المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : كبوة " سيبويه"!



الصفحات : 1 [2]

الرافعي
2009-10-15, 12:06 AM
ونأتي إلى اقتراح كاتبنا بحذف التأنيث. وأذكر أن د.عبد المنعم تليمة قد دافع، في حلقة التلفاز التي تكررت الإشارة إليها آنفا، عن هذا الرأي قائلا إننا الآن في عصر يهتم بحقوق المرأة ولا يقبل أبدا أية تفرقة بينها وبين الرجل. وعلى هذا فلا بد أن تُعَامَل كالرجل سواءً بسواءٍ في الضمائر والأسماء والصفات. وقد رددتُ على ذلك بالقول بأن الله جعل كل الأحياء ذكرا وأنثى، ويوم أن يتوصل العلماء إلى جعل البشر جنسًا واحدًا لا هو ذكر ولا هو أنثى، فعند ذلك سوف تختفي تلقائيا ظاهرة التأنيث. أما قبل ذلك فلا أدرى سببا للمناداة بإلغائها. ثم أضفتُ أن حقوق المرأة وحرصها على التميز عن الرجل وعدم الخضوع له يقتضي منا أن نُفْرِدها بضمائرَ وصيغٍ اسميةٍ ووصفيةٍ خاصّةٍ بها، وإلا كانت مجرد ظل لِسِى السيّد فنعبّرعنها بما نستعمله له دون تفرقة. ثم إن التأنيث موجود مثلا في اللغة الفرنسية التي يتقنها الكاتب، لا في الضمائر والأسماء والصفات فقط، بل في أدوات التعريف والتنكير أيضا، على خلاف ما عندنا، إذ لا تعرف لغتنا إلا أداة تعريف واحدة للمذكر والمؤنث إفرادًا وتثنيةً وجمعًا، أما التنكير فليس له لدينا أداة. كما أن لتأنيث الأسماء والصفات في لغة فولتير قواعد متعددة حسبما هو معروف. لكن البعض قد يعترض بأن المنطق كان يقتضي اتفاق العدد عندنا في التذكير والتأنيث مع الاسم المعدود فنقول: "تسعة نساء، وتسع رجال"، لا العكس. ولا أحب أن أضيع وقتي ووقت القارئ ووقت المعترض في مناقشة مثل هذا الاعتراض، بل أختصر الكلام اختصارا وأقول: هذا الذي كان، وهذا الذي حصل، ويستوي من حيث الصعوبة أو السهولة أن نخالف بين العدد والمعدود أو نوافق. المهم أن هناك قاعدة تحكم هذا، وأن الأمر ليس فوضى. وليس من المعقول أن نأتي للغتنا كل فترة فنعبث بها حتى تصير كالخرقة الممزقة. وبالمناسبة فليست هناك لغة في الأرض أهلُها راضون عنها تمام الرضا حتى ولا الإنجليزية، التي تعانى من عيوب كثيرة جدا على عكس ما يوحى به كلام الأستاذ الكاتب. وكما أكرر دائما، فالعبرة بالتكرار والتعود، وكل صعبٍ لا بد أن يَذِلّ ويُسْلِس قيادَه لمن يَرُوضه بالاهتمام والجِدّ والحرص على الإتقان. وقد أُثيرت مسألة إطلاق كلمة "أستاذ" بصيغتها المذكَّرة هذه على بعض دكتورات الجامعة، ودافع الدكتور تليمة عن هذا الصنيع. لكنى أرى أنه مجرد تقليد ممسوخ للغة جون بول، التي لا يصح اتخاذها هي أو غيرها مثالا أعلى للغتنا الدقيقة الأنيقة المصفاة من كل أثر للخشونة الموجودة في الإنجليزية أو غير الإنجليزية. إن هذا يذكرني بما صنعه بنو إسرائيل فور نجاتهم من بطش فرعون، الذي رَأَوْه بأم أعينهم يغرق مع جنوده ومَلَئه لكنهم لم يتعظوا، إذ ما إن أتَوْا في سيناء على قوم يعكفون على أصنام لهم حتى صاحوا بنبيّهم قائلين: "يا موسى، اجعلْ لنا إلهًا كما لهم آلهة. قال: إنكم قوم تجهلون* إن هؤلاء مُتَبَّرٌ ما هم فيه، وباطلٌ ما كانوا يعملون"(الأعراف/ 139ـ 140). كذلك أذكر أنه كانت لجيراننا بنتٌ حلوةٌ جدا حباها الله شعرًا وَحْفًا ناعمًا جميلاً يصل إلى خَصْرها ويضفي عليها مزيدا من الفتنة والبهاء، لكنها بنَزَقها وقلة عقلها أبت إلا أن تقصّه آلاجَرْسُون تقليدا لصديقة لها شعرُها شائك كالليفة الجديدة ظلت تزنّ عليها وتغريها بذلك غيرةً من شعرها الفاتن الجميل. وعبثا حاولت أمها أن تبصّرها بسوء رأيها، فقد كانت، كما قلت، قليلة العقل عنيدة. ثم رأيناها بعد أن نالت مرادها وقد فقدت شيئا كثيرا من حلاوتها وفتنتها. ولكنْ على من تقرأ مزاميرَك يا داود؟

ومن بين ما أخذه المؤلف على الفصحى وجودُ التثنية فيها. ولست في الحق أدرى كيف يمكن أن تكون هذه السمة مَعَابة تؤخذ على لغة القرآن، إذ هي دليل على الدقة، فبدلا من أن تتعامل مع ما يزيد على واحد نفس المعاملة نراها تفرق بين الاثنين وما هو أكبر من ذلك. والأستاذ المؤلف يتخذ من اللغات الأوربية هنا أيضا معيارا يعاير به لغتنا، ناسيا أن لكل لسان شخصيته وأوضاعه، فضلا عن أن الحياة ذاتها قد أفردت المثنى بوضع خاص، فالكون كله قائم على التقابلات الثنائية: فاليمين يقابله الشمال، والأعلى يقابله الأسفل، والأمام يقابله الوراء، والذكر تقابله الأنثى، والسماء تقابلها الأرض، والجنة تقابلها النار، والماضي يقابله المستقبل، والبحر يقابله البر…وهكذا. وفى الإنجليزية ما زالت هناك كلمة "both: كلاهما" في مقابل "all: كلّهم"، وكذلك عبارة "one another: كلاهما الآخر" في مقابل "each other: كل منهم الآخر"، وهو أمر له دلالته التي لا ينبغي أن تفوتنا. سيقول الأستاذ: لكن الطلبة يضيقون بهذا، فأقول له: ليس للكسالى الحق في فرض كسلهم على الحياة. إن سقوط الهمة والكسل مسؤولان عن الكوارث المتلاحقة التي تنزل على رؤوسنا منذ قرون، ولا تكاد تترك لنا فرصة لنتنفس ونقبّ على وجه الدنيا. كفانا بلادة وجمود! ولنكن، ولو مرة واحدة، كأجدادنا الذين فتحوا العالم، وليس في أيديهم غير هذه اللغةِ التي لا تعجب البعضَ والكِتَابِ الذي نزل بها، والذي لا يستطيع أقوام أن يناموا ملء أعينهم رغم كل ما في أيديهم من سلطان وثروة وقوة وجبروت ما دام هناك من يقرؤه ويؤمن به! أما مبدأ "كله عند العرب صابون" فلا محل له من الإعراب. وهنا ينبغي أن نشير إلى ما جاء في نهاية كلام المؤلف حول هذه القضية من أن اللهجات العامية قد تخلصت من المثنى تلقائيا وأصبح الاثنان جمعا كما يقتضي المنطق (ص 174). فأما أن المنطق يقتضي هذا فغير صحيح كما سبق أن وضحنا، وأما أن العاميات قد تخلصت من المثنى، فإن كان المقصود أنها تخلصت منه تماما فهذا لم يحدث، إذ ما زلنا نقول في لغتنا اليومية: ولدين وبنتين وكتابين وورقتين وأستاذين ومدرّستين... إلخ، لكنه صحيح في مجال الضمائر رغم ذلك.

وقد حاول مقدم البرنامج التلفازي الذي نوقش فيه كتاب الأستاذ المؤلف أن يسوّغ ما نادى به من معاملة المثنى معاملة الجمع، فاستشهد بقوله تعالى: "وداودَ وسليمانَ إذ يحكُمان في الحرث إذ نَفَشَتْ فيه غنمُ القوم، وكنا لحكمهم شاهدين"(الأنبياء/ 78)، وبقول أمير الشعراء مخاطبًا النبي عليه السلام:

فإذا رَحِمْتَ فأنتَ أُمٌّ أو أبٌ هذان في الدنيا هما الرُّحَماءُ

حيث استعمل القرآن ضمير الجمع في كلمة: "حكمـهم" لداود وسليمان، وهما اثنان فقط، واستخدم شوقي صيغة الجمع: "الرحماء" في وصف الوالدين، وهما اثنان أيضا فقط. وكان جوابي أن ذلك ليس بلازم، فكلمة "حكمهم" يدخل فيها أيضا "القوم" الذين احتكموا إلى النبيين الكريمين ، ومن ثم يكون ضمير الجمع عائدا على أكثر من اثنين: داود وسليمان وأولئك القوم. كما أن في بيت شوقي غرضا بلاغيا مؤدّاه أن رحمة الأبوين هي الرحمة الحقيقية أو تَعْدِل جميع الرحمة الموجودة في العالم، فكأنهما كل الرحماء في الدنيا. أي أن الكلام هنا على المجاز لا على الحقيقة. ويمكن أن أزيد أيضا بعض ما أورده المرحوم محمد خليفة التونسي في كتابه "أضواء على لغتنا السمحة" (كتاب العربي/ 15 أكتوبر 1985م/ 32ــ 35، 178ــ 180) من شواهد تبدو وكأنها تجرى عكس ما أقول، فقد أورد مثلا قوله عَزَّ من قائل: "هذان خَصْمان اختصموا في ربهم: فالذين كفروا قُطِّعَتْ لهم ثياب من نار... * إن الله يُدْخِل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجرى من تحتها الأنهار..." (الحج/ 19ــ 23)، حيث قال سبحانه: "خَصْمان اختصموا" واصفًا المثنى بالجمع. والرد هو أن الخصمين هنا ليسا فردين كما يُظَنّ، بل جماعتين: هما جماعة الكافرين، وجماعة المؤمنين كما هو واضح من بقية الكلام. وبالمثل احتج، رحمه الله، بالآية الكريمة التالية التي تتحدث عن قصة الخلق والحوار الذي دار بين الله سبحانه وبين السماء والأرض حينذاك قائلةً: "ثم استوى إلى السماء وهى دُخَان فقال لها وللأرض: ائتيا طَوْعًا أو كَرْهًا. قالتا: أتينا طائعِين"(فُصِّلَتْ/ 11)، حيث قال تعالى عن السماء والأرض: "طائعِين" لا "طائعتين". لكن توجيه ذلك سهل غاية السهولة، فالمقصود السماء والأرض وسكانهما أيضا لا السماء والأرض فحسب، ولذلك استخدمت الآية الكريمة جمع المذكر السالم الذي لا يستخدم لغير العاقل إلا في غرض بلاغي كما هو الحال هنا. ومما يعضد هذا أن القرآن الكريم قد يصف الاسم المفرد من هذا النوع أو يخبر عنه بصيغة الجمع أيضا مما يدل على أن المسألة ليست من باب معاملةً المثنى معاملة الجمع. وهذه بعض الشواهد على ما أقول: "فإن حزب الله هم الغالبون" (المائدة/ 56)، ألا إن حزب الله هم المفلحون" (المجادلة/ 22)، "وهل أتاك نبأُ الخَصْم إذ تَسَوَّروا المحراب" (ص/ 21)، "وَدَّتْ طائفةٌ من أهل الكتاب لو يُضِلّونكم"(آل عمران/ 69)، "ولْتَأْتِ طائفةٌ أخرى لم يُصَلّوا فَلْيُصَلّوا معك" (النساء/ 102). والذي أريد أن أقوله من خلال هذا التوضيح أن القواعد النحوية ينبغى أن تكون مُطَّرِدة ما أمكن حتى لا يرتبك من يستعملونها.

الرافعي
2009-10-15, 12:07 AM
ومما يعيب به المؤلف اللغةََ الفصحى أيضا الجملةُ الفعلية. وهو متأثر في هذا باللغات الأوربية التي لا تعرف إلا الجملة الاسمية، مما يذكرني بأيام الفقر والعزوبة حين كان طعامنا في غالب الأحيان شطائر الفول والفلافل وما إليها. فهل هناك عاقل يعرف ما يُصْلِح صحته ويريد أن يستمتع بأذواق الطعام المختلفة التي أنعم الله بها على عباده يستمر على هذه الخطة القَشِفة حتى بعد أن تتيسر أحواله وتتسع قدراته المادية؟ إن وجود لونين من الجُمَل في "لغتنا الجميلة"، على حد وصف فاروق شوشة لها، هو نعمة من النعم العظيمة، إذ يتيح لنا أن ننوِّع أساليبنا على ما نحب بدلا من أن نسير دائما على وتيرة واحدة كما سبق القول عندما أشرت إلى المرونة التي تتمتع بها الجملة العربية الفصيحة، فهل نرفس هذه النعمة لأن الأوربيين محرومون منها في لغاتهم، ونفعل كما فعل بنو إسرائيل حين أرادوا أن يكون لهم إله آخر مع الله كما للوثنيين الذين مَرُّوا بهم في سيناء آلهة، أو كالبنت صاحبة الشعر الحريرى الطويل الجميل التي لم تهدأ إلا بعد أن قصّته تقليدا أعمى لما فعلته صديقتها بشعرها الليفىّ الأكرت؟ إنني أربأ بأنفسنا أن نكون كرؤساء القبائل الهمجية في غابات أفريقيا أيام الهجمة الأوربية المسعورة على تلك القارة حينما كان طلائع الاستعمار من شياطين الإنس يضحكون على أولئك الزعماء فيُغْرونهم بقِطَع الزجاج الملونة التي لا قيمة لها على الإطلاق في مقابل الألماس والذهب وغيرهما من المعادن والأحجار الكريمة. لكننا، والحمد لله، لسنا من التخلف والانخداع بهذه البهرجات الزائفة الرخيصة والفرح بها وإيثارها على الألماس والياقوت واللؤلؤ إلى هذا الحد! والأستاذ الشوباشي ينتمي إلى بيت علم وأدب، وكان أبوه من كبار الأدباء والنقاد والمترجمين، فكيف يقع في هذا الشَّرَك؟ إننا جميعا نريد للغتنا انتعاشا وازدهارا كما كان حالها أيام مجدها العظيم، لكن السبيل الذي ينتهجه كاتبنا ليس هو السبيل المؤدى إلى هذه الغاية. وثَمَّةَ نقطة لا بد من توضيحها في هذا السياق، وهى أن الفصحى، رغم كل شيء، قد نهضت نهوضًا عظيمًا ورائعًا من عثارها الطويل الذي كانت مرتكسة فيه أيام الحكم العثماني حيث كانت الأمية والجهل ضاربين بأطنابهما في أقطار العرب، والدليل على ما أقول أن الأمية قد انحسرت إلى حد ملموس وانتشر التعليم، وأصبح عندنا الآن ذخيرة من الأساليب قد يصعب أن نعثر على مثلها حتى في أيام الازدهار الثقافي للأمة العربية أيام العباسيين. وقد سبق أن أعطيت بعض الأمثلة على أصحاب الأساليب الفخمة في عصرنا بما يغنى عن إعادة القول فيها هنا. لكننا، مع ذلك، نريد لهذه اللغة الكريمة أن تنتعش وتزدهر أكثر وأكثر، وأن يشعر الناس جميعا بحلاوتها وروعتها وفتنتها ويتذوقوا النعمة التي أنعم بها المولى عليهم في شخصها، وبخاصة أن التفوق العام فيها مرتبط بالتفوق العلمي والأدبي والثقافي مما نحتاجه للخروج من تخلفنا الحالي الذي أوردنا مورد العجز والذل وأطمع فينا من يساوى ومن لا يساوى من دول العالم، فلم يعد أحد يحترمنا أو يقيم لنا وزنا حتى إن الفيلبين وهندوراس ولا أدرى من أيضا من الدول التي لا يعرف أحد مكانها على الخريطة تشترك في احتلال العراق مساندة للأمريكان، وحتى إن أحدا في الأمم المتحدة لا يبالي بما يحدث لإخواننا الفلسطينيين الأبطال على يد عصابات بنى صهيون المدعومين ماليا وعسكريا وسياسيا من أمريكا والغرب كله من مجازر لا تتوقف يوما ولو ساعةً من نهار، على حين أنه لو تألم شخص واحد من الأقليات في بلد إسلامي أو عربي لوجعٍ في ظفر خنصره الشمال من قدمه الحافية الجرباء لقام مجلس الأمن في الأمم المتحدة بهيله وهيلمانه يدعو إلى استقلال صاحب الظفر بدولة قائمة برأسها ومعاقبة العرب والمسلمين جميعا بسبب ما حدث لظفره! وبالمناسبة فالإنجليزية والفرنسية مثلا تقدِّمان الفعل، في بعض الأحيان، على الاسم بما يشبه الجملة الفعلية عندنا، وتسميان هذا اللون من التركيب: "inversion"، وإن كانت الإنجليزية تتوسع فيه أكثر من الفرنسية.

ويعيب الأستاذ المؤلف كذلك لسان العرب بما يسميه "النقص الغريب في حروف العلة"(ص 168). يقصد أننا لا نعرف إلا الفتحة والكسرة والضمة الصافية ومدّاتها، بخلاف الفرنسية مثلا، التي تعرف حروف علة أخرى بالإضافة إلى ما تعرفه العربية من مثل e, u, y, ai, eu, eau, ou"، إلى جانب الــ"accent"، الذي يوضع على بعض هذه الحروف بأشكاله الثلاثة المعروفة. وهو عيب موهوم، إذ من ذا الذي يشعر أن ذلك يقيده في التعبير عما يشاء؟ ثم إن هذه الحركات كثيرا ما تختلط وتتداخل من كلمة لأخرى، وأحيانا ما يكون وجودها صوريا. ونفس الملاحظة تصدق على الإنجليزية، التي ينبغي عليك أن تحفظ نطق كل كلمة من كلماتها تقريبا بالسماع رغم ذلك، إذ الكتابة في كثير جدا من الحالات شيء، والنطق شيء آخر. وبالمثل فتانك اللغتان ينقصهما من حروف لغتنا "الثاء والحاء والخاء والعين والغين والقاف والهاء"، ومع ذلك فإننا لا نشغل أنفسنا كثيرا بمثل هذا الأمر ما دام أصحابهما لا يشعرون بأنه يشكل عبئا عليهم في الإفصاح عما يريدون. وما دمنا قد دخلنا في هذا الموضوع، فما رأى كاتبنا في وجود الـ"ph" مع الـ"f" في الفرنسية والإنجليزية؟ هل يرى له أي لزوم؟ وهل هو راض عن تبدل طريقة النطق للـ"d" والـ"t" والـ"s" فيهما من موضع إلى موضع ما بين ترقيق وتغليظ، فضلا عن عدم نطق بعض الحروف المكتوبة ؟ وهل يرى داعيا لوجود تركيبة الـ"th" في الفرنسية ما دامت الــ"t" وحدها تكفى؟ وذلك علاوة على اختلاف نطق الــ"c" والــ"g" فيها وفي الإنجليزية حسب الحرف الذي يأتي بعدهما... إلخ. وبالمناسبة فقد أخطأ المؤلف هنا حين أراد أن يعلل السبب في تسمية اللغة العربية بــ"لغة الضاد"، إذ حسب أن ذلك راجع إلى أنها هي اللغة الوحيدة في العالم التي تفخّم "الدال" وتضخّمها فتقلبها "ضادا"(ص 149). فأما أنها، على الأقل في نطاق علمنا، هي اللغة الوحيدة في العالم التي تعرف نطق "الضاد" فهذا صحيح، لكن بمعنى غير المعنى الذي شرحه سيادته، لأن "الضاد"، كما جاء في كلامه، ليست هي "الضاد" العربية الأصيلة بل "الضاد" حسبما ننطقها هنا في مصر، وهذه موجودة في الفرنسية والإنجليزية متمثلة في تفخيم حرف الــ"d" في كثير من الكلمات على ما هو معلوم، مثل "dogue" في الأولى، و"double" في الثانية. أما "الضاد" العربية فهي شيء بين "الضاد" المصرية و"الظاء". كذلك يعيب الأستاذ شريف لغة العرب بأن غالبية الكلمات والأفعال فيها تتكون من حروف ساكنة فقط، على عكس كل لغات العالم الحديثة (ص 169)، وهى دعوى غير صحيحة، إذ الغلبة فيها إنما هي للحروف المتحركة لا الساكنة كما يعرف كل من له أدنى إلمام بلغتنا. أما إن كان يقصد الإملاء وأننا عادة ما نهمل تشكيل الكلمات فملاحظته تكون عندئذ في محلها. ولكن لا بد مع هذا من المسارعة إلى القول بأن السياق والتعود والإلمام بقواعد اللغة يعوّض عن هذا إلى حد كبير، علاوة على أن كثيرا من المؤلفين يحرصون على تشكيل ما يَرَوْن أنه بحاجة لذلك. بل إن القارئ في كثير من الأحيان لا يحتاج إلى التشكيل على الإطلاق، وهاهو ذا كتاب المؤلف بين أيدي القراء، وهو غير مشكَّل، فهل وجد أحدهم صعوبة في قراءة أية كلمة فيه؟ لقد أورد سيادته مثالا على الالتباس الذي يجده القارئ في هذه الحالة كلمةَ "قتلت" إذا لم يتم تشكيلها، لأنها يمكن أن تُنْطَق بعَشْر طُرُق. وأنا معه في أن الكلمة المذكورة تقبل النطق فعلا بكل هذه الصُّوَر، لكنْ على المستوى النظري فقط، أما على أرض الواقع العملي فالسياق والتعود والخبرة والإلمام بالقواعد يسهّل الأمر، كما قلت، إلى حد كبير، بل يعوّض كذلك عن غياب التشكيل تمام التعويض في كثير من الأحيان، وإلا فكيف كان يقرأ الناس ما يقرأون كل لحظة من نهار منذ أن انتشرت الكتابة في حياة العرب حتى هذه الساعة؟ أكانوا يتهتهون قليلا ثم يتركون ما يقرأونه وينصرفون عنه إلى شيء آخر أم ماذا؟ ثم إنه إذا كانت الكلمة المذكورة تحتمل عشر طرق في النطق فإن معظم الكلمات لا تحتمل إلا طريقة أو اثنتين لا غير كما هو معروف. وعلى أية حال فإن التشكيل، كما وضّحْتُ، يُعَدّ ركنا أساسيا في إملائنا، بَيْدَ أن عبقرية لغة القرآن وانتظامها الشديد في قواعد صرفها ونحوها يغنيان عن هذا التشكيل في كثير جدا جدا جدا من الحالات، وبخاصة إذا كان القراء على شاكلتي أنا وأمثالي ممن يعرفون تلك القواعد جيدا. هذا، ولا يفوتني أن أنبِّه إلى الخطإ الذي وقع فيه الكاتب حين قال إن "غالبية الكلمات والأفعال في العربية تتكون من حروف ساكنة فقط"، إذ جعل "الكلمات" قسيمة لـ"الأفعال"، وهذا غير صحيح، فالأفعال قسم من أقسام "الكلمة". وعلى هذا فالصواب أن نقول: "الأسماء والأفعال والحروف"، أو أن نكتفي بذكر "الكلمات" فحسب، لأن الكلمات في لغتنا تنقسم إلى "اسم وفعل وحرف" حسبما هو معروف.

وقد نال المترادفاتِ أيضا من هجوم الكاتب وزرايته نصيبٌ كافٍ، فأخذ يتألم من اتساع هذه الظاهرة في لغتنا داعيا إلى الاكتفاء منها بالقليل. وأنا في الواقع لا أدرى كيف يمكن أن تكون هذه السِّمَة مَسَبَّةً في لغة القرآن. ترى هل يمكن أن نجيء إلى رجل شديد الثراء بجِدّه وعمله ودأبه وذكائه وحيويته وطموحه فنقول له موبّخين: لماذا كل هذا الغنى والنعمة التي أنت فيها؟ لم لا تكون فقيرا؟ أم هل يمكن أن نذهب إلى إحدى الجميلات الفاتنات ونبكّتها قائلين: لماذا كل هذا الجمال الذي وَهَبَكِيه الله؟ لم لا تكونين قبيحة؟ وبالنسبة للمترادفات، فليقل لنا الأستاذ الفاضل كيف يمكن أن نتخلص من هذا الفائض اللغوي؟ هل نعمل له محرقة؟ لكن أيضمن ألا يطلع علينا أحد المستشرقين فيتهم العرب والمسلمين بالتخلف والوحشية وحرق الكتب، وبخاصة أننا لم نستطع بعد أن نخلص من التهمة الظالمة السخيفة بحرق مكتبة الإسكندرية رغم تفنيد عدد من الكتاب الغرب أنفسهم لها بأدلة علمية لا يخرّ منها الماء؟ وهبْ أننا دمَّرنا الكتب، ولا أدرى كيف، لأن هذه المترادفات ليست موجودةً في مكان واحد بحيث يمكن أن نرسل طائرة فتدك المكان فوق رؤوس هذه الكلمات اللعينة التي هي علة كل تخلفنا وذلنا، وتريحنا إلى الأبد منها ومما جلبته لنا من عار وشنار، فما الذي سنستفيده من هذا؟ إن تلك الألفاظ موجودة في بطون القواميس ولا تسبب لنا أية مشكلة، فلماذا نشغل أنفسنا بها؟ أهي مجرد الرغبة في إثارة عاصفة في فنجان؟ أما من يريد أن يستعملها فلسنا نملك له شيئا! أم ترى المؤلف الكريم يقترح إصدار تشريع بإعدامه أو سجنه مثلا؟ لكن المشكلة أن مثل هذا القانون سوف يكون فرصة رائعة لأنصار حقوق الإنسان في الغرب كي يؤلّبوا علينا أمريكا (دستور يا أسيادي الأمريكان، دستور! اللهم اجعل كلامي خفيفا على الأسياد!) فتحتلنا رغم أنهم يكرهون لغتنا ويعملون على القضاء عليها، وذلك على طريقتهم الشيطانية في الإفادة من الشيء ونقيضه، كما فعلوا مع صدام حسين وبه، إذ استفادوا منه في ضرب إيران، وشجعوه على غزو الكويت، ثم انقلبوا عليه واتهموه بالعدوان على هذين البلدين وبحيازة الأسلحة النووية التي اشترى معداتها من أوربا تحت سمعهم وبصرهم وهم ساكتون ما دامت النتيجة هي نزح ثروات العراق إلى بلاد الغرب! إن كثرة المترادفات لهى دليل على الدقة الهائلة التي تتمتع بها لغة العرب، فتراها تسمِّى الشيء أسماء مختلفة حسب الزاوية التي تنظر منه إليها، فالسيوف مثلا تسمى: "هندوانية" للدلالة على أنها صناعة هندية، وكانت الهند وقتها مشهورة بصناعة السيوف، فهذه التسمية لون من الافتخار، كما يقول الواحد منا الآن إن حاسوبه مثلا صناعة يابانية لا صينية. وقد تسمَّى أيضا بـــ"البِيض" للإشارة إلى ناصع لونها، وقد يسمَّى الواحد منها: "جُرَازا" للإيحاء بمقدرته الرهيبة في القطع من ضربة واحدة لا غير...وهكذا. على أن هناك سببا ثانيا وراء كثرة المترادفات عندنا، ألا وهو اختلاف القبائل قبل الإسلام في تسمية بعض الأشياء، مثلما نقول في مصر الآن: "كرنب"، على حين يقول الشوام: "ملفوف"، ومثلما نقول: "طماطم"، ويقولون هم: "بندورة"...إلخ، علاوة على أن كثيرا من هذه المترادفات ليست في الحقيقة تسميات مختلفة للشيء بل نُعُوتًا له استعملها الشعراء والكتاب دون موصوفاتها فظن المتعجلون أنها إسراف في الترادف. لكن ذلك كله لا يمثل لنا أية مشكلة، فهذه التسميات الكثيرة لا تتعدى بطون المعاجم كما قلنا، أما عند الكتابة فلا أحد منا يستطيع أن يتذكر عادةً إلا اسمين أو ثلاثة أو أربعة مثلا لأي معنى كان في يوم من الأيام يحظى بوفرة في التسميات. ويظل الباقي هناك مخزونا إستراتيجيا نستعمله عند اللزوم: إما لمسمّاه الأول، وإما في معنى مجازى جديد، وإما لشيء مستحدَث لم يكن للعرب به عهد من قبل...إلخ. ويشيد د.عثمان أمين بهذه الخصيصة من خصائص لغة الضاد قائلا إنها تتفوق بها على لغات العالم، إذ لا توجد في أي من هذه اللغات مثل تلك الوفرة من الألفاظ الدالة على الشيء منظورا إليه في مختلف درجاته وأحواله، ومتفاوت صوره وألوانه. ثم ينقل عن حسن الشريف المثال التالي: "فالظمأ والصَّدَى والأُوَام والهُيَام كلمات تدل على العطش، إلا أن كلا منها يصور درجة من درجاته: فأنت تعطش إذا أحسست بحاجة إلى الماء، ثم يشتد بك العطش فتظمأ، ثم يشتد بك الظمأ فتَصْدَى، ويشتد بك الصَّدَى فتَؤُوم، ويشتد بك الأُوَام فتَهِيم... وواضح أن هذه الخاصية العربية...تغنينا باللفظ الواحد عن عبارة مطوَّلة تحدد المعنى المقصود، وتجعلنا نقول عن المشرف على الموت عطشا إنه "هائم"، حين لا يستطيع الفرنسى مثلا أن يؤدى هذا المعنى إلا في ثلاث كلمات، إذ يقول : "مائتٌ من الظمإ: mourant de soif"، أو في سبع كلمات ليكون المعنى أوضح فيقول: "على وشك أن يموت من الظمإ: sur le point de mourir de soif"، ثم يعقّب على هذا النقل قائلا إن "هذا المثال المتقدم يشير إلى خصيصة عربية أخرى لا نكاد نجد لها نظيرا في غيرها من اللغات التي نعرفها، وهى الإيجاز في اللفظ والتركيز في المعنى دون الإخلال بما درجت عليه من الوضوح والتمييز"(فلسفة اللغة العربية/ المكتبة الثقافية/ أول نوفمبر 1965م/ 58ــ 59). كذلك أثنى والد المؤلف على هذه الخصيصة في اللغة الفصحى قائلا إن أية لغة غير العربية لا تعرف إلا كلمة واحدة للتعبير عن المشي للرجل والمرأة على السواء، أما لغتنا فتقول عن المرأة: "تتَأوَّد" و"تتبختر" و"تَرْفُل" وغير ذلك من الكلمات التي تصور تأنق المرأة في مشيتها وتنطق بما كان لذلك من أهمية (العرب والحضارة الأوربية/ المكتبة الثقافية/ 15 أغسطس 1961م/ 62). ومرة أخرى نقول: لم يجدوا في الورد عيبا، فقالوا له: يا أحمر الخدين! على كل حال لا ينبغي أن تضيق منا الصدور، فمصيرها أن تروق وتحلو! والمهم أن يفيق "أولاد الإيه" العرب من هذا الخُمَار الذي هم فيه، وعندئذٍ، لا قبلئذٍ، لن نسمع مثل هذه التصايحات التي تحاول التشكيك في كل شيء من تراثنا العظيم! لكن متى؟ "تلك هي المسألة" كما يقول سيدنا شكسبير! أما الآن فواضح أنه "لا حياة لمن تنادى"!

وبهذا نكون قد انتهينا من مناقشة فكرة المؤلف الرئيسية بتفصيلاتها المختلفة، وتبقى بعض النقاط الفرعية التي تحتاج إلى شيء من التريث إزاءها. ومن ذلك قوله إن اللغة العربية "هي اللغة الوحيدة في العالم التي لم تتغير قواعدها الأساسية منذ 1500 سنة كاملة. قد يرى البعض في ذلك رسوخًا واستمراريةً ودليلاً على رصانة اللغة، لكنى أرى فيه جمودًا وتحجرًا ينعكس سلبيًّا على العقل العربي"(ص 13). وهذا كلام لا نوافق المؤلف عليه بعدما بيّنّا كيف أن كل ما قاله عن عيوب هذه اللغة هو مجرد دعاوَى قائمةٍ على الشبهات المتعجلة، ولا أزيد. والواقع أن من الصعب الاقتناع بأن طول عمر العربية دليل على التحجر، وبخاصة بعدما رأينا أنها لم تكفّ يوما عن التطور كما وضّحْتُ في هذا البحث، وأن التأليف بها في شتى المجالات والعلوم والفنون مستمر على الدوام. إن طول عمر لغة القرآن إنما هو برهان جلىّ على أصالتها التي لم تستطع لغة أخرى أن تجاريها فيها. ولقد دفعت هذه الأصالة العجيبة كبار الأدباء العرب النصارى المتمكنين من لغتهم والغيورين عليها والعارفين بفضلها وعبقريتها إلى الإشادة بذلك السر الذي حمى تلك اللغة من الاندثار أو التغير الجذرى الذي من شأنه أن يقيم حاجزا صَلْدا ما بين ماضيها وحاضرها أو التحلل وإفساح المجال للهجاتها المختلفة مثلما حدث لغيرها من اللغات، ولم يمنعهم عدم إيمانهم بدين محمد من القول بأن ذلك السر هو القرآن. ومن هؤلاء سليمان البستاني مترجم الإلياذة الذي كان يعرف عددا من اللغات الأجنبية، ومنها اليونانية القديمة (إلياذة هوميروس/ دار إحياء التراث العربي/ بيروت/ 1/ 113ــ 115)، وجرجى زيدان (مختارات جرجى زيدان/ مطبعة الهلال/ القاهرة/ 1937/ 187ــ 189). وإلى القرآن الكريم أيضا تعزو مىّ زيادة النصرانيةُ اللبنانيةُ المتمصِّرةُ فصاحةَ المسلمين العربِ واستقامةَ لفظهم وجمالَ نطقهم وفخامةَ أسلوب الكاتبين منهم (باحثة البادية وعائشة التيمورية/ كتاب الهلال/ يونيه 1999م/ 60). وبالمناسبة لقد أحدث الأتراك في لغتهم تغييرات كثيرة وعنيفة عامدين متعمدين كى يبتعدوا عن مدار العربية ظنا منهم أن ذلك هو المفتاح الذي سيلحقهم بأوربا في التفوق والتحضر والتقدم الاقتصادي والعسكري، بَيْدَ أن تركيا ما زالت دولة من دول العالم الثالث، وتعانى من كل ما تعانى منه دول ذلك العالم، ولم يشفع لها ما فعلته بلغتها أو بدينها في هذا السبيل بشيء! بل إن أوربا لا تزال تقف منها موقف المتربص الكاره، وتأبى عليها أن تلتحق بالاتحاد الأوربي بسبب أنها دولة مسلمة! بعد كل الذي فعلته؟ إي وربى بعد كل الذي فعلته! فما رأى مؤلفنا الفاضل؟ وعلى الناحية الأخرى هاهي ذي دول النمور الآسيوية قد أحرزت في الفترة الأخيرة نهضة اقتصادية عظيمة من دون أن تحدث في لغاتها أو دينها هذا الذي فعلته تركيا الكمالية! فما رأى مؤلفنا الفاضل في هذه أيضا؟ كذلك يقول سيادته إن "ظاهرة رفض المساس باللغة العربية هي جزء من ظاهرة أعم أصبحت مسيطرة على المجتمعات العربية، فقد استشرى منذ الثلث الأخير من القرن العشرين تيار جارف يعتبر كل بدعة مكروهة، ويرى في أي فكر حرّ متطور محاولةً شيطانية لتقليد الغرب ونَبْذًا للدين والثقافة العربية الأصيلة"(ص/ 58). ويؤسفني أنني لا أستطيع أن أتفق معه في هذا التعليل، وإلا فأين مكان والده والشدياق وبطرس وسليمان البستاني وناصيف وإبراهيم اليازجي وجرجى زيدان وخليل مطران وابن باديس وشكيب أرسلان ومحمد كرد على والبشير الإبراهيمي والطاهر والفاضل ابني عاشور والرافعي والعقاد وطه حسين والزيات وعثمان أمين وحسن الشريف ومحمد محمد حسين ومحمود شاكر وبنت الشاطئ وشوقي ضيف ومحمد شوقي أمين ومحمد خليفة التونسي وعلي الطنطاوي ومحمد الغزالي وحسين نصار ونجيب محفوظ وعبد الصبور شاهين وفاروق شوشة وغيرهم من الكتاب والأدباء العرب الفطاحل من هذه النزعة، وهم قد جاؤوا قبل ظهورها بزمن طويل، ولهم رؤية للدين وللحياة تختلف عن رؤية أصحابها؟ وأين مكان واحد مثلى لا تربطه أية رابطة بالجماعات الدينية التي يرمى المؤلف بكلامه ناحيتها، وأرى أنهم كثيرا ما يسيئون لدين محمد عليه السلام، وإن ظنوا بحسن نية أنهم يحسنون صنعا، إذ هم يحبون هذا الدين العظيم حُبًّا جمًّا لكنهم قد يخطئون السبيل لخدمته؟ بل أين منهم أيضا مكان أحمد لطفي السيد، الذي كان، رغم كل ما هو معروف عنه من أفكار لا تعجب كثيرا منا، يحمل على العامية حملة شعواء واسِمًا إياها بأنها ممسوخة الألفاظ، منحطة التراكيب، ملحونة الإعراب؟ (المنتخبات/ طبعة المقتطف/ 1945م/ 123). ثم من قال إن الجماعات الدينية المشار إليها تهتم أصلا بمسألة كهذه؟ إن كل ما تهتم به لا يكاد يخرج عن قضية الحلال والحرام بالمعنى الضيق لهذين المفهومين، أما اللغة فخارج دائرة اهتمام أفرادها. إن المسألة في وضعها الصحيح هي أن سيادته يتبنى قضية خاسرة، فضلا على أنه لم يستطع أن يربحنا، ولو بالباطل، إلى صفّه. لكنه للأسف لا يريد أن يعترف بهذا، فما العمل؟ نحن مقتنعون مثله، بل أشد منه، أننا متخلفون، وأن الغرب أقوى منا، وأن لديه أشياء كثيرة في العلوم والصناعات والفنون والنظام والتخطيط والتنسيق والتعاون والجَلَد على العمل والصبر على مشقات الحياة...إلخ لا بد لنا من الاستفادة منها والتتلمذ عليه فيها، وبخاصة أن كثيرا من القيم التي عنده هي مما يدعو إليه الإسلام أيضا، مع تفوقها في الإسلام وخلوها من الشوائب والأوضار التي تمازجها لديه. لكن هناك شيئين لا نفكر في التخلي عنهما ولا في مطاوعة الغرب في التفريط فيهما أبدا: اللغة والدين! فإن وافقَنا الكاتبُ على هذا فنحن أحباب، وإلا فهو في طريق، ونحن في طريق، ومعنا والده أو بالأحرى روح والده ترفرف علينا وتشجعنا على مخالفة ابنه وتنكر عليه هذا الموقف تمام الإنكار!

الرافعي
2009-10-15, 12:09 AM
وزرايةً من الكاتب أيضا على اللغة العربية يزعم أن عشق العرب الأول يتمثل في التلاعب بالكلمات. يريد أن يقول إنهم لم يكونوا ينظرون إلى اللغة على أنها وسيلة للتفاهم بل للعبث وإضاعة الوقت جريا وراء سجعة أو جناس أو طباق، أو لتحبير رسائل تقرأ في ذات الوقت من اليمين للشمال وبالعكس... إلى غير ذلك من ألوان الزينات الشكلية التي يؤكد أنها لا تفيد في شيء. وهو يشير في هذا المقام إلى ما كان يفعله واصل بن عطاء، الخطيب والمفكر المعتزلي المشهور الذي كان في لسانه لثغة، فكان يتجنبها في خُطَبه مستبدلا كل كلمة فيها "راء" بكلمة أخرى ترادفها تخلو من هذا الحرف (ص 84ــ 85) رغم أن هذا المثال إنما يدل على عكس ما يريد الكاتب، إذ لا أظن لغةً أخرى تستطيع أن توفر مثل هذه الإمكانية العجيبة لأحد من أبنائها بأي حال! كذلك فإنني، وإن كنت في ذوقي الكتابي كأبناء عصري من الكتاب والأدباء ممن لا يتبعون في أساليبهم سبيل المحسّنين المزخرفين، لا أستطيع أن أنكر أن هذه التزيينات إنما تدل رغم ذلك على مدى ما تتمتع به هذه اللغة العجيبة من إمكانات صوتية ومعنوية، وعلى ما كان هؤلاء الأدباء يملكونه من موهبة أسلوبية وعقلية تتيح لهم هذه السيطرة الرائعة على لغة أمتهم. صحيح أن بعضهم كانت تستغرقه النزعة الشكلية إلى حد مبالغ فيه بحيث لا يقدم لنا ما يكتبه شيئًا فكريًّا ذا قيمة كبيرة، بيد أن كثيرًا جدًّا أيضًا من النصوص التي تزخرفها البديعيات كانت تحتوى في ذات الوقت على مضمون عقلي وأدبي رائع، ومنها "رسالة الغفران" لأبى العلاء المعرِّىّ، ومقامات الهمداني والحريري التي يرى فيها نقادنا المحدثون حتى من اليساريين أنفسهم الأساسَ الأولَ للقصة القصيرة العربية، وكذلك "ألف ليلة وليلة" التي بهرت المستشرقين وكتبوا عنها البحوث المطوَّلة ورَأَوْا فيها إبداعا أدبيا قل أن يوجد له ضَرِيب! ومع ذلك كله فإن العرب لم يكونوا كلهم من عشاق التلاعب بالكلمات، وإلا فهل كان عبد الحميد الكاتب أو ابن المقفع أو سهل بن هارون أو الجاحظ أو ابن سلاّم أو ابن قتيبة أو أبو الفرج الأصفهاني أو ابن المعتز أو أبو حيان التوحيدي أو ابن جنى أو القالي أو القاضي الجرجانى أو عبد القاهر أو أسامة بن منقذ أو ابن حزم أو الغزالي أو الفارابي أو ابن سينا أو ابن رشد أو ابن مسكويه أو الطبرى أو القرطبى أو الزمخشري أو القُشَيْري أو السيوطي أو ابن خَلْدون أو جابر بن حيان أو ابن الهيثم أو أبو بكر الرازي وغيرهم، وهم بالألوف، كانوا يتلاعبون بالكلمات؟ لقد كان هذا الاتجاه يا أ.شوباشى محصورا في بعض العصور فحسب، وحتى في هذه العصور لم يكن كل الكتاب يجرون عليه في مؤلفاتهم، ولا كان الذين يجرون عليه يتّبعونه في كل ما يؤلفون. ولست أظن أن مثل هذه الحقائق الدامغة كانت غائبة عمَّن أحسب، صوابًا أو خطأً، أنهم أمدّوك بالنصوص القديمة وعناوين الكتب التي أُخِذت منها وأسماء مؤلفيها ممن لا أظنك على معرفة بهم إلى الحد الذي يعكسه كتابك، نظرا لثقافتك الفرنسية التي أقدّرها رغم هذا! وعلى أية حال فقد كان ينبغي أن ينبهك إلى ذلك الأمر الأستاذُ الذي ذكر لي قُبَيْل دخولنا إلى الأستوديو لمناقشة كتابك أن دوره انحصر في قراءة مخطوط الكتاب وإجازة نشره، وذلك عندما سألتُه عما إذا كان هو الذي أمدَّك بالمعلومات الخاصة بالأدب العربي التي لا يعرفها عادة إلا أهل الاختصاص مما استبعدتُ معه أن تكون قد توصلت إليها وحدك في مظانّها التي تستعصي إلا على خبير في الموضوع.

ومن النقاط التي يثيرها الأستاذ الشوباشي دون أي داع مسألة قدسية اللغة العربية، التي قال، وأنا معه في هذا الذي قال، إنه لا يوجد في القرآن أو الأحاديث النبوية ما يدل على صحتها رغم ما ذكر من أن بعض المتحجرين، حسب وصفه، يرون أنها مقدسة فعلا(ص 71 وما بعدها). وهو يرمى من وراء هذا إلى أنه لا مانع من الأخذ بما يدعو إليه في كتابه من تغيير اللغة على النحو الذي يقترحه ونرى نحن أنه سيكون له عواقب وخيمة إذا تحقق ما يريد. ثم إنه لا يكتفي بهذا، بل يتساءل عما إذا كان هناك نص في كتاب الله أو سنة رسوله يؤكد أفضلية العرب على سائر الأمم. وهو يرمى هنا أيضا إلى نفس الغاية فيما أظن. وأنا معه هنا أيضا في أنْ ليس في القرآن المجيد أو الحديث النبوي الشريف ما يدل على أن العرب هم أفضل الأمم. بل إن في كلام النبوة أنه لا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى والعمل الصالح. وأزيده من الشعر بيتا حسبما يقول إخواننا السعوديون فأقول له ما أكرره دائما من أن العرب في هذا العصر هم عنوان الهوان والمذلة والبلادة والضياع. لكن هذا كله لا يوصّل، فيما أرى، إلى شيء مما يريد بلوغه من تغيير اللغة على النحو الذي يرمى إليه. فلغتنا، وإن لم تكن مقدسة، تستحق منا أن نهيم بغرامها ونفاخر أصحاب اللغات الأخرى بها ونرى أنها لغة مباركة لأنها هي الوعاء الذي اصطفاه الله تعالى لحفظ كتابه الكريم إلى يوم الدين! والواقع أنه إذا لم يكن هذا الاصطفاء كافيا لهُيَامنا بتلك اللغة وحرصنا على الاعتزاز بها فلا أدرى كيف يمكن أن يكون هناك سبب للاعتزاز بأي شيء في الحياة! وعلى أية حال لقد ذكر سيادته أن من الأمم الأخرى من ينظر نظرة تقديس إلى لغته، وعلى هذا فحتّى لو قدَّسنا لغتنا فلن نكون بدعا في ذلك. لكن العرب الآن لا يقدسون كلهم لغتهم أيًّا كان معنى التقديس، وإلا لكانوا أتقنوها كما ينبغي أن يكون إتقان اللغة القومية، ولم يكن معظم طلابهم ومثقفيهم بهذا المستوى المتدني فيها وفى غيرها. إن الذين يعتزون بلغة القرآن، أو إن شئت فقل: إن الذين يقدّسونها، إنما هم الذين اطَّلعوا على أسرارها ويستطيعون من ثَمَّ أن يحسّوا بما فيها من عبقرية، أما العامة، وكذلك أشباه العامة ممن لا يمكنهم تذوق جمالها حتى لو كانوا حاصلين على أعلى الشهادات الجامعية، فليسوا من تقديسها في شيء. هذا، وقد تناقض المؤلف في تحديد الزمن الذي يزعم أن نزعة تقديس اللغة العربية قد بدأت فيه: فمرة يقول إنه العصر الأموي بما كان سائدا فيه من اتجاه عروبي يجعل الأولوية في الدولة للعرب مُؤْثِرًا إياهم على بقية الأجناس المسلمة(ص 87ــ 88)، ومرة يقول إنه العصر العباسي، وبخاصة منذ عهد المعتصم حين أطلت الشعوبية برأسها وأخذ المسلمون من غير العرب يزايدون، كما يقول، على اللغة العربية ويبالغون في تبجيلها رغبةً منهم في إثبات حسن إسلامهم (ص 95ــ 96).

وهنا نجد الكاتب يُدْخِلنا في قضية جانبية لا علاقة لها، فيما نرى، بموضوع الكتاب الذي هو المناداة بإصلاح اللغة العربية، إذ يقفز فجأة فيخصص فصلا يتحدث فيه عن الدور الذي قام به النصارى العرب قديما منذ العصر الجاهلي حتى العصر الحديث في مجالات الأدب والعلم(ص 96 وما بعدها)، وهو ما لا نريد المشاحّة فيه، اللهم إلا حين يتنكبّ سبيل الحقيقة زاعما أن نصارى العهد العباسي ، عندما رأَوْا أنفسهم وقد أُبْعِدوا عن مجالات الإبداع الأدبي بسبب من تقديس المسلمين للغتهم وكراهيتهم لمشاركتهم إياهم في ميادينها، قد انكبوا على العلوم الطبيعية تاركين للمسلمين التفوق في الأدب وإبداعاته. وهذا نص كلامه: "وعندما اكتملت سيطرة العناصر غير العربية على الدولة في العصرالعباسي كادت دراسة اللغة تقتصر على المسلمين وحدهم نظرا لأنها تتم في المساجد والمدارس الدينية، وارتبطت بحفظ القرآن. ولجأ المسيحيون إلى العلوم فبرعوا فيها وظهرت أجيال من الأطباء والفلاسفة وعلماء الرياضيات استعان بهم الخلفاء والأمراء، أما المسلمون فكادوا يغيبون عن ساحة العلم ودراسته في مناخ من التردي الحضاري"(ص 97). فالمعروف أن النصارى في تلك العهود قد استأثروا بترجمة العلوم، أما الاشتغال بالعلم ذاته فكان نصيب المسلمين فيه هو الأعظم، والأسماء المشهورة في هذا المجال هي أسماء جابر بن حيان والحسن بن الهيثم وابن سينا والرازي وعلى بن عيسى والزهراوي وابن البيطار ورشيد الدين الصوري وابن رشد وابن أبى أُصَيْبِعَة وأبى جعفر الغافقى والبيروني وأبى معشر البلخي والفرقاني والبوزجاني والخوارزمي وعبد اللطيف البغدادي وابن النفيس وعلى بن رضوان وابن الجزار وعمار بن على... إلخ؟ وهو نفسه يعود فيذكر أسماء بعض العلماء العرب المسلمين هادما بذلك ما قاله قبلا عن انفراد النصارى تقريبا بالعلوم في مقابل انفراد المسلمين بالأدب واللغة(ص 100).

ومما لا نوافق سيادته عليه أيضا اتخاذُُه من استحالة إلمام أي شخص بجميع مفردات العربية وأشعارها تكأةً للهجوم على الفصحى وقواعدها والدعوة إلى هجرانها والاستعاضة عنها بلغةٍ لا إعرابَ فيها ولا مترادفاتِ ولا تثنيةَ ولا تأنيثَ مما أفضنا في مناقشته من قبل(ص115)، إذ إن هذا العجز غير خاص بلغتنا وشعرها، بل يصدق على جميع اللغات. وهذه هي طبيعة الحياة كلها لا الأدب والشعر فحسب، فلكلٍّ منا من أي شيء في الدنيا نصيب محدود لا يعدوه رغم ترامى أطراف الأرض وكثرة الخيرات الإلهية. ترى هل يمكن أن يملك أي إنسان جميع السيارات مثلا أو جميع البيوت أو جميع الحقول أو جميع الكتب أو جميع المصانع أو جميع الأحذية التي في الدنيا؟ فلماذا يحاول الكاتب أن يوهمنا بأن في عجز العربي، مهما كان نصيبه من الثقافة اللغوية، عن استيعاب مفردات لغته كلها في عقله ما يدعو إلى الاستغراب وما يستلزم فوق ذلك أن نهجر هذه اللغة إلى لغة أخرى ليس فيها كل هذه المفردات التي تتضمنها الفصحى والتي تصل، كما يقول، إلى مليوني كلمة؟ وهنا نراه ينعَى على العربية خلوها من المعاجم العملية السهلة الموجودة في اللغات الأخرى(ص 115). ولست في الحقيقة أعرف ماذا يقصد مؤلفنا بخُلُوّ لغتنا من هذا اللون من المعاجم، فالمعروف أن هناك معاجم عربية كثيرة، لكن المشكلة تكمن في أن العرب لا يهتمون بالثقافة والقراءة عموما، وبخاصة في ميدان اللغة، اللهم إلا المتخصصين، أما سائر أفراد الشعب فهم في عمومهم في واد، والاهتمامات الثقافية في واد. وحتى إذا كان يقصد بالمعاجم السهلة العملية تلك التي تُرَتَّب فيها الكلمات بناء على رسمها لا على جذرها اللغوي كما هو متبع في المعاجم العربية الأصيلة، فهذا الضرب من المعاجم موجود عندنا أيضا. ولدىَّ في مكتبتي الخاصة عدد منها رغم أني أفضِّل الطريقة المعجمية التقليدية لملاءمتها لطبيعة لغتنا، لكنى اشتريتها من باب اقتناء كل ما أستطيع اقتناءه من الجديد في ميدان اللغة والأدب، ولتكون أيضا في متناول أولادي الصغار إذا ما أرادوا أن يبحثوا عن معنى كلمة دون أن يرهقوا أنفسهم في البحث عن أصل مادتها. ومن هذه المعاجم "منجد الطلاب" و"الرائد" و"لاروس" وغيرها. وتتجاوز المعاجم ودوائر المعارف التي في مكتبتي في كل ما يخطر على البال تقريبا من العلوم والفنون مائتين رغم أنها ليست من المكتبات الغنية التي أراها أو أسمع بها عند بعض العلماء. إلا أنني حريص أشد الحرص على امتلاك أكبر عدد ممكن من هذا الضرب من الكتب لأنها تسهل الوصول إلى المعلومات التي أبغيها في أسرع وقت وبأوجز عبارة. لكن كم من خريجي أقسام اللغة العربية، ودعنا من خريجي الأقسام الأخرى، يهتم بأن يكون في بيته معجم، أو أن يفتح أي كتاب أصلا؟ هذه هي المشكلة لا اللغة العربية وصعوبتها المزعومة! وأنتهز الآن الفرصة لأُعِيد القول هنا بصوتٍ عالٍ وبملء فمي إن مثل هذه المزاعم والشكاوَى سوف تختفي وتصبح في خبر "كان" يوم يُقْبِل العرب على القراءة ويهتمون بترقية عقولهم وأذواقهم كما يهتمون ببطونهم وتسلياتهم التافهة، وكما كان أجدادهم يهتمون بالعلم والأدب وشؤون الفكر والثقافة أيام مجدهم الحضاري!

الرافعي
2009-10-15, 12:09 AM
ومن آراء المؤلف الغريبة أيضا التي لا أدرى من أين عنّت له قوله إن عندنا نحن العرب منذ قرون طوال شيزوفرانيا لغوية، إذ عندما نترك أنفسنا على سجيتها فإننا نستعمل اللهجة العامية، أما عندما نكتب أو نقرأ أو نستمع إلى نشرات الأخبار فإننا نتحول إلى اللغة الفصحى(ص 125). وهو رأىٌ فطيرٌ لا ينهض على أي أساس، فنحن لا تتغير شخصيتنا عندما ننتقل من مستوى لغوى إلى مستوى لغوى آخر حسب السياق الذي نجد أنفسنا فيه، وإلا لكان البشر جميعا مصابين بألوان وألوان من الشيزوفرانيا لأنهم دائمو التنقل من حالة لأخرى في كل وقت من النهار والليل: ففي البيت نرتدي المنامة والشبشب، أما عندما نخرج إلى الشارع فنلبس القميص والسراويل، وفى الحفلات والمناسبات الرسمية نأخذ كامل زينتنا ونلبس البدلة ورباط الرقبة والحذاء والجورب...إلخ. ونحن حين نكون في الشارع في عجلة من أمرنا فإننا نسكت صراخ بطوننا بشطيرة كيفما اتفق، على حين أننا لو كنا بالبيت فلن نرضى من زوجاتنا بأقل من الطبيخ واللحم والسَّلَطات والجبن والفواكه... وهلم جرًّا. كذلك فالواحد منا يكون خارج البيت مجاملا مع الآخرين، بينما يترك نفسه على طبيعته مع أهل بيته فيصرخ وينفعل، وقد يكون وَعْرا شديد الوعورة...وهكذا، وهكذا. ترى أيخطر في بال أحدنا أن يسمّى شيئًا من هذا شيزوفرانيا؟ وعلى كل حال فهذا الانتقالُ من مستوى لغوى إلى مستوى لغوى آخر موجودٌ في كل اللغات، وليس مقصورا على لغة القرآن، إذ الحياة في كل مجالاتها ومظاهرها مرتبةٌ درجاتٍ بعضُها فوق بعض. والفصحى، كما سلف القول، تشبه ارتداء الملابس الرسمية كاملة، أما عامية المثقفين فتشبه القميص والسراويل، وأما عامية غير المتعلمين فتشبه مباذل العمل، وتبقى عامية الدهماء والغوغاء، وهى أشبه ما تكون بملابس الكناسين وكاسحى المجارى. ولست أقصد بهذا تحقيرا لأي أحد أو لأية مهنة. إنما هو مَثَلٌ ضَرَبْتُه لأبين للقراء الأفاضل أن المؤلف لا يقول كلاما سليما حين يتهم العرب من دون سائر خلق الله بأنهم مصابون بداء "الشيزوفرانيا"! وليس الفرق بين اللغة الفصحى واللهجة العامية كالفرق بين لغتين مختلفتين كما يزعم خطأً، وإلا فكيف يفهم العامي المغرقُ في الأميةِ والجهلِ كلامَ الخطيب يوم الجمعة والآيات القرآنية والأحاديث النبوية وأقوال الصحابة وأبيات الشعر التي تتضمنها الخطبة عادة؟ وقل مثل ذلك في نشرات الأخبار والتحليلات السياسية والكلمات التي تلقى في الندوات العامة. كذلك كيف يفسر الكاتب مقدرة ابنتي الصغيرة التي لا تزال في المرحلة الابتدائية على فهم القصص والمجلات والكتب التي أشتريها لها لتقرأها وتستمتع بها، حتى إنها لتفاجئني بترديد بعض عباراتها الفصحى كما فعلت الليلةَ مثلا حين كنت أهدهدها وهي بجواري تقرأ في إحدى مجلات "ميكي"، إذ انطلق لسانها قائلةً: "لماذا تُرَبِّتُ على كتفي يا أبى ؟": هكذا بالنص كما شكَّلتُ الجملة، مما جعلني أهتف بصوت مسموع وأنا أقهقه: "تعال يا أستاذ شوباشى، اسمع!"، وهو ما دفعها إلى السؤال باستغراب: "من الأستاذ الشوباشي هذا يا بابا؟"، فضحكتْ زوجتي، التي تعرف الأمر وتتابعه معي أَوَّلاً بأَوَّل… والطريف أن هذه الصغيرة نفسها كثيرا ما تسألني عن بعض الكلمات والعبارات العامية التي لا تدرك معناها فيما أحب الاستماع إليه من أغانٍ مثل أغنية "غُلُبْت أصالح في روحي" لكوكب الشرق، التي لم تفهم منها عبارة "صعبان علىّ اللى قاسيته، في الحب من طول الهجران"؟ ثم كيف يفسر سيادته استطاعتي أثناء طفولتي الأولى في الكُتّاب فهم قصص الأنبياء التي كانت تقع في يدي بين الحين والحين في خمسينات القرن الماضي حين كانت القرية المصرية غارقة في ظلمات الأمية إلى حد كبير، وكل ما كان في جَعْبتنا من الفكر والثقافة في ذلك الحين قواعدُ الإملاء وعملياتُ الحساب الأولية وحفظُ بعض السُوَر القرآنية؟ وماذا يقول في القراء الذين لم يحصلوا على أية شهادة علمية، لكنهم يحبون القراءة ويستطيعون أن يفهموا ويتلذذوا بمطالعة الكتب الراقية التي ألفها فطاحل الكتاب والأدباء كالعقاد والمازني وطه حسين وأحمد أمين وفريد أبو حديد مثلا؟ وكيف يا ترى يفهم هذا النوعُ من القراء بوجهٍ عامٍّ آياتِ القرآن وأحاديثَ النبي، وكتب التفسير والفقه وغيرها من المؤلفات التراثية؟ إن الكاتب يبدو وكأنه يتحدث عن مخلوقات تعيش في الفضاء الخارجي لا نعرف عنهم شيئا إلا ما تحكيه الأساطير والقصص الخرافية، فهو يأخذ راحته تماما في الحديث عنهم وعن غرائب أحوالهم مطمئنًّا إلى أن أحدا لن يستطيع أن يعقِّب على ما يقول! ثم بالله عليكم أيها القراء، هل يُعْقَل أنه إذا ذهب واحد مثلى إلى البقال وأصابه خَبَلٌ في عقله (بعد الشر!) وقال له: " أعطني يا بُنَىَّ رغيفا من الخبز، وزِدْ عليه قطعة من الجبن"، أن البقال لن يفهم من هذا الكلام شيئا كما يزعم أ.الشوباشي؟ طيب ما رأيك يا أ.شوباشى أنى أنا نفسي قد فهمت هذه الجملة من أول وهلة؟ تَصَوَّرْ! ألست أستحق منك جائزة؟ لا تضحكوا من فضلكم أيها القراء الكرام من منطقي هذا في الرد، فإن مثل تلك الدعوى لا يُرَدّ عليها إلا بذاك المنطق! والواقع أن هذا الكلام هو من عيّنة الزعم المضحك بأن المجمع اللغوي يقول في تسمية الساندويتش: "شاطر ومشطور وبينهما طازج"! ومن الغرائب في هذا السياق قول المؤلف إن العربي في كل العصور والأزمنة كان يهجر الفصحى ويلجأ إلى العامية يعبر بها عما في صدره حتى إنه لو ذهب لحبيبته وقال لها: "أنا هائم في غرامك" أو "وجهك الصبوح يهز كياني" لانتهت العلاقة بينهما بهذا الغزل البليغ (ص 135). وطبعا لو أنه، بدلا من هذا، غازلها بالفرنسية التي لا تعرف منها حرفا فلسوف ترتمي على صدره من فورها وتُكَلْبِش فيه واقعةً لشوشتها في هواه، ولن يستطيع أحد عندئذ أن يفكّه منها ولو بالطبل البلدي! لكن ماذا تقول يا أستاذ في كل الغزل العربي طوال الخمسة عشر قرنا الماضية وزيادة، وقد كان كله بالفصحى، اللهم إلا الأغاني العاطفية في العقود الأخيرة، بل كانت رسائل بعض الشعراء إلى حبائبهم بهذه اللغة كما فعل بشار والعباس بن الأحنف وابن زيدون والبهاء زهير، لا بالعامية كما تظن أنت؟ ملعوبة هذه ؟ أليس كذلك؟ وما رأيك في أن المحبين والمحبّات، حتى في عصرنا هذا، حين يكتب بعضهم لبعض رسائل غرامية إنما يكتبونها عادة بالفصحى، ويبكون إذا استمعوا إلى الأغاني الفصيحة من مثل: "أيظن؟" أو "لا تكذبي"، أو "رسالة من امرأة مجهولة" أو "لستَ قلبي" أو "حبيبَها" أو "قصة الأمس" أو "أراك عَصِىَّ الدمع" أو "فَجْر" أو "جبل التَّوْباد" أو "عُدْتَ يا يوم مولدي" أو "أشواق" أو "لا تودعني حبيبي"؟ بل إنهم حينما يبكون إنما يبكون بالفصحى! ما رأيك في هذه أيضا؟ ملعوبة؟ ألا توافقني على هذا؟ حتى أحمد رمزي في الفِلْم المشهور الذي لا أعرف عنوانه ، والذي كان يقوم بدور السّنّيد فيه كالعادة الأستاذ غراب (عبد السلام النابلسي)، كان يستعين بسعد عبد الوهاب في كتابة الخطابات الملتهبة للممثلة إيمان باللغة الفصيحة مما لا تُعَدّ الجملتان اللتان استشهدتَ بهما سيادتك بجانبه شيئا بالمرة! أتستطيع أن تنكر هذه الواقعة أيضا؟ إنك إن فعلت فسوف أرفع دعوى قضائية وأطلب شهادة الممثلَيْن المذكورَيْن، ولا أظنهما يجحدان الشهادة، وإلا فهناك نسخة الفلم، وهي لا يمكن أن تغير ذمتها! وقِسْ على ذلك الفلم غيره من الأفلام!

وبعد، فقد آن لنا أن نلقي القلم ونستريح، ولكن قبل أن نفعل لا بد أن نبين للقراء ماذا نقصد بكلمة "عبقرية" حين نصف بها لغتنا الفصحى: أول شيء أنها لغة طويلة العمر، إذ يبلغ عمرها أكثر من ستة عشر قرنا بكثير، وهذه الخصيصة دليل على أصالتها وعلى أن فيها سرًّا وبركة، وإلا ما استطاعت أن تقوم بحاجات أجدادنا وآبائنا ثم حاجاتنا نحن أيضا على مدار هذا التاريخ الطويل الذي لم يهبه اللهُ للغةٍ غيرها. لكن أ.الشوباشي لا يستطيع أن يدرك هذا المعنى، ونحن ندعو الله له بالاهتداء إلى إدراكه حتى لا يتجنى على هذه اللغة العبقرية. وثاني شيء أنها تخلو من التنافر في حروف كلماتها بحيث لا تجد فيها مثلا كلمة تحتوى على "دال" يوجد قبلها أو بعدها "طاء" أو "ظاء"، أو كلمة تحتوى على "جيم" يجيء قبلها أو بعدها "غين"، أو كلمة تحتوى على "سين" يأتي قبلها أو بعدها "شين"... إلخ. وعلى هذا فأنت حين تقرؤها أو تتكلمها لن تجد فيها ما يثقل على لسانك أو أذنك أو ذوقك. بل إنها لا تقبل أن تكون فيها كلمة تبدأ بحرف ساكن. وهذا وذاك مما لا يتوفر لغيرها مما نعرفه على الأقل من اللغات الأوربية التي يفاخرنا بها كل من في قلبه شيء تجاه العربية الفصيحة! وثالثا فهذه اللغة كل كلماتها موزونة، والأوزان التي تجرى عليها تلك الكلمات معروفة ومعدودة ويمكن أن يُلِمّ بها أي شخص في عجالة: فالأفعال الماضية مثلا إذا كانت مكونة من ثلاثة أحرف لا تخرج عن أن تكون على وزن "فَعَلَ" أو "فَعِلَ" أو "فَعُلَ". والمضارع من الوزن الأول يكون إما على وزن "يَفْعَلُ" أو "يَفْعِلُ" أو "يَفْعُلُ". أما من الوزن الثاني فهو إما على وزن "يَفْعِلَ" أو "يَفْعَل"، ولا ثالث لهما. ويبقى الوزن الثالث، والمضارع منه ليس له إلا صورة واحدة هي "يَفْعُل"... وهذا مجرد مثال. ولهذا كانت اللغة الفصحى لغة مُوَقَّعَة تمتع الأذن، وهذه قيمة يهتم بها ذوّاقو اللغات. كذلك فكل وزن من أوزان الكلمة له معنى أو أكثر، ومن ثم كان من السهل في كثير من الأحيان معرفة المعنى الإضافي للكلمة بسهولة: فمثلا المصادر الثلاثية التي على وزن "فُعَال" تدل عادة على مرض أو ألم مثل: "دُوَار، زكام، صداع، كُبَاد، كساح، قراع، خُنَاق"... إلخ. كما أن اسم الآلة لا يخرج في صِيَغه القياسية عن الأوزان التالية: "مِفْعَل، مِفْعال، مِفْعَلة، فَعّال، فَعّالة، فاعُول"...وهلم جرا. ثم إن الإعراب الذي يزعج بعض الناس هو أيضا سر من أسرار هذه اللغة العجيبة التي انبثقت من قلب الصحراء، لكنْ ما إن نزل بها كتاب الله حتى انطلقت من عزلتها إلى آفاق العالمية وصارت لغةَ إمبراطوريةٍ متراميةِ الأطراف. وهذا الإعراب يعطيها مرونة وحرية وحيوية ليست للغةٍ غيرها. إن كاتبنا يبدى ضيقة بهذه السمة مفضلا عليها أن تجيء الجملة على وتيرة واحدة لا تتغير، كالذي لا يعرف من ألوان الأطعمة إلا " السميط والجبن"، فيظل طول النهار يأكل "سميطًا وجبنًا، سميطًا وجبنًا، سميطًا وجبنًا" حتى مشّّشَتْ بطنه من الجبن وتكلَّس السميط فيها، مع أن خيرات الله في ميدان الأكل لا حَصْر لها ولا حدّ لتنوعها. لكن ماذا نقول فيه وفى أمثاله ممن لا يريدون أن يعرفوا أن نعم الله كثيرة وأن في الدنيا أشياء غير "السميط والجبن"؟ وفضلا عن هذا فإن الفصحى تمتاز بالثراء الفاخر في معجمها اللفظي، فما من شيء أو صفة أو معنى مهما كان من دقته إلا وَضَع له العرب عدة كلمات تنظر إليه من كل زواياه مثلما رأينا فيما قاله حسن الشريف في مثال "العطش"، وكذلك ما قاله محمد مفيد الشوباشي في "مشى المرأة"، وما قلته أنا في بعض أسماء "السيف". وهناك مزايا أخرى كثيرة ليس هنا موضع تبيانها، فتُطْلَب في مظانّها.

ونصل الآن إلى خط النهاية، ولكن قبل أن نطوي أوراقنا لا بد من كلمة حق نقولها في سيبويه، الذي نادى مؤلفنا بسقوطه. لقد أسدى هذا الرجل إلى لغة القرآن يدًا جُلَّى بتأليف أشهر كتاب في النحو العربي حتى ليكفى أن يقال: "الكتاب" ليعرف السامع للتوّ أن المقصود كتاب هذا العالم الجليل. ويزيد الرجلَ فضلا أنه فارسي، على حين أن من العرب الآن من يدعون إلى خنق اللغة العربية زاعمين عليها المزاعم مهوّلين في أمر صعوبتها، وكأنها هي الشيء الصعب الوحيد في العالم، مع أن الحياة كلها صعوبات. إن الأمم القوية هي التي تفرض كلمتها وشخصيتها على الدنيا لا التي تفرّ منهزمة أمام أول عقبة تصادفها في طريقها. لقد مضت عدة قرون على العرب والمسلمين وهم موتى أو أشباه موتى، بينما تقتحم أمم أخرى بلادهم اقتحامًا وتملى كلمتها عليهم وتريد أن تُُكْرِههم على أن يعيشوا بالأسلوب الذي تريده هي لا الذي يريدونه هم، ومنه التخلي عن لغة القرآن. وهو الحلم الذي يراودهم منذ أجيال، ولا يريدون أن يكفّوا عن محاولة جعله حقيقة! فكيف نقبل أن يهان سيبويه، وهو رمز من رموزنا العلمية والدينية، وكذلك القومية رغم أن الرجل فارسي الأصل؟ إن العرب هم الذين يتشرفون بسيبويه، وليس هو الذي يتشرف بهم، وإن كان شرفه نابعا من خدمته للّغة التي اختارتها السماء لحمل رسالة الدين الأخير، الدين الذي أتى به محمد صلى الله عليه وسلم والذي تعهد الله بحفظ كتابه. وعلى هذا فإننا نهتف من أعماق قلوبنا وبأعلى حِسّنا: يعيش سيبويه! ويعيش معه محمد فريد الشوباشي عاشق اللغة الفصحى التي عشقها سيبويه وخدمها بنور عينيه وعقله! ولا عاش من يكره الفصحى ويعمل على تدميرها رغم أنه، بمشيئة الله تعالى وحوله وطوله، لن يكون أبدا من المفلحين! وأرجو ألا يكون الأستاذ شريف الشوباشي من هؤلاء الكارهين، إن لم يكن من أجل شيء فلأنه وكيل وزارة الثقافة في أكبر دولة عربية، ووكيل الثقافة في مصر ينبغي أن يكون من المتدلهين في هوى لغة القرآن! انتهى

دانة
2010-03-16, 11:13 AM
وكل ذلك على سبيل المثال لا الحصر، ناهيك من صعوبة الهجاء، والأحرف التي تكتب ولا تنطق، وتصريفات الأفعال العادية والشاذة والاستثناءات..


أنا أتعقدت من الفرنسية التي أقرأها هذه الأيام وأحاول تعلمها ... كله بسبب تصريفات الأفعال التي لا أفهم كيف تحصل خلاف الأحرف التي أكتبها ولا انطقها وهذه لوحدها مصيبة خرجت بعدها الى نتيجة أن الانكليزية هي أسهل اللغات الاجنبية هههههههههه

وهل هناك مثل اللغة العربية يكفيها فخرا أنها لغة القرأن المجيد
لم يجدوا في الورد عيبا فقالوا يا أحمر الخدين

جزاكم الله خيرا أخوتي الأفاضل

الصارم الصقيل
2010-03-16, 01:29 PM
السلام عليكم ورحمة الله
الإخوة الكرام حياكم الله و جزاكم خيرا على ما تقومون به من خدمات في سبيل الذب عن اللغة العربية .

لم أقرأ الكتاب بعد و قمت بتحميله قبل قليل و استوقفني عنوان الكتاب لأن به خطأ إملائيا لا أدري هل هو من الكاتب أم من المصممين .و لا أدري أمقصود هو أم سبق قلم.

و هذه الصورة:
http://www4.0zz0.com/2010/03/16/11/933646680.png (http://www.0zz0.com)



فكبا الشوباشي و سقط قبل البدء :3d smile (9):.

إنه ينطح بقرونه الصغيرة جبلا عظيما فتكسرت قرونه بعدما أوهاها.

دانة
2010-03-16, 01:51 PM
إنه ينطح بقرونه الصغيرة جبلا عظيما فتكسرت قرونه بعدما أوهاها.

يـا نـاطِحَ الـجـبـلِ الـعـالي لـيـكلـِمَـهُ *** أشـفـِقْ على الـرأسِ لا تُشـفـِقْ على الجـبـلِ !