بسم الله الرحمن الرحيم
الخفافيش يبهـرهـا النـور وتأنس بالظُّلْمَة، فـ " نـور الحق أضـوأ من الشمس، فَيَحِـقّ لخفافيش البصائر أن تَعْشُو عنه " كما يقول ابن القيم. ( ولا عَجَب أن تَرى من الكُتّاب أو من يُحْسَبُون من " المفكِّرين " من أعْمَاه نُورُ الحق فلا يَرى إلا في الظُّلْمَة لا عجب أن ترى من يُبصر في الظَّلام، أو يُسمِّي بَلداً من بلاد الكُفر: بَلَد النور! وهو بَلَد النور – فِعلاً – بالنسبة له! لأن من حَمَل صِفَـة " الخفّاشيّة " لن يَرى في النور، بل في الظُّلْمَة، والظَّلام نور بالنسبة له! لا عَجَب أن ترى " مُثقّفاً " – زَعموا – يَرى القوّة الكامنة في الضعف البشري!
فَخَيط بيت العنكبوت أوهى من الواهي! ومع ذلك تَراه هي دِرعاً حصيناً!
ولا عَجب إن تَسَاقَط الذُّبَاب فيه! فأحاطته العنكبوت بخيوطها!
لا ريب أن الذُّباب سَيَرى القوة في تلك الخيوط الواهية!
في حين أن ضعف تلك الخيوط يبدو لكل عاقل بصير!
يُزيله الطفل بِلُعْبَتِه!
أو يُتْلِفُه بِرَمْيَةِ كُرَة!
أو تتقاذفه الرِّياح!
الخفافيش يَبهرها نور الشمس؛ فتختفي!
وتأنس بالظُّلمَة؛ فتفرَح وتطير!
يُنصَح الأرمد بِعدم البروز إلى الشمس..وما في الشمس مِن عيب ولا مَرض! والمرض في عيني الأرمد!
فقل للعيون الرُّمْد للشمس أعينُ *** تراها بِحَقٍّ في مَغِيبٍ ومَطلعِ
وسامِح عيونا أطفأ الله نورهـا *** بأبصارها لا تَسْتَفِيقُ ولا تَعِي
وقد يُنصح المريض بِعَدم شمّ الطِّيب. .وما في الطِّيب من عَيب!
وما على العنبر الفوّاح من حَرَجٍ *** أنْ مَاتَ مِن شَمِّـه الزَّبَّال والجَعل!
يَرى أحد الكتّاب أن القوة والعَظمة في أمريكا.. فيُصرِّح ويَصرُخ أن أمريكا قادِرة على " (ترويض) هذه الكوارث الطبيعية "!
وأنها تستطيع تحدِّي الكوارث – بِزعمه!
وهذه النَّظرة تُمثّل الكاتِب ومن على شاكلته – ممن أخلَصوا لأمريكا أكثر من الأمريكيين –!
وهي لا تُمثّل أسرة ينتمي لها
ولا اسْمَـاً يَحمِله
وإنما تُمثّل الضبابية في فِكره!
والْخُفَّاشيّة في بَصَرِه!
يُغالِطون أنفسهم.. ويُغلِّطون غيرهم حينما يظنّون أن شمس الحقيقة تَخْفَى!
وَهَبْنِي قُلْتُ هذا الصبح ليل *** أيعمى العالمون عن الضياء؟!
إن مثل هذا الكاتب كمثل أقوام نَخَر النِّفاق قلوبهم فقالوا يوم الأحزاب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: كيف يَعِدُنا كنوز كسرى وقيصر ولا يستطيع أحدنا أن يتبرّز؟!
أو كأسلافهم الذين قالوا: (إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إَِّلا غُرُورًا).
قال ابن كثير: أما المنافق فَنَجَمَ نِفَاقُـه، والذي في قلبه شُبْهَةٌ أو حَسِيكَةٌ لِضَعْفِ حَالِه فَتَنَفَّسَ بما يِجِدُه من الوسواس في نَفْسِه لِضَعْفِ إيمانه، وشِدّة ما هو فيه من ضِيق الحال. اهـ.
لقد حزِن الكاتب لِمُصاب أمريكا! وضاق صدره بإعصارِها!
وحُقّ له ذلك فهي أمّـه الرؤوم! ولها ولاؤه!
في حين يقول الأستاذ عبد الله الناصر:
وليس عنف كاترينا في التدمير الرهيب المخيف الذي جعل كوكبنا كله يقف حائراً وضائعاً ومستصغراً أمامها.. فلا بنتاغون، ولا طائرات، ولا صواريخ، ولا قنابل ذرية ولا وسائل تجسس، وطابور خاص، ولا ذيول طويلة أو أخرى قصيرة.. بل لاشيء اسمه قوة عظمى قادرة على ردعها أو دفعها أو كفّ وكَبْت جماحها وعنفوانها.. أقول ليست نتائجها في ذلك فقط.. ولكن كاترينا كشفت هشاشة القوة العظمى على المستوى الاقتصادي، والمستوى الاحترازي الاتقائي، والتدخل السريع لإنقاذ مئات الآلاف من البشر الذين حاصرهم الموت، والذعر، والعذاب، لفترة طويلة، والطوفان يغرق شوارعهم، وبيوتهم، وأطفالهم، وكلابهم، والعاصفة تقتلع أشجارهم وأرواحهم، فيستصرخون ولكن لا صريخ لهم، ويستغيثون فلا مغيث لهم، ويستنجدون فلا منجد لهم، وهذا ما جعل عمدة نيوأورلينز يصرخ بأعلى صوته!: عار على أمريكا ما يحدث، عار على أمريكا ما يحدث.. !! لأنه رأى مواطنيه يعبث بهم الهلاك بلا منقذ أو معين. فبعضهم نام تحت الطوفان نومة أبدية، والبعض الآخر هام على وجهه، والناجون صاروا ينامون تحت الجسور، وفي الأنفاق، والكنائس، وملاعب الكرة، هرباً من إرهاب كاترينا! بل لقد كشفت كاترينا ما هو أعظم من ذلك وأخطر كشفت عن هشاشة عظام المجتمع الأمريكي، وقابليته للتحطم، والتهشم، والتكسر السريع.. فلقد تحول كثير من أبناء هذا المجتمع المنكوب إلى لصوص، وقطاع طرق، وإرهابيين، يغيرون مع غارة الإعصار، على البيوت، والمحال التجارية، والبنوك، والممتلكات العامة، يفتكون، وينهبون، ويقتلون، بل ويغتصبون النساء، والفتيات القاصرات تحت تهديد السلاح.. كل هذا يَحْدُث ببركات كاترينا، مما حدا بالحكومة الأمريكية إلى أن تستعين بالجيش، والعتاد الحربي بل وتستدعي بعضاً من جنودها في العراق، لمواجهة هذا الإرهاب!! وهذا دليل مادي قطعي على أن المجتمع الأمريكي ليس مجتمعاً متماسكاً، ولا متجانس الوطنية، والانتماء. إذ أنه في الحوادث والكوارث والأزمات، يكون الناس أكثر تلاحماً وتكاتفاً، وتتحول المحن إلى وسيلة شد وتوثيق اجتماعي، وتصبح الوطنية أكثر جلاء ووضوحاً لأن المأساة واحدة، والهمّ مشترك والمكان واحد، وهذا وضع طبيعي وتلقائي ليس بين بني البشر بل نجده عند البهائم أيضاً فعندما يحدق بها الخطر تراها أكثر تماسكاً وتقارباً في مواجهة المصير الواحد.
غير أن الحال في أمريكا كشفت عن التفكك الاجتماعي المرعب، كما كشفت عن حالة الفردية المسيطرة على هذا المجتمع. وعلى النفعية الأنانية والعزلة الفرداتية الذاتية، وأنه لولا قوة النظام وسلطته وحزم القانون، لأكل الناس بعضهم بعضاً.. بل لقد بلغ الأمر من السوء والتردي إلى ما هو أفظع من ذلك. فرأينا من رجال الأمن من ينهب أو يسطو، ويختلس بقوة السلاح!. ورأينا من يلجأ إلى الانتحار وقتل نفسه تعبيراً عن الغضب، والضياع، واليأس، وعدم تحمل الصدمة.. ! بل لقد كشفت «كاترينا» من أن تحت الرماد وميض نار عنصرية مقيتة فلقد شاهد الناس، واستمعوا إلى الآلاف وهم يصرخون: لو كنا بيضاً لما أهملنا هذا الإهمال الذي لا يليق بالكلاب.. هكذا إذاً تعلن كاترينا عن سوأة المجتمع المثالي الذي إليه ينتهي التاريخ وعن الحضارة التي يجب أن تصرع جميع الحضارات لأنها في نظر مروجيها الحضارة الإنسانية الكاملة للدولة الأقوى والأعظم.. بل لقد قالت «كاترينا» انه لا قوة أبدية مطلقة.. بل انه لا قوة فوق قوة الله،.. لقد وقف وزير الداخلية الأمريكي وقد ملأه الذعر وهو يقول: إن ما حدث هو أشبه بتدمير نووي.. أما التدمير الاقتصادي فقد كنست كاترينا ما تبقى في الخزانة الأمريكية المنهكة بحرب العراق الطائشة، إلى درجة جعلت الدولة الأقوى في العالم، والأغنى في العالم تتلقى الحسنات من دول صغيرة لا ترى على الخارطة إلا بالمجهر، بل ولم تستنكف من أن تقبل العون والمساعدة من دول ذات هوية مطبوعة بالفقر مثل سريلانكا.. والفرد الأمريكي الذي كان يقول في الشدة بكل صلف وشموخ: أمريكا.. يا أمريكا. ها هو يهرع بكل جوارحه ويقول: يا الله.. لقد تعالى صوت أجراس الكنائس في سماء أمريكا كلها طلباً للنجدة الإلهية وطلباً للمغفرة.. ! إذ أن هذه الكارثة ما هي إلا عقاب إلهي كما يقول رجال الدين المسيحيون واليهود على حد سواء حيث يرون أن ما حل بـ " أورلينْز " كان نتيجة لمعصية وذنب عظيم.. إذ أنه في اليوم الذي ضربت العاصفة، ونزلت المصيبة وزلزلت الأرض كان يوماً مضروباً لمؤتمر ضخم يضم مائة وخمسين ألف شاذ " لوطي" من جميع أنحاء أمريكا، وأن هذا العقاب شبيه بما حلّ بقوم لوط حيث قلب الله بلدتهم عاليها بسافلها وأمطرها بحجارة من سجيل جزاء وفاقاً لتلك المعصية النكراء.
على كل حال أظن أن «كاترينا» سوف تغير مفاهيم كثيرة حول القوة والجبروت، والاستفراد بالعالم، وأن الذين يُسْرِفُون في تمجيد وتأليه العظمة، والغلبة الأمريكية عليهم أن يراجعوا أنفسهم، وأن يتأملوا جيداً بل يثقوا جيداً أنه في النهاية لا قوة إلا قوة الله، وأنه لا غالب إلا الله. اهـ.
أقول يا أستاذ:
لا زال هناك من " يُسْرِفُون في تمجيد وتأليه العَظَمَة والغَلَبة الأمريكية "! بل لم تَزِدهم هذه القوارع والكوارث والـنُّذُر إلا غَياً مع غيِّهم! وفسادَ ذوق مع فسادهم!
وصدق الله: (وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ طُغْيَانًا كَبِيرًا).
بل لو جاءته الآيات الناطقات.. ولو تنَزّلَتِ الملائكة، ولو كلّمه الموتى، ولو حُشِرت أمامه جميع الآيات – لما زاده ذلك إلا عُتوّاً وغياً وضلالاً.. وما ذلك إلا لإيغالِهم في الجهل المركّب!
وصدق الله: (وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ)..
فنَظرَة أحدِهم لا تَصِل إلى أرنبة أنْفِه فضلاً عن أن تتعدّاها!
والقوارِع والكوارث والـنُّذُر إنما ينتفع بها العاقل دون غيره..
: (وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ الْعَالِمُونَ).
فإن اعْتَـزَى ذلك الكاتب بأمريكا! فالله مولانا ولا مولى لهم!
وإن اغْتَـرّ بقوّتها وجبروتها، فالله أقوى، وهو جبار السماوات والأرض.
لهم العُّـزّى، ولنا العِزّة – بإذن الله – (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ).
لهم التغرّب ولنا أصولنا الثابتة في جزيرة العرب.. التي فيها مهبِط الوحي، وإليها مأرِزه.
لهم عواصم الظلام! ومأوى كلّ دجّال! ولنا مكة وطيبة التي لا يَدخلها الدجّال!
لهم كأس وغانية! ولنا الغِنى الحقيقي " غِنى النفس "!othtda hg/ghl
المفضلات