهي ما يعبر عنها أحسن تعبير شعار «الدين لله والوطن للجميع»..."(4).


كما ترى، فإن اللائكيين يعتبرون الإسلام عنصر تفرقة فيما يتعلّق بالحقوق والواجبات، ويرون وجوب بناء الدولة والمجتمع على فكرة المواطنة: "الدين لله والوطن للجميع". فما هي المواطنة؟



المواطنة لغة مأخوذة من الوطن أي البلد الذي ولد فيه الإنسان أو منزل إقامته ومقرّه؛ ولد فيه أو لم يولد(5).


والمواطنة اصطلاحا هي:"صفة المواطن والتي تحدد حقوقه وواجباته الوطنية". والمواطن هو: "عضو في دولة له فيها ما لأي شخص آخر من الحقوق والامتيازات التي يكفلها دستورها، وعليه ما على أي شخص آخر من الواجبات التي يفرضها ذلك الدستور"(6).



معنى المواطنة هذا، لا يختلف كثيرا عن معنى الرعوية أو التابعية في الإسلام؛ لأنّ الشرع الإسلامي ينصّ على عدم التمييز بين أفراد الرعية؛ فلغير المسلمين ما لنا من الإنصاف، وعليهم ما علينا من الانتصاف.



فإن قال لائكي: الدولة الإسلامية دولة مؤمنين وليست دولة مواطنين.



قلنا: هذا جهل بأحكام الإسلام؛ لأنّ الرعويّة أو التابعية هي علاقة قانونية وسياسية بين الرعية والدولة الإسلامية تقوم على أساس الرعاية من جانب الدولة والولاء من جانب الرعيّة. والرابطة التي تربط الرعية جميعها هي التابعية لدار الإسلام، وليست العقيدة، أو اللغة، أو العرق، أو الدم أو غير ذلك. فكلّ من يحمل التابعية يستحق الحقوق والواجبات على الدولة سواء أكان مسلما أم غير مسلم، وكلّ من لا يحمل التابعية لا يستحق على الدولة الحقوق والواجبات المكفولة لحامل التابعية. وفي الإسلام، يتحدّد حقّ اكتساب التابعية على أساس الإقامة الدائمة في دار الإسلام، ولا علاقة للدم أو العقيدة في اكتسابها. لذلك، فقد تعطى التابعية الإسلامية لغير المسلم الذي يريد الإقامة الدائمة في دار الإسلام، ولا تعطى للمسلم الذي اختار الإقامة الدائمة في غير دار الإسلام. فنحن نعدّ اليهودي الذي يقيم في دار الإسلام إقامة دائمة من رعية الدولة الإسلامية، ولا نعدّ المسلم الذي يقيم في دار الكفر إقامة دائمة من رعية الدولة الإسلامية. أخرج مسلم عن سليمان بن بريدة عن أبيه قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمَّر أميراً على جيش أو سرية أوصاه في خاصته بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيراً، ثم قال: اغزوا بسم الله في سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله، اغزوا ولا تغلوا ولا تغدروا ولا تمثلوا ولا تقتلوا وليدة. وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال أو خلال، فأيتهن ما أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم، ادعهم إلى الإسلام فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم، ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين، وأخبرهم أنهم إن فعلوا ذلك فلهم ما للمهاجرين وعليهم ما على المهاجرين، فإن أبوا أن يتحولوا منها فأخبرهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين يجري عليهم الذي يجري على المسلمين، ولا يكون لهم في الفيء والغنيمة شيء إلا أن يجاهدوا مع المسلمين» فهذا الحديث الصحيح صريح بأنّ من لا يتحول إلى دار الهجرة أي دار الإسلام ليحمل تابعية الدولة، فإنه لا يملك أي حق من حقوق الرعوية حتى لو كان مسلما. فلا علاقة للدين بالرعوية أو التابعية كما يزعم اللائكيون عن جهل وتجاهل.

5. المبرّر الخامس: المساواة


بالنسبة لللائكين، يعتبر الإسلام منظومة فكرية مغلقة عنصرية، تميّز بين أبناء الوطن الواحد. فالإسلام عندهم يميّز بين المسلم واليهودي، وبين الرجل والمرأة. يقول خميس الخيّاطي: "والتعددية والاختلاف هما من أسس المواطنة التي هي نتاج الديمقراطية. ولنا في هذه الفترة أن نختار أي نهج نريد. هل هو الانغلاق على المقولات المكبلة للعقل والحرية والماحية للمواطنة تحت تعلة "صدام الحضارات"، فندفع إلى السجن أو الهجرة بمن لا يؤمنون بإيماننا، شاهرين في وجوههم سيف الاستسلام رافعين شعار "لا حكومة ولا دستور، عنا الله والرسول" هل أننا سنترك أمور الله إلى الله، سنبعد بيوت العبادة عن تقلبات الشارع السياسي وشياطينه ونؤسس إلى مواطنة تونسية قوامها المساواة ولا شيء غير المساواة بين أبناء الوطن الواحد رغم اختلافاتهم الجنسية والعقائدية؟"(7).


ويستعمل دعاة اللائكية لفظ المساواة للدلالة على أمرين:



الأمر الأول، هو تمتع الناس بجميع الحقوق السياسية والاقتصادية والاجتماعية دون تمييز بينهم بسبب الدين أو اللون أو اللغة أو الجنس أو غير ذلك أي معاملة الدولة لجميع المواطنين معاملة واحدة دون تمييز بينهم وفق ما يقرّره الدستور. وهذا المعنى لا إشكال فيه بصفة عامة.



الأمر الثاني، هو أنّ البشر كلهم سواسية لا فرق بينهم؛ فلا فضل لمسلم على كافر، ولا لرجل على أنثى، ولا لأسود على أبيض. والقصد من هذا، أن معتقدات الناس واحدة فلا أفضلية لمعتقد على معتقد، وأنّ أجناسهم وألوانهم واحدة فلا أفضلية لجنس أو لون على جنس أو لون؛ فوجب التسوية بينهم في الحقوق والواجبات، فللأنثى مثل حظ الذكر في كل شيء، وللكافر مثل ما للمسلم في كل شيء.


وعليه، فإن اللائكي لا يؤمن بقول الله تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} أو قوله سبحانه: {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ} ؛ لأنه يخالف أصل المساواة بين الأديان والمعتقدات، ويؤصل للكره والحقد بين أبناء الوطن الواحد.
واللائكي لا يؤمن بقوله تعالى: {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ}؛ لأنه يخالف قاعدة المساواة بين الجنسين، ويكرّس تبعية المرأة للرجل وعدم استقلالها عنه.
واللائكي لا يؤمن بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا جَاءَكم الْمُؤْمِنَات مُهَاجِرَات فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَات فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ}؛ لأنه تمييز على أساس الدين.



والحقيقة، أنّ فكرة المساواة كما يقدّمها دعاة اللائكية فكرة باطلة؛ لأن واقع الناس يثبت أنه لا توجد مساواة مطلقة، ولا يمكن تطبيقها. فالناس تتفاوت في قدراتها العقلية، ومهاراتها، وبنيتها الجسمية، وأعمارها وغير ذلك. ومثال ذلك: فإن المرأة لا تقدر على الخدمة العسكرية كما يقدر عليها الرجل، وهو ما تعترف به البلدان الغربية نفسها رائدة المساواة اللائكية. ومثال ذلك أيضا: فإن القانون الوضعي اللائكي يحدد الزواج بسن معينة، فيجعله من حقّ من بلغ ذلك السن، ولا يجعله من حق من لم يبلغه ولو بيوم. فلا توجد مساواة مطلقة، وإنما هي مقيدة بما يراه العقل البشري اللائكي من قيود.


والمساواة لا تعني بالضرورة العدل بل قد تعني أحيانا الظلم. ومثال ذلك: إذا قلنا: إن اليهودي في تونس كالمسلم في كل شيء من حيث الحقوق والواجبات؛ لأنه تونسي يدين بالولاء لتونس وليس لدينه. فهذا يعني أننا نلزمه بأن يقاتل أهل ملته إذا نشبت حرب بيننا وبينهم. وهذا في نظر الإسلام غير عادل؛ لذلك فإن الإسلام لا يوجب على اليهودي أن يقاتل مع المسلمين. فأيهما أعدل باليهودي: اللائكية أم الإسلام؟ ومثال ذلك أيضا: إذا قلنا: إن الشيوعي كالمسلم في كل شيء من حيث الحقوق والواجبات؛ لأنه تونسي. فهذا يعني أنه يحقّ له أن يكون رئيس تونس ويحكم الشعب المسلم، مع أنه لا يؤمن بالإسلام ويعتبره مجرد خرافة من صنع الإنسان. فهل من العدل أن يحكم من لا يؤمن برب شعبا يؤمن كله بالله سبحانه وتعالى؟ وهل يمكن هذا؟



إنّ العدل يقتضي عدم التسوية بين البشر في أمور؛ لأن التسوية قد تفيد الظلم والجور، وهو ما أخذه الإسلام بعين الاعتبار في بعض التشريعات المتعلّقة بالمرأة أو في بعض التشريعات المتعلقة بغير المسلم في دار الإسلام. ولو اعتبرنا المساواة عدلا مطلقا لخالف هذا واقع البشر وما هم عليه. والعدل في حقيقته مسألة نسبية، فما يراه بعضهم عدلا قد يراه بعض آخر ظلما؛ لذلك فإن العدل الحقيقي المطلق هو العدل الرباني الذي أنزل الكتاب ليقوم الناس به. قال تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمْ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ}.

يتبع إن شاء الله تعالى...
_________________________
(1) عن "اللائكية اليوم"، لعادل القادري، 42/04/2007م: http://adelkadri.maktoobblog.com
(2) السابق.
(3) عن "هل اللائكية ممكنة في تونس: هل هي الطريق إلى الديمقراطية أم تهميش للدين"، جريدة الشروق، 16/03/2011م.
(4) السابق.
(5) ينظر مجاني الطلاب، ص1087
(6) معجم مصطلحات العلوم الاجتماعية، للدكتور أحمد زكي بدوي، ص60
(7) عن "هل اللائكية ممكنة في تونس: هل هي الطريق إلى الديمقراطية أم تهميش للدين"، جريدة الشروق،
16/03/2011م.