المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : اليهود واليهودية والصهيونية والصهاينة الجزء الأول



الصفحات : 1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 [37] 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54

ساجدة لله
2010-10-23, 06:42 AM
الاغــــــتراب
«الاغتراب»(ويشار إليه أيضاً بـ «الاستلاب») ترجمة للكلمة الإنجليزية «إلينيشن alienation» التي تعني ببساطة «حالة انفصال» أو «غربة» أو «استلاب» والإحساس بأن الإنسان ليس في بيته وموطنه أو مكانه (ومن هنا نقول "الغريب أو المسافر يشعر بالغربة"). وهي من الفعل اللاتيني «إليناري alienare» بمعنى «ينزع» و«يأخذ عنوة» (من كلمة «إلينوس alienus» اللاتينية، أي «ينتمي إلى شخص آخر أو مكان آخر» من كلمة «أليوس alius» التي تعني «الآخر»). وقد تبلور معنى الكلمة ليشير إلى تلك الحقوق التي يتمتع بها المواطن ولا يملك أحد نزعها (كما في العبارة الإنجليزية: «إناليانبل رايتس inalienable rights» أي «الحقوق الثابتة». وتعني الكلمة في الطب «الاضطراب العقلي الذي يجعل الإنسان غريباً عن ذاته ومجتمعه ونظراته». أما في الفلسفة فإن الكلمة تشير إلى «غربة الإنسان عن جوهره وتنزُّله عن المقام الذي ينبغي أن يكون فيه»، كما تشير إلى «عدم التوافق بين الماهية والوجود»، فالاغتراب نقص وتشويه وانزياح عن الوضع الصحيح.

ومع عصر النهضة وظهور المرجعية المادية الكامنة تمت علمنة معنى الاغتراب، فاغتراب الإنسان هو اغترابه عن ذاته وجوهره الإنساني وعن إمكانياته الإنسانية وعن الآخرين (المجتمع). فالاغتراب في فلسفة هوبز مسألة خاصة بعلاقة الفرد بالمجتمع. فحالة الطبيعة هي حالة تربص ذئبية كاملة ولا يستطيع الإنسان أن يحقق أمنه وبقاءه (الحالة الإنسانية) إلا من خلال الدولة/التنين، فكأن الإنسان يمكنه أن يتجاوز الاغتراب من خلال الدولة العلمانية. أما روسو فقد رأى أن الاغتراب هو انقطاع الإنسان عن طبيعته الأصلية التي يمكن أن تكون إما أصوله البدائية أو طبيعته الجوهرية الثابتة، والتغلب على الاغتراب هو العودة إلى هذا الجوهر (الثابت أو البدائي). ولعل طرح هيجل للموضوع هو أهم الأطروحات الحلولية الكمونية العلمانية. فالاغتراب عنده هو انفصال الجزء عن الكل، ويحدث هذا عندما يقوم العقل المطلق (الفكرة المطلقة ـ الإله) بخلق الطبيعة والإنسان، فهو بذلك قد طرح جزءاً منه خارجه وأصبح هذا الجزء غريباً عنه (وهذا ما يُسمَّى باغتراب الوعي عن عالم الطبيعة والأشياء الطبيعية، وانقسام الذات عن الموضوع) والخلاص هو عملية إنهاء الغربة وحالة النفي. وهي حالة لا يستطيع الإله أن يقوم بها إذ لابد للإنسان أن يقوم بها فيعيد للإله (العقل المطلق) سيطرته على الطبيعة من خلال فهمه لها وسيطرته عليها وتوحده بها (التوصل للغنوص) بحيث تصبح الذات موضوعاً والعقل واحداً مع الطبيعة، أي أن العقل المطلق يستعيد الطبيعة من خلال فهم العقل المتناهي (الإنسان) لها والسيطرة عليها. وليس التاريخ سوى محاولة الإنسان الدائبة أن يتعرف على الطبيعة ومن ثم تنمية وعيه بالمطلق.

ساجدة لله
2010-10-23, 06:42 AM
وقد رفض فيورباخ وحدة الوجود الروحية وطرح بدلاً منها وحدة وجود مادية، فأنكر أن يكون الإنسان إلهاً مغترباً عن ذاته، فالعكس هو الصحيح، فالإنسان خلق الإله وأسقط عليه جوهره الإنساني ثم خرّ له ساجداً وكأن الإله هو الذي خلقه. ولذا، لكي يتجاوز الإنسان غربته، عليه أن يُسقط فكرة الإله ويكتشف جوهره الإنساني.

وافق ماركس على موقف فيورباخ وأضاف أن الغربة الدينية ليست إلا أحد أشكال غربة الإنسان عن ذاته، فالإنسان هو الذي يصنع طبيعته ويصوغها (فهو ليس له طبيعة أصلية أو جوهرية). ولكنه بدلاً من أن يركز على مظهره الإنساني فإنه يخلق الإله من نفسه (كما يقول فيورباخ) والأكثر من هذا أنه يخلق من نفسه كذلك قوانين ومبادئ ومؤسسات اجتماعية وفلسفات وسلعاً مادية ورؤوس أموال وينفصل عنها فيشعر بالاغتراب وكأنها لم تكن له وكأنه ليس خالقها، ثم يبث فيها من روحه حتى تدب فيها الحياة فتتوثن هي ويتشيأ هو فتستحيل مخلوقات مستقلة يقوم هو بعبادتها. فالإنسان المغترب عن ذاته ليس في الحقيقة إنساناً، فهو لم يعرف نفسه ولم يع تاريخه أو إمكانياته. أما الإنسان غير المغترب، فهو الإنسان الحقيقي الذي يتجاوز حالة الانفصال هذه ويتحكم في الطبيعة وفي كل ما تنتجه يداه، ويحقق لنفسه الحرية ويتحكم في مصيره.

ساجدة لله
2010-10-23, 06:42 AM
وأسباب الاغتراب عند ماركس ذات طبيعة اقتصادية مادية كامنة في علاقات الإنتاج والهيمنة الطبقية:

1 ـ يغترب الإنسان عن عمله في المجتمع الرأسمالي لأنه يبيعه.

2 ـ يغترب الإنسان عن طبيعة عمله نفسها، فبدلاً من أن يكون العمل مصدراً لتحقيق ذاته وتجسيداً لقواه الإبداعية، فإنه في المجتمع البورجوازي يصبح شكلاً من أشكال السخرة.

3 ـ يغترب الإنسان عن الآخرين لأن جوهر العلاقات الاجتماعية في النظام الرأسمالي هو التنافس.

4 ـ يغترب الإنسان عن الطبيعة الإنسانية الجوهرية ويغترب أيضاً عن فكرة الكل وما يميِّز الإنسان عن الحيوان هو أن الحيوان يتكيف مع بيئته، أما الإنسان فإنه يسيطر عليها بوعي. وتحت حكم الرأسمالية، يفقد العامل عنصر السيطرة ويصبح في مرتبة الحيوان (أي أن المرجعية الإنسانية المتجاوزة تتهاوى لتحل محلها المرجعية الكامنة في الحيوان).

ويمكن إلغاء حالة الاغتراب من خلال الثورة وتغيير علاقات الإنتاج فيصبح العامل حراً ليعبِّر عن إمكانياته الإبداعية التي يجسدها ثمرة عمله، ولن تصبح حياة الإنسان شظايا مفتتة بل سيصبح كلاً متكاملاً.

وثمة مشكلة أساسية في مفهوم ماركس للاغتراب وبخاصة جوهر الإنسان، وتتلخص فيما يلي: هل جوهر الإنسان محايث للإنسان من حيث هو إنسان، أي جوهر مطلق (متجاوز) لا يخضع في تحديده إلى التاريخ أو إلى الشروط الاجتماعية، أم أن الجوهر الإنساني هو محصلة للعلاقات الاجتماعية ومن ثم يؤدي تغيير هذه العلاقات إلى تغييره، وعليه لا يكون الجوهر الإنساني محايثاً للإنسان بل خاضعاً للتحديدات الاجتماعية، ومن ثم يجب عدم الحديث عن جوهر إنساني وينتهي أساس التجاوز الإنساني؟ يبدو أن ماركس، في أواخر حياته وبعد فترة تأرجح طويلة، حسم القضية لصالح إنكار الجوهر تماماً إذ قال: " لا تنطلق طريقتي في التحليل من الإنسان بل من الفترة الاجتماعية المعطاة اقتصادياً". وهذا ما فعله ستالين وألتوسير حينما أكدا العنصر الاقتصادي المادي.

ولم يقنع علم الاجتماع الغربي بالتفسير الاقتصادي للاغتراب وطرح السؤال عما إذا كان الاغتراب حالة إنسانية دائمة أم حالة مؤقتة؟ أي أن السؤال هو: هل يمكن تجاوز الاغتراب تماماً أم لا؟ وإذا كان جوهر المنظومة العلمانية هي التقدم وتراكم المعرفة والسلع وتزايد التحكم في الذات والطبيعة، فهل يؤدي التقدم إلى تناقص الاغتراب أم تزايده؟ يرى فرويد، على سبيل المثال، أن الاغتراب هو اغتراب عن اللبيدو (ودوافع الإنسان الجنسية)، ومن ثم فإن الاغتراب مرتبط تماماً بالحضارة ومتطلباتها وأن إنهاء الاغتراب أمر مستحيل حتى لو تم إلغاء المجتمع الطبقي. ويرى الوجوديون أن الاغتراب حالة نهائية، فكل إنسان يحيا ويموت وحيداً، غريباً عن نفسه وعن الآخرين.

ساجدة لله
2010-10-23, 06:42 AM
وثمة ارتباط (وأحياناً ترادف) بين التشيؤ والتوثن والاغتراب يظهر في بعض جوانب المجال الدلالي للاغتراب:
1 ـ فالاغتراب هو فقدان الإنسان العلاقة مع مشاعره الإنسانية الدفينة العميقة واحتياجاته الإنسانية.

2 ـ الاغتراب يعني إحساس الإنسان بتزايد هيمنة الإجراءات البيروقراطية اللا شخصية على حياته (بل إن ثمة ترابطاً بين الاغتراب والترشيد في الإطار المادي).

3 ـ الاغتراب يعني إحساس الفرد بالعجز وشعوره بأنه غير قادر على التأثير في المواقف الاجتماعية المحيطة به.

4 ـ الاغتراب هو الإحساس بالعزلة وانفصال الفرد عن تيار الثقافة السائد.

5 ـ الاغتراب هو الإحساس بغياب المعنى واللا معيارية.

ولعل إبهام مصطلح «الاغتراب» يعود إلى تأرجح مضمونه بين «المرجعية المتجاوزة» و«المرجعية المادية الكامنة»، وإلى أن الحقل الدلالي متشعب يصف جوانب متعددة للظاهرة التي نشير إليها بمصطلح «العلمانية الشاملة».

ساجدة لله
2010-10-23, 06:42 AM
اللامعيارية (اللاعقلانية المادية(
»اللامعيارية» (التي يُشار إليها أيضاً بـ «التفسخ») هي ترجمة للكلمة الفرنسية أو الإنجليزية «أنومي anomie» التي تُستخدَم بالهجاء الفرنسي في كلتا اللغتين، وهي من كلمة يونانية تعني «بلا قانون» أو «ناموس». والكلمة تعني فقدان المعايير وغياب أي اتفاق جوهري أو إجماع بشأنها في المجتمع الحديث (الذي تتآكل فيه القيم والتقاليد). وكان دوركهايم أول من َطوَّر المصطلح فبيَّن أن حالة اللامعيارية تنشأ في حالة انتقال المجتمع من التضامن الآلي إلى التضامن العضوي قبل اكتمال مؤسسات المجتمع العضوي. ويذهب دوركهايم إلى أن السعادة البشرية والنظام الاجتماعي يعتمدان على درجة من التنظيم الاجتماعي من قبَل المجتمع وعلى الإجماع، وبدونهما تسقط الطبيعة البشرية فريسة "لمرض التطلع اللامتناهي" ويفشل المجتمع في تحقيق الطمأنينة لأعضائه. ومما يزيد الأمر سوءاً أن المؤسسات الوسيطة التي تُوجَد في المجتمعات التقليدية تختفي تماماً في العصر الحديث، الأمر الذي يترك الفرد وحيداً في مواجهة حالة اللامعيارية هذه. وأحد أشكال تزايد معدلات اللامعيارية هو تزايد معدلات الانتحار.

ويُستخدَم الاصطلاح أحياناً كمرادف لمصطلح «الاغتراب» حيث يصبح الفرد بلا جذور فيفقد الاتجاه، ويسبب له هذا اختلالاً نفسياً. وقد عدَّل روبرت مرتون معنى كلمة «أنومي» قليلاً. فبدلاً من الحديث عن غياب المعيارية، تحدَّث عن الصراع بين المعايير، أي أن حالة الأنومي تظهر حينما يواجه المرء أهدافاً غير متسقة في حياته، أو حينما يُطرَح عليه حلم مستحيل (هدف نهائي دون توفير الوسائل التي تُمكِّنه من تحقيق الهدف)، أو حينما تتناقض الأهداف الاجتماعية مع المقاييس السلوكية التي تساعد على تحقيقها. ففي الولايات المتحدة ـ على سبيل المثال ـ يؤكد الحلم الأمريكي أن تحقيق الثروة هو الهدف من الحياة، وهو ما عُبِّر عنه بمقولة "من الأسمال إلى الثروة"، ولكن الوسائل المتاحة لتحقيق هذا محدودة جداً والفرد الأمريكي لا يتمكن من تحقيق حلمه من خلال القنوات الشرعية مهما قمع ذاته وبذل من تضحيات (على عكس ما تزعمه الأسطورة). ولذا، تبدأ حالة الأنومي في الظهور ويلجأ الفرد لوسائل غير مشروعة مثل الانحراف والجريمة وتعاطي المخدرات، إما لتحقيق الهدف المستحيل أو لتحقيق التوازن الذي فقده الإنسان نتيجة الحلم المستحيل.

ويمكن أن نضيف إلى كل هذا اكتشاف الفرد تفاهة الحلم أو المثل الأعلى الذي يسعى إلى تحقيقه. ففي المجتمعات الاستهلاكية، كثيراً ما يقوم الفرد بعملية قمع هائلة لإنسانيته وتلقائيته ويحقق النجاح المنشود ويصل إلى الفردوس الأرضي ويحقق الثراء ويمتلك كل ما يفترض فيه أنه سيحقق السعادة له (منزلاً كبيراً ـ منزلاً صيفياً ـ قارباً ـ سيارتين ـ زوجة ـ طفلين ـ كلب.. إلخ). ولكنه يكتشف أن ثمة فراغاً في حياته، وأنه لا يمارس أي إشباع روحي رغم النجاح المادي الكامل (فالنجاح لم يحقق جوهره الإنساني المتكامل المركب المتجاوز). وهنا يصاب المرء بحالة الأنومي، فيتمرد على وضعه بأن يقرر أن يجرب الفشل بدلاً من النجاح، والفقر بدلاً من الثراء، والحياة البوهيمية بدلاً من الانضباط الشديد الذي أدى إلى نجاحه.

ويمكن أن نطور المصطلح ليكتسب بُعداً معرفياً ونقول إن اللامعيارية إمكانية كامنة في النماذج المادية التي تطمح لأن يولِّد الإنسان المعيارية إما من عقله أو من الطبيعة/المادة. ومن خلال التطور يكتشف الإنسان أن عقله بدون مرجعية يدور حول ذاته ويُقدس القوة وأن الطبيعة/المادة هي حركة بلا غاية أو هدف ومن ثم لا تَصلُح مصدراً للمعيارية. ومن ثم يتم الانتقال من العقلانية المادية إلى اللاعقلانية المادية ومن التحديث والحداثة إلى ما بعد الحداثة، واللامعيارية هي جوهر ما بعد الحداثة.

ساجدة لله
2010-10-23, 06:43 AM
الباب السادس: مصطلحات جديدة لبلورة النموذج الكامن

العلمنة البنيوية الكامنة
»العلمنة البنيوية الكامنة» مصطلح قمنا بسكه لوصف أهم أشكال العلمنة وأكثرها ظهوراً وشيوعاً. وقد يكون من المفيد أن نبدأ بأن نُذكِّر أنفسنا بحقيقة بديهية وهي أن كل الأشياء المحيطة بنا، المهم منها والتافه، تُجسِّد نموذجاً حضارياً متكاملاً يحوي داخله إجابة عن الأسئلة الكلية النهائية. فإن كانت هذه الأشياء تُجسِّد الرؤية العلمانية الشاملة، فإنها ستقوم بإعادة صياغة وجدان وأحلام ورغبات الناس (حياتهم الخاصة) وتعلمنهم بشكل شامل، دون أن يشعروا بذلك، من خلال عمليات في غاية التركيب والكمون.

وفي دراستنا للعلمانية عادةً ما نركز على التعريفات والمصطلحات المعجمية وعلى المخططات الثقافية والممارسات الواضحة وننسى أن العلمنة تتم من خلال منتجات حضارية يومية وأفكار شائعة وتحولات اجتماعية تبدو كلها بريئة أو لا علاقة لها بالعلمانية أو الإيمانية، ولكنها، في واقع الأمر، تخلق جواً خصباً مواتياً لانتشار الرؤية العلمانية الشاملة للكون، وتصوغ سلوك من يتبناها وتوجِّهه وجهة علمانية ولذا فهي «علمنة بنيوية وكامنة». وقد وصفناها بأنها «بنيوية» لأن سمات المنتج الحضاري أو الأفكار أو التحولات التي تقوم بعملية العلمنة هي جزء عضوي من بنية هذا المنتج وهذه الأفكار وهذه التحولات لا تضاف إليه، ولا يمكن استخدام هذا المنتج أو تبنِّي هذه الأفكار أو خوض هذه التحـولات دون أن يجـد الإنسـان نفسـه متوجـهاً توجُّهاً علمانياً شـاملاً. والصفات البنيوية عادة ما تكون كامنة، غير ظاهرة أو واضحة، وهي من الكمون والتخفي لدرجة أن معظم من يتداولون المنتجات الحضارية ويستبطنون الأفكار البريئة ويعيشون في ظلال التحولات الانقلابية التي تؤدي إلى توليد الرؤية العلمانية غير مدركين لأثرها. بل إن كثيرين ممن يساهمون في صنع هذه المنتجات وصياغة هذه الأفكار وإحداث هذه الانقلابات قد يفعلون ذلك وهم غير مدركين لتضميناتها الفلسفية ودورها القوي في صياغة الإدراك والسلوك. ولذا يمكن أن يكون هناك مجتمع يتبنى بشكل واضح ظاهر أيديولوجية دينية، أو رؤية علمانية جزئية، ولكن عمليات العلمنة الشاملة البنيوية الكامنة من القوة بحيث إنها توجِّه المجتمع وجهة مغايرة تماماً لا يشعر بها أعضاء المجتمع أنفسهم.

ساجدة لله
2010-10-23, 06:43 AM
ولنحاول أن نضرب بعض الأمثلة:

1 ـ التحولات الاجتماعية:

من المعروف أن الاتحاد السوفيتي كان دولة تؤمن بعقيدة علمانية شاملة محددة واضحة ذات طابع إلحادي مادي هجومي. ويرى البعض أن هذه الدعاية الإلحادية في الاتحاد السوفيتي هي التي تسببت في هيمنة العلمانية الشاملة. ولكن الدراسة المتعمقة تُبيِّن أن عمليات العلمنة تمت أساساً في واقع الأمر من خلال عمليات التصنيع والتمدن «إربانيزيشن urbanization»، أي «انتشار نمط الحياة في المدن»، مثل تركيز البشر في رقعة محدودة، وظهور أشكال جديدة من التضامن غير الأشكال القبلية أو القروية أو الأسرية، وتَسارُع إيقاع الحياة، وانتشار المصنع (والسوق) كوحدات أساسية ومركزية، وهكذا فقد خلقت هذه التطورات البنيوية استعداداً ذهنياً ونفسياً لدى المواطن السوفيتي للتعامل مع الواقع بشكل هندسي كمي، وخلقت التربة الخصبة التي ينمو فيها الإيمان بأن الواقع إن هو إلا مادة نسبية تُوظَّف لتعظيم اللذة وزيادة المنفعة المادية، وبأن القيم الأخلاقية نسبية، وبأن البقاء للأصلح، أي أن بنية المجتمع نفسها تُولِّد رؤية معرفية أخلاقية علمانية بغض النظر عن نطاق الدعاية الإلحادية الصريحة. وقد تمت علمنة المجتمع السوفيتي من خلال هذه العمليات التي تبدو بريئة تماماً.

ويمكننا الآن أن نقارن بين الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة. فلو كانت الدعاية الإلحادية وإشاعة الأفكار العلمانية الواضحة هي سبب علمنة الاتحاد السوفيتي لكانت معدلات العلمنة في الاتحاد السوفيتي تفوق المعدلات السائدة في الولايات المتحدة كثيراً. فالولايات المتحدة تسمح بحرية العقيدة وبالتبشير وبالدعاية الدينية، وعدد الكنائس في الولايات المتحدة كبير جداً. وحتى عهد قريب كان من المستحيل على أحد أعضاء النخبة الحاكمة أن يُجاهر بإلحاده ويحتفظ بمنصبه. ولا يزال هذا الوضع قائماً في كثير من الولايات، ولا يزال كثير من الساسة يحرصون على حضور الصلوات يوم الأحد، بل إن الدولار الأمريكي متوج بعبارة "نحن نثق بالإله". رغم كل هذا سنكتشف أن الولايات المتحدة هي أكثر البلاد علمنة بلا منازع. وهذا يعود إلى مركب من الأسباب من أهمها التغيرات البنيوية الضخمة (التي ليس لها نظير في أي مجتمع) التي أدَّت إلى تزايد التصنيع والتمدن وتَسارُع إيقاع الحياة بمعدلات تفوق المعدلات السائدة في الاتحاد السوفيتي.

ويمكن القول بأن ظهور الدولة المركزية من أهم أشكال العلمنة البنيوية الكامنة. فالدولة المركزية، نظراً لطبيعتها وبنيتها، لا يمكنها أن تتعامل مع الجماعات الصغيرة أو الوحدات الاجتماعية التي تتمتع بقدر من الخصوصية، فالتعامل مع الوحدات الكبيرة أمر أيسر بكثير بالنسبة لها، ولذا فهي تميل نحو التنميط والترشيد في إطار النماذج الكمية والمادية. وهذا إما أن يؤدي إلى علمنة المجتمع أو إلى خلق تربة خصبة لتقبل العلمانية. وكثيرون ممن تبنوا نمط الدولة المركزية القومية لم يكونوا مدركين لهذه الخاصية البنيوية اللصيقة بها.

ساجدة لله
2010-10-23, 06:43 AM
2 ـ الأفكار التي تبدو محايدة بريئة:

كثير من الأفكار التي تبدو محايدة بريئة تماماً، لا علاقة لها بأية أيديولوجيـة، تضمر في واقع الأمر الرؤية العلمانية الشاملة. ففكرة الإنسان الطبيعي والقول بوحدة (أي واحدية) العلوم وتبني النماذج الموضوعية المادية في تفسير ظاهرة الإنسان وفكرة نهاية التاريخ والمنظومات الحلولية وخطاب التمركز حول الأنثى (انظر: «الإنسان الطبيعي(المادي) » ـ «وحدة العلوم» ـ «هيمنة النماذج البيروقراطية والكمية» ـ «نهاية التاريخ») هي في تصوُّري الأساس الصلب للرؤية العلمانية الشاملة، ومع هذا فإن كثيرين ممن قاموا بالترويج لهذه الأفكار ولغيرها لم يدركوا النماذج الكامنة وراءها.

3 ـ المنتجات الحضارية اليومية:

تُعَد المنتجات الحضارية المألوفة البريئة من أهم آليات العلمنة الشاملة البنيوية الكامنة. ولنضرب مثلاً بالتِّيشيرت T-Shirt الذي يرتديه أي طفل أو رجل وقد كتب عليه مثلاً «اشـرب كوكا كولا». إن الرداء الذي كان يُوظَّف في الماضـي لسـتر عورة الإنسـان ولوقايته من الحر والبرد، وربما للتعبير عن الهوية، قد وُظِّف في حالة التِّيشيرت بحيث أصبح الإنسان مساحة لا خصوصية لها غير متجاوزة لعالم الحواس والطبيعة/المادة، ثم تُوظف هذه المساحة في خدمة شركة الكوكاكولا (على سبيل المثال) وهي عملية توظيف تُفقد المرء هويته وتحيّده بحيث يصبح منتجاً بائعاً (الصدر كمساحة) ومستهلكاً للكوكاكولا (هذا مع العلم بأن الكوكاكولا ليست محرمة)، أي أن التِّيشيرت أصبح آلية كامنة من آليات العلمنة، ومع هذا لا يمكن القول بأن الكثيرين يدركون ذلك.

ساجدة لله
2010-10-23, 06:43 AM
وقُل الشيء نفسه عن المنزل، فهو ليس بأمر محايد أو برئ، كما قد يتراءى للمرء لأول وهلة، فهو عادةً ما يُجسِّد رؤية للكون تؤثر في سلوك من يعيش فيه، شاء أم أبى. لذا حينما يصبح المنزل عملياً وظيفياً، يهدف إلى تحقيق الكفاءة في الحركة والأداء ولا يكترث بالخصوصية والأسرار، فإنه مثل التيشيرت يصبح هو الآخر خلواً من الشخصية والعمق. وأثاث هذا المنزل عادةً وظيفي، يلفظ أية خصوصية باسم الوظيفية والبساطة، ولكن البساطة هنا تعني في الواقع غياب الخصوصية. ولنتخيل الآن إنساناً يلبس التيشيرت ويسكن في منزل وظيفي بُني ربما على طريقة البريفاب (الكتل الصماء سابقة الإعداد) ويأكل طعاماً وظيفياً (هامبورجر ـ تيك أواي تم طبخه بطريقة نمطية) وينام على سرير وظيفي، أفلن يتحول هذا الإنسان إلى إنسان وظيفي متكيف لا تُوجَد في حياته خصوصية أو أسرار، إنسان قادر على تنفيذ كل ما يصدر إليه من أوامر دون أن يثير أية تساؤلات أخلاقية أو فلسفية؟ قد يقيم هذا الإنسان الوظيفي الصلاة في مواقيتها، ولكن كل ما حوله يخلق له بيئة معادية لإدراك مفهوم القيمة المتجاوزة وجدواها.

والعلمنة الشاملة البنيوية الكامنة هذه، من خلال أبسط الأشياء، لا تتم على مستوى البيئة الاجتماعية والمادية البرانية وإنما تتغلغل لتصل إلى باطن الإنسان، إلى مستوى عالم الأحلام والرغبات، وهنا سيأتي دور الصور المحايدة البريئة. فصديقنا الوظيفي، إن أراد أن يزجي أوقات فراغه، فإنه سيشاهد فيلماً أمريكياً يقوم بعلمنة وجدانه ورغباته، فالموقف الأساسي في معظم هذه الأفلام هو بطل لا يدين بأية مرجعيات أخلاقية، يقع في حب فتاة جميلة هي البطلة (ولعل كلمة «حب» هنا كلمة متخلفة قليلاً، فهو في الواقع "يشتهيها" وحسب وعلى استعداد لأن "يتعايش" معها). وتظهر بعض الصعوبات التي يتجاوزها البطل الدارويني، ويفوز بما يشتهي وينغمس في الإشباع الفوري. ولا يختلف هذا عن الكارتون المسمَّى «توم وجيري»، الذي يصوغ وجدان أطفالنا كل صباح، حيث يقوم الفأر اللذيذ الماكر باستخدام كل الحيل (التي لا يمكن الحكم عليها أخلاقياً، فهي لذيذة وذكية وناجحة) للقضاء على خصمه القط الغبي ثقيل الظل. ولنلاحظ أن القيم المستخدمة هنا قيم نسبية نفسية وظيفية برجماتية، لا علاقة لها بالخير أو الشر، قيم تشير إلى نفسها وحسب، ولا تُفرِّق بين الظاهر والباطن. كما أن الصراع بين الاثنين لاينتهى، يبدأ ببداية الفيلم ولا ينتهى بنهايته، فالعالم، حسب رؤية هذا الكارتون الكامنة، إن هو إلا غابة داروينية مليئة بالذئاب التى تلبس ثياب القط والفأر: توم وجيرى. ( أثبتت إحدى الدراسات أن أفلام توم وجيري هي أكبر آلية نقل فكرة حسم المشاكل عن طريق العنف للأطفال.

ساجدة لله
2010-10-23, 06:43 AM
وأعتقد أن من أهم آليات العلمنة البنيوية الكامنة في العالم هي هوليود، وخصوصاً أفلامها غير الفاضحة، مثل أفلام رعاة البقر المسماة «الويسترن western»وأفلام الحرب، فالرؤية العلمانية الشاملة كامنة فيها، بشكل يصعب على الإنسان اكتشافه. وأفلام الويسترن بالذات تنقل لنا رؤية علمانية إمبريالية عنصرية بشعة متحيزة ضدنا. فبطل الفيلم هو الرائد (بالإنجليزية: بايونير pioneer)،الرجل الأبيض الذي يذهب إلى البرية (أرض بلا شعب) ليفتحها ويستقر فيها ولا يحمل سوى مسدسه. وكلنا يعرف المنظر الشهير، حين يقف اثنان من رعاة البقر في لحظة المواجهة التي يفوز فيها من يصل إلى مسدسه "أسرع" من الآخر. إن هذا المنظر الذى انطبع فى مخيلتنا منذ نعومة أظافرنا، يعلمنا كل أسس الداروينية الاجتماعية: أن الصراع من أجل البقاء هو سنة الحياة وأنه لا يكتب البقاء إلا للأصلح، أى الأقوى أو الأسرع أو الأكثر دهاء ومكرا، وهى مجموعة من الصفات التى لا علاقة لها بأية منظومة قيمية، دينية كانت أم أخلاقية أم إنسانية. وحينما يظهر الهنود الأشرار، هؤلاء «الإرهابيون » أصحاب الأرض الأصليين الذين لا يتركونه وشأنه كى يرعى أبقاره ويبنى مزرعته، أى مستوطنته، على أرضهم وأرض أجدادهم، يحصدهم الكاوبوي برصاصه حصداً "دفاعاً" عن الفتاة البيضاء البريئة وعن حقوقه المطلقه . نستمتع بكل هذا دون أن ندرك أن الكاوبوي هو في واقع الأمر الرائد الصهيوني (الحالوتس)، وأنه الإنسان الأبيض الإمبريالي الذي نهب ديارنا وثرواتنا وأذلنا، وأن الهنود هم نحن، العرب والفلسطينيون، وأن البرية، هي، فى واقع الأمر، العالم الثالث بأسره، أرض بلا شعب، أو شعب ينظر له الإنسان الغربي من خلال رؤيته العلمانية الإمبريالية الشاملة باعتباره مادة استعمالية يمكنه أن يحوسلها لصالحه. وهكذا نستوعب الرؤية العلمانية الإمبريالية الشاملة، بلا وعى ولا إدراك من جانبنا، فقد جاءت لنا مغلفة تغليفا أنيقا، جزءًا عضويًا كامنًا فى بنيه فيلم لذيل مسل.