ونحن نرى أن ثنائية الإنسان (الطبيعةالمادية للإنسان مقابل سماته الإنسانية) تعبِّر عن نفسها في الصراع أو التكامل بينما نسميه «النزعة الجنينية» و«النزعة الربانية». فالنزعة الجنينية هي نزعة للعودةإلى الطبيعة/المادة والبساطة الأولى. أما النزعة الربانية فهي إحساس الإنسان بذاتهككائن مستقل عن الطبيعة، له حدوده الخاصة وهويته ووعيه المستقل، وإحساسه بالمسئوليةالخلقية.

ومما تجدر ملاحظته أن الرؤية الواحدية المادية تنظر للإنسانباعتباره جزءاً لا يتجزأ من الطبيعة، خاضع لحتمياتها، ومن ثم يذهب أصحاب هذه الرؤيةإلى أن هناك إنسانية واحدة (تتطور حسب قانون طبيعي واحد ثابت) تُرصَد كما تُرصَدالظواهر الطبيعية، وأن الناس كيان واحد وإنسانية واحدة خاضعة لبرنامج بيولوجيووراثي واحد عام، يَصدُق على كل البشر في كل زمان ومكان، وأن هذا البرنامج قد لايكون معروفاً في كليته ولكنه سيُعرف حتماً في المستقبل (وكأنه لا يوجد فارق بينعالم النمل والنحل والطير وبين عالم الإنسان).

وهذا الادعاء يتنافى مع العقلومع التجربة الإنسانية ومع إحساسنا ووعينا بتركيبيتنا وتنوعنا الحضاري. وهذا مايعيه أصحاب النماذج غير المادية الذين يدركون الثنائية الأساسية التي يتحرك داخلهاالإنسان، فهم ينطلقون من الإيمان بأن عقل الإنسان محدود ولكنه خلاَّق يتمتع بقدر منالاستقلال عن الطبيعة ولا يخضع لحتمياتها في بعض جوانب وجوده. و لهذا السبب لا يؤمنأصحاب مثل هذه النماذج بطبيعة بشرية جامدة أو بإنسانية واحدة وإنما يؤمنونبإنسـانية مشـتركة. وهذه الإنسانية ليست مثالاً أفلاطونياً جامداً يتجاوز الواقعتماماً بحيث يصبح الواقع مجرد ظلال له وإنما هي إمكانية (بشرية). فالإنسان يتمتعبطاقة إبداعية كامنة (ولذا لا يمكن رصدها أو ردها إلى قوانين مادية عامة). هذهالإمكانية تختلف عن الأداء الإنساني، فهي لا تتحقق في فرد بعينه أو شعب بعينه أوجنس بعينه وإنما تتحقق بدرجات متفاوتة حسب اختلاف الزمان والمكان والظروف ومن خلالجهد إنساني (وقد لا تتحقق على الإطلاق، فالإنسان هو الكائن الوحيد القادر علىالانحراف عن طبيعته بسبب حريته)، ولذا فإن ما يتحقق لن يكون أشكالاً حضارية عامةوإنما أشكال حضارية متنوعة بتنوع الظروف والجهد الإنساني. فتَحقُّق جزء يعني عدمتحقُّق الأجزاء الأخرى التي تحققت من خلال شعوب أخرى وتحت ظروف وملابسات مختلفة ومنخلال درجات من الجهد الإنساني الذي يزيد وينقص من شعب لآخر ومن جماعة لأخرى). وممايزيد التنوع أن الإنسان قادر على إعادة صياغة ذاته وبيئته حسب وعيه الحر وحسب مايتوصل إليه من معرفة من خلال تجاربه. هذه الأشكال الحضارية تفصل الإنسان عنالطبيعة/المادة وتؤكد إنسانيتنا المشتركة (فهي تعبير عن الإمكانية الإنسـانية) دونأن تلغى الخصـوصيات الحضـارية المختلفة. لكن التفرُّد لا يعني عدم وجود أنماط تجعلالمعرفة ممكنة، والحرية لا تعني أن كل الأمور متساوية ونسبية. فالإنسانية المشتركة،تلك الإمكانية الكامنة فينا، هذا العنصر الرباني الذي فطره الله فينا (ودعمه بماأرسله لنا من رسل ورسالات) تشكل معياراً وبُعداً نهائياً وكلياً.

والإيمانبالإنسانية المشتركة يجعل استخدام النماذج المركبة مسألة أساسية بل حتمية في دراسةالبشرية، ويجعل الرصد الموضوعي البراني أو استخدام النماذج الاختزالية أمراً غيركاف بالمرة، فالرصد الموضوعي المباشر لا يتم إلا في إطار البحث عن القانون العامالذي يسري على عالم الأشياء. أما محاولة فهم الإنسان ككائن مستقل عن الطبيعة/المادةفيتطلب تَجاوُز الواحدية المادية وقبول ثنائية الإنسان والطبيعة الفضفاضة، وهو مايحتم استخدام نماذج مركبة.