1 ـ التناقض بين الدينيين واللادينيين:

التعريف الديني الأرثوذكسي لليهودي أمر معروف أقرته الشريعة اليهودية الحاخامية. أما التعريف القومي (غير الديني)، فهو مسألة غامضة للغاية، إذ أن من الصعب تعريف هذه الخاصية القومية الفريدة التي تُميِّز هذا الحشد الهائل من الجماعات اليهودية التي تتمتع بهويات متعددة. ومن الصعب كذلك، بل وربما من المستحيل، تعريف اليهودي الملحد أو اليهودي الإثني، أو اليهودي غير اليهودي. وفي نهاية الأمر، تصبح المسألة مسألة إحساس داخلي غامض يمارسه اليهودي بوجود هذه الخاصية اليهودية داخله. ولذلك، يشير بعض المعلقين إلى التعريف الديني بأنه تعريف موضوعي، أي يستند إلى مقاييس خارجة عن الذات ويمكن الاحتكام إليها. أما التعريف العلماني، فهو تعريف ذاتي يستند إلى حالة شعورية تتفاوت في حدتها وعمقها من شخص إلى آخر. وبالفعل، تُعرِّف الأوساط العلمانية اليهودي بأنه من يشعر في قرارة نفسه بأنه يهودي ويعلن ذلك بإخلاص دون الحاجة إلى قرائن خارجية، وهو تعريف يخلق من المشاكل أكثر مما يحلّ.

ولإيضاح هذه النقطة، يمكن أن نشير إلى العاهرات وتجار الرقيق الأبيض والقوادين من أعضاء الجماعة اليهودية ممن تركزوا في الأرجنتين، وكونوا قطاعاً اقتصادياً كبيراً وجماعة ضغط، وأصبحت لهم مؤسساتهم الخاصة من نواد ومسارح ونظام رفاه اجتماعي. وهذه مسألة مفهومة تماماً في إطار علماني مادي حيث يقوم من لهم مصالح مشتركة بتنظيم أنفسهم. ولكن المشكلة ظهرت حينما أصر هؤلاء المشتغلون بهذه المهنة الشائنة على انتمائهم أو هويتهم اليهودية، ومن ثم كانت لهم معابدهم الخاصة وحاخاماتهم الذين يفون باحتياجاتهم الروحية، بل وكانوا يخرجون في استعراضات أو مواكب في الأعياد الدينية اليهودية! وغني عن القول أن هذا كان يسبب حرجاً شديداً لأعضاء الجماعة اليهودية، فظلوا يحاربون هذا الجيب الذي يُصرُّ على يهوديته حتى نجحوا في القضاء عليه تماماً. وكل ما تَبقَّى من هذا الجيب هو ملجأ للبغايا اليهوديات العجائز في بيونس أيرس.

2 ـ التناقض بين السفارد والإشكناز:

يمكن القول بأن الصهيونية، على مستوى الممارسة منذ أول أيامها وحتى عام 1948، قد عرَّفت اليهودي بأنه اليهودي الأبيض (الإشكنازي). وكانت، في هذا، متسقة تماماً مع نفسها، فقد كانت تُقدِّم نفسها باعتبار أنها تجربة تتم داخل إطار التشكيل الاستعماري الاستيطاني الغربي، ولذا كان على الصهاينة إثبات بياض بشرة اليهودي حتى يتسنى للمستوطنين أن يشاركوا في حَمْل عبء الرجل الأبيض، ويستفيدوا في الوقت نفسه من الأمن العسكري والدعم الاقتصادي الذي يوفره القائمون على المشروع الاستعماري، ويحلوا محل أحد شعوب آسيا وأفريقيا. وقد بذل آرثر روبين، أحد أهم علماء الاجتماع الصهاينة والمسئول عن الاستيطان في فلسطين لفترة طويلة قبل إنشاء الدولة، جهداً «علمياً»فائقاً لإثبات أن اليهودي هو الإشكنازي وحده وأن الشرقيين ليسوا يهوداً. وهناك العديد من البيانات والتصريحات تُعبِّر عن هذا الموقف. لكن هذا الموقف يتناقض تماماً مع موقف الصهيونية الأصلي، فالصهيونية تكتسب شرعيتها من زعمها بأنها حركة الشعب اليهودي بأسره.

3 ـ التناقض بين التعاريف الدينية المختلفة:

لا تنحصر المسألة في التناقض بين الدينيين والعلمانيين وحسب، أو بين الإشكناز والسفارد فقط، وإنما تمتد لتشمل مجال الدينيين ذاته. فالأرثوذكس لا يعترفون بالحاخامات الإصلاحيين ولا بالحاخامات المحافظين كيهود. ولذا، فهم لا يعترفون بالمتهوّدين على أيدي مثل هؤلاء الحاخامات. وفي معرض دفاعهم عن وجهة نظرهم، يذكر الأرثوذكس أن الشريعة، بحسب اليهودية الحاخامية، حدَّدت الخطوات اللازمة للتهوّد بشكلٍّ واضح تماماً كما حدَّدت من هو اليهودي. فلكي يَتهوَّد إنسان ما، يجب أن يتم ختانه إن كان ذكراً، أما الأنثى فعليها أن تأخذ حماماً طقوسياً وهي عارية أمام ثلاثة حاخامات (وهو الأمر الذي يسبب الحرج للإناث المتهوّدات). وعلى المتهوّد أن يَتقبَّل نير المتسفوت (الفرائض أو الأوامر والنواهي)، أي أن يعيش حسب قانون التوراة. أما الحاخامات الإصلاحيون، فلا يلتزمون بهذه الخطوات، إذ يكفي عندهم أن يحضر راغب التهود محاضرة عن التاريخ اليهودي، أو يقرأ مقطوعة من العهد القديم. ويقر الحاخامات الإصلاحيون بأن مراسم التهويد التي يقومون بها لا تتَّبع الشريعة، ولكنهم يصرون في الوقت نفسه على أن هذا لا يمنع كونها مقدَّسة. أما المحافظون، فيرون أنهم يتبعون الشريعة، لكن الأرثوذكس لا يوافقونهم على ذلك.

ومن المشاكل الأخرى التي ظهرت داخل المعسكر الديني مشكلة قيام اليهودية الإصلاحية بإعادة تعريف اليهودي بحيث أصبح من يُولَد لأب يهودي أو أم يهودية، وهو ما لا توافق عليه اليهودية الأرثوذكسية واليهودية المحافظة.

4 ـ تناقضات أخرى:

هناك تناقضات يصعب تصنيفها لأنها ذات طابع ديني إثني، وقد نشأت هذه التناقضات أساساً بين المؤسسة الدينية وبعض الجماعات اليهودية الصغيرة بشأن انتمائهم الديني والإثني وما إذا كان هذا الانتماء خالصاً أم أنه هجين.

وكانت أولى المشاكل التي واجهها الصهاينة التناقض بين السفارد والإشكناز، وهو انقسام سبق إعلان الدولة. وقد لجأت السلطات البريطانية لطـرق عملية غـير عقائدية لحلـه، إذ سـمحت بوجود حاخاميتين: واحدة سفاردية، والأخرى إشكنازية، بكل ما ينطوي عليه ذلك من انقسام أساسي وجذري. والانقسام بين الإشكناز والسفارد انقسام عميق ذو طابع ديني، ولكنه ذو أبعاد طبقية وإثنية. وهو من العمق بحيث يتبدَّى من خلال تَنوُّع الأحزاب الإسرائيلية وبنيتها وأنماط التصويت في الانتخابات التي تجري في المُستوطَن الصهيوني. ومع هجرة اليهود الشرقيين من العالم العربي والعالم الإسلامي وبلاد الشرق الأخرى، مثل الهند، زاد العنصر الشرقي على حساب العنصر الغربي، وأصبح الشرقيون أغلبية في المجتمع، الأمر الذي اضطر المؤسسة الحاكمة إلى إخفاء تعريف الهوية الذي يعادل بين الإشكنازي واليهودي، وكفت المؤسسة عن إطلاق التصريحات العنصرية ضد اليهود السفارد ويهود البلاد الإسلامية. لكن الرؤية الكامنة التي تُوجِّه الدولة الصهيونية لا تزال، أولاً وأخيراً إشكنازية، وهي تحاول القضاء على الأشكال الحضارية الشرقية التي أحضرها اليهود الشرقيون معهم، ولا تزال النخبة الحاكمة في إسرائيل غربية بوجه عام وإشكنازية بالدرجة الأولى.

ومن الأمثلة الأخرى التي انفجرت فيها قضية الهوية من منظور ديني، قضية يهود الهند المعروفون باسم بني إسرائيل. فالحاخاميتان، السفاردية والإشكنازية، لم تعترفا بهم كيهود، لأنهم يمارسون الزواج المُختلَط ولا يعرفون التلمود. وقد استمرت مشكلتهم قائمة إلى أن اضطرت المؤسسة الدينية إلى الرضوخ لضغط المؤسسة السياسية. ولم تعترف الحاخاميتان أيضاً بيهود الفلاشاه، ولم تشجع هجرتهم طيلة الأعوام الثلاثين الماضية لعدة أسباب، من بينها أنهم هم أيضاً لا يعرفون التلمود، ولكن حينما طُلب إليهم التهود، رفضت أعداد كبيرة منهم ذلك. فاقترحت الحاخاميتان صيغة مخففة للتهويد تتضمن عملية تختين رمزية (حين قبل بعضهم ذلك سارع ممثل الحاخامية السفاردية بتختينهم قبل أن يقوم ممثل الحاخامية الإشكنازية بهذه العملية. ولكن حينما حضر الأخير قام هو الآخر بالعملية نفسها، أي أنهم تم تهويدهم وتختينهم مرتين خلال عدة أيام). وتثار قضية اليهود القرّائين واليهود السامريين من آونة إلى أخرى، خصوصاً حينما يتم زواج مُختلَط بين أحد أعضاء إحدى هاتين الجماعتين وفرد ينتمي إلى اليهودية الحاخامية. ولم تضطر الدولة الصهيونية ولا المؤسسة الدينية إلى الدخول في صراع عميق مع أيٍّ من هذه الجماعات بسـبب صـغر أحجامها وقلة نفوذها داخل وخـارج إسرائيل. ولم تأخذ المؤسسة السياسية موقفاً حاسماً في هذه القضية، بل تركت الأمر للمؤسسة الدينية تصرفه بطريقتها.

ومع منتصف الخمسينيات، ظهرت التناقضات بين الدينيين واللادينيين، وكذلك بين الأرثوذكس من ناحية وبقية الفرق الدينية من ناحية أخرى، وذلك حينما بدأت المؤسسة الأرثوذكسية في الخارج تضغط على المؤسسة الدينية في إسرائيل حتى تتبنى موقفاً أكثر تشدداً من مسألة تعريف اليهودي. وقد تزامن ذلك مع موجة من الهجرة من شـرق أوربا ضمت عـدداً كبيراً من الزيجات المُختلَطة. وفي عام 1957، قرر رئيس قسم تسجيل الهوية في وزارة الداخلية (وهو عضو في الحزب الديني القومي) ألا يقبل وصف المهاجر لنفسه بأنه يهودي باعتباره المقياس الوحيد معتبراً أنه معيار علماني ذاتي، وأصدر أمراً إدارياً للموظفين في إدارته بذلك. ورداً على ذلك، أصدر وزير الداخلية (وكان علمانياً من حزب اتحاد العمال «أحدوت هاعفود») قراراً في مارس 1958 يؤكد فيه التوجيهات القديمة التي تقبل المعيار الذاتي. فانسحب الحزب الديني القومي من الائتلاف الحاكم احتجاجاً. فقام بن جوريون بالكتابة إلى خمسين شخصية يهودية (دينية وفكرية) في أنحاء العالم يطلب إليهم الفتوى في هذا الأمر (وكان يشار إليهم بعد ذلك بوصفهم «حكماء إسرائيل»!). وجاءت الإجابات مشتملة على سائر التناقضات المتوقعة والتي لم يحسمها الفكر الصهيوني قبل قيام الدولة. فقد عرَّف القسم الأكبر منهم (37) الهوية اليهودية على أساس الشريعة، ولكن نفراً منهم تَبنَّى معيـار الاختيار الشـخصي (اليهودي هو من يعتبر نفسـه كذلك)، وتَبنَّى نفر آخر معيار القسر الخارجي، أي أن اليهودي هو من يعتبره الأغيار كذلك. ومع هذا، صدر عام 1959 توجيه إداري ينص على تعريف اليهودي بأنه الشخص الذي وُلد لأم يهودية، وذلك لاسترضاء الحزب الديني القومي حتى يعود إلى التحالف.

وقد ضـمت الوزارة التاليـة وزيـراً للداخلية من الحـزب الديني القومي، فأصدر توجيهات إدارية عام 1960 يُعرِّف فيها اليهودي بأنه من يثبت أن أمه يهودية أو أنه تَهوَّد حسب الشريعة وعلى يد حاخام أرثوذكسي. وقد وعد الحزب الديني بأن التعديل ستتم الموافقة عليه، ولكن الرأي العام الإسرائيلي أفشل هذه المحاولة.

ثم تفجرت القضية مرة أخرى بهجرة الأخ دانيال (أوزوالد روفايزين) الذي وُلد لأبوين يهوديين في بولندا، وانضم إلى المقاومة ضد النازية وأنقذ كثيراً من اليهود. وبعد أن قُبض عليه فرَّ إلى دير راهبات وعاش فيه متخفياً في زي راهبة حتى انتهت الحرب، فاعتنق المسيحية ودخل سلك الرهبنة، وهاجر إلى إسرائيل بموافقة الفاتيكان، وطلب اعتباره يهودياً بمقتضى قانون العودة. وقد عُرضت عليه الجنسية الإسرائيلية على أساس التجنس، ولكنه رفض وأصر على أن يحصل على الجنسية بموجب قانون العودة، أي باعتباره يهودياً. وقد ذكر في طلبه أن الشريعة اليهودية تقرر أن اليهودي لا ينسلخ بتاتاً عن دينه اليهودي مهما بلغت ذنوبه وذلك بحسب ما جاء في كتاب السنهدرين في التلمود. وقد ذكر الأخ دانيال أنه إذا كان بوسع الملحد أن يظل يهودي القومية، فمن باب أولى أن يُعتبَر هو (المسيحي) يهودياً!! وقد رفضت المحكمة العليا طلبه عام 1966، وقالت في حكمها إنه وفقاً للعرف المعمول به فإن كل من يغير دينه بدين آخر يُعَدُّ غير يهودي لأنه اختار أن ينفصل عن مصير الشعب اليهودي وتاريخه (ويُلاحَظ أن فكرة المصير هذه ستصبح بالتدريج ركيزة التعريف اللاديني الأساسية). وقد بيَّنت المحكمة أن حكمها هذا مناف للشريعة اليهودية وأكثر تشدداً منها، وأن الأخ دانيــال قد يكون يهودياً بحسب الشريعة،ولكن لا يمكن اعتباره يهودياً من منظور قانون العودة،أي أن المحكمة أخذت بتعريف لا ديني لليهودي،وجعلت أساس اليهودية الانتماء القومي.

ومن المفارقات، أن المؤسسة الدينية الأرثوذكسية كانت تقف ضد طلب الأخ دانيال، أي أنها أخذت موقفاً أكثر تشدداً من الشريعة ذاتها بل ومنافياً لها. وقد قيل في معرض نقد هذا الحكم إنه يتعلق بتعريف من هو غير اليهودي ولكنه لا يعرِّف اليهودي من قريب أو بعيد. ولم تترك القضية أثراً عميقاً في الدولة الصهيونية لأنها لم تؤثر على علاقتها بيهود العالم. بل وشعر كثير من الإسرائيليين بأنها لا تخصهم.

وأثيرت القضية مرة أخرى وبحدة عام 1968 حينما طلب الضابط بنيامين شاليط (المتزوج من إنجليزية غير يهودية رفضت التهود بسبب لا أدريتها) تسجيل أولاده باعتبارهم إسرائيليي الجنسية يهوديي القومية، على أن يُكتَب في بند الدين عبارة «لا يوجد»، أي أنه طلب الأخذ بالتعريف الإثني دون الديني. وحينما رُفض طلبه، رفع قضية في المحكمة العليا التي حكمت لصالحه عام 1970، وذكرت المحكمة في حكمها أن مصطلح «قومية» خاضع للتفسير العلماني، فأولاد شاليط ارتبطوا بمصير الشعب اليهودي وتاريخه. ومع هذا، أكدت المحكمة أن حكمها ينصب على الوضع المدني، أي على قانون العودة وقانون المواطنة والإجراءات الخاصة بالتسجيل، ولا ينصرف إلى الأحوال الشخصية (مثل الزواج والطلاق) التي تختص بها المحاكم الحاخامية. وقد رفض اليهود الأرثوذكس الأخذ بهذا الحكم، لأنه في تَصوُّرهم سيُقسِّم اليهود إلى قسمين: يهود مؤمنين ويهود غير مؤمنين. ولذا، صدر عام 1970 تعديل لقانون العودة، وعُرِّف اليهودي بأنه من وُلد لأم يهودية بشرط ألا يكون على دين آخر. ونص أيضاً على أن اليهودي هو المتهوِّد، وهو تعريف يعتمد الجانبين الإثني والديني، ولا يزال هذا التعريف هو المعتمد.

ومع هذا، أثار التعريف غضب الدينيين واللادينيين. كما أن جورج طامارين، المحاضر في جامعة تل أبيب، أثار جانباً آخر غير مُتوقَّع للقضية. فقد رأى أن التعريف الأخير تعريف ثيوقراطي، أي يستند إلى أساس ديني. ولذا، طالب بأن يُسجَّل في بند القومية لفظ «إسرائيلي» بدلاً من «يهودي». وقد رُفض طلبه بطبيعة الحال، لأن ذلك يعني رفض الصهيونية من أساسها.

أما الأرثوذكس، فلم يعجبهم التعريف الجديد إذ أنه يعترف ضمناً باليهود المتهوِّدين على يد حاخامات إصلاحيين ومحافظين، وهم في نظر الأرثوذكس ليسوا يهوداً، أو على الأقل مشكوك في يهوديتهم، ولذلك فهم يطالبون بإضافة عبارة «تهود حسب الشريعة» (بالعبرية: كاهالاخاه) أي على يد حاخام أرثوذكسي. وتحوَّلت القضية، من ثم، إلى من هو الحاخام؟ وقد قُدِّم إلى الكنيست مشروع قرار بهذا المعنى، رُفض في 16 يناير 1985، وتَسبَّب المعراخ أساساً في إسقاطه. والملاحَظ أن هذا التعديل الأخير المُقترَح سيثير من المشاكل أكثر مما يحلّ، فهو على سبيل المثال سيهز أحد الأسس التي يستند إليها التجمع الصهيوني، وهي فكرة «الوضع الراهن». والعبارة تشير إلى الوضع السائد في فلسطين إبان حكم الانتداب.وقد تَوصَّل الصهاينة الدينيون والصهاينة اللادينيون، عشية إنشاء الدولة، إلى اتفاق على أن الدولة الصهيونية ستلتزم بالشعائر والأعراف السائدة في ذلك الوقت في المجال الديني.ولا يزال الاتفاق يحكم مدى التزام الدولة بتنفيذ الشعائر الدينية.

وقد أثيرت عام 1987 قضية شوشانا ميلر المواطنة الأمريكية التي اعتنقت اليهودية على يد حاخام إصلاحي ثم هاجرت عام 1985 إلى إسرائيل، حيث رفضت وزارة الداخلية الإسرائيلية منحها الجنسية بمقتضى قانون العودة. وطلب إليها وزيرالداخلية أن تتهوَّد مرة أخرى على يد حاخام أرثوذكسي، فرفضت طلبه وتقدمت بشكوى إلى القضاء. ولحسم المسألة، اقترح الوزير أن يُكتَب على بطاقة تحقيق الشخصية الخاصة بالمتهوِّدين لفظة «متهوِّد» بدلاً من «يهودي»، سواء أكان التهود قد تم على يـد حاخام إصـلاحي أم على يـد حاخـام محافظ أم أرثوذكسي، فرفضت المواطنة ذلك أيضاً باعتبار أن هذا سيحولها إلى يهودية من الدرجة الثانية. وقد حكمت المحكمة لصالح الشاكية، فاستقال وزير الداخلية واتهم اليهود الإصلاحيين بأنهم « يقودون أمة إسرائيل إلى التهلكة ». ولكن الوزارة اضطرت في نهاية الأمر إلى تسجيل بعض مَنْ تهوَّدوا على يد حاخامات غير أرثوذكس باعتبار أنهم يهود.

وهناك حالات قامت فيها المحاكم الحاخامية بالتشكيك في يهودية بعض ضحايا الإبادة النازية الذين استقروا في إسرائيل، بل وهناك حالة قامت فيها السلطات الدينية بالرجوع إلى الأرشيف النازي للتأكد من هوية أحد اليهود.

وكأن مشاكل الهوية لا تنتهي، فقد طُرحت القضية من جديد وبحدة بالغة في فبراير 1988، حين حضر يهوديان اسمهما جيري وشيرلي بيرسفورد، ينتميان إلى جماعة دينية مسيحية تبشيرية اسمها رامات هاشارون، ويشبه وضعهما وضع الأخ دانيال من بعض الوجوه، ويختلفان عنه من البعض الآخر. فهما يهوديان بالمعنى الإثني وهما يؤمنان بالمسيح، تماماً مثل الأخ دانيال، ولكنهما يختلفان عنه في أنهما لم يتنصرا، أي لم يعتنقا الديانة المسيحية. ولا يبيِّن المصدر ما معنى هذه العبارة، وإن كان من الواضح أنها تعني أنهما آمنا بأن عيسى هو المسيح أو الماشيَّح المُنتظَر دون الإيمان ببنوته للرب.

وقد طُرح حل صهيوني للمشكلة باعتبار أن قانون العودة قانون سياسي صهيوني لمن يشاء، وقانون ديني لمن يشاء، ويمكن لكل فريق أن يفسره بالطريقة التي يراها، على أن تحتفظ السلطة الأرثوذكسية بسلطتها كاملة في أمور الأحوال الشخصية وفي عمليات التهويد التي تتم داخل إسرائيل. وتحاول بعض الأحزاب الدينية تَبنِّي موقف مماثل، لكنهم بدلاً من المطالبة بتغيير قانون العودة يطالبون بتغيير قانون المحاكم الحاخامية بحيث يصبح من صلاحياتها أن تقرر من هو اليهودي ومن هو غير اليهودي، بدلاً من وزارة الداخلية. وفي هذه الحالة، سيمكنها أن تسقط صفة اليهودية عن الحاخامات الإصلاحيين والمحافظين. ولكن جماعة حبد الأرثوذكسية ترفض مثل هذا الحل.

وفي تَصوُّرنا أن أزمة الهوية اليهودية ستتعمق ولن تُحسَم في المستقبل القريب لأسباب عديدة تتصل بالتطورات داخل المُستوطَن الصهيوني وخارجه. أما داخل المُستوطَن الصهيوني، فقد لوحظ، على عكس ما تَوقَّع المفكرون الصهاينة، أن التطورات والآليات الاجتماعية لم تؤد إلى صهر العناصر اليهودية الدينية واللادينية والإشكنازية والسفاردية وغيرها، وإنما ازدادت الصورة استقطاباً وتطرفاً. وإذا ما ركزنا على الجانب الديني مقابل العلماني، نُلاحظ ظهور هوية يهودية جديدة بالإضافة إلى عدم التجانس، وهي هوية الصابرا من الإشكناز التي يتسم أصحابها بسمات خاصة، كمعاداة العقل والفكر وحب العنف والتحلل من القيم الأخلاقية، بل إنهم يكنون احتقاراً عميقاً ليهود المنفى، أي يهود العالم كله (وقد كان المؤمَّل في الصابرا أن يكونوا الترجمة العملية لليهودي الخالص). وإلى جانب ذلك، يُلاحَظ تَزايُد معدلات العلمنة في التجمع الصهيوني (الذي وصفه أمنون روبنشتاين بأنه من أكثر المجتمعات إباحية على وجه الأرض). وبحسب بعض الإحصاءات، يبلغ عدد المواطنين الذين لا يؤمنون بالخالق 80% من كل الإسرائيليين. وهؤلاء ينظرون إلى الشعائر الدينية باعتبارها فلكلوراً قومياً. وتُعدُّ الأعياد الدينية بالنسبة إليهم أعياداً قومية، والعبرية ليست لغة الصلاة (اللسان المقدَّس) وإنما هي لغة البيع والشراء والجماع. وقد أصبح يوم السبت، وهو يوم راحة وتَعبُّد من الناحية الدينية، يوم صخب ولهو في الدولة التي يُقال لها «يهودية». ولا يراعي كثير من الإسرائيليين قوانين الطعام الشرعي، ويُقال إن نصف اللحم المستهلك في إسرائيل من لحم الخنزير.

لكل هذا، حينما عُرضت قضية جيري وشيرلي بيرسفورد على الرأي العام الإسرائيلي، قال 78% منهم إنه يجب منحهما الجنسية الإسرائيلية إن كانا صهاينة، وعلى استعداد لأن يرتبطا بالمصير اليهودي. ومعنى هذا أن الإسرائيليين استخدموا معياراً قومياً لا دينياً صرفاً، ولو تم الأخذ به سيظهر نوع جديد من اليهود الذين يؤمنون بالمسيح عيسى بن مريم، ولأصبح الأخ دانيال يهودياً برغم حكم المحكمة العليا.

مقابل هذا التعاظم في معدلات العلمنة، هناك تعاظم أيضاً في النزعة الدينية يتضح في هجوم المؤسسة الدينية على الصور والمظاهر الإباحية في إسرائيل، وإصرارها على إقامة شعائر السبت، وفي إصرارها على تعديل قانون العودة. وينعكس هذا الاستقطاب القومي في واقعة حرق اللادينيين معبداً يهودياً احتجاجاً على نشاط المتدينين. ويتضح الاستقطاب أيضاً في ظهور عاصمتين للتجمع الصهيوني؛ إحداهما علمانية تماماً في تل أبيب، والأخرى في القدس يتزايد فيها نفوذ الأرثوذكس. وفي مثل هذا الإطار، يصبح الإجماع القومي، أو حتى الهدنة الاجتماعية القومية بشأن تعريف الهوية اليهودية، أمراً مستبعداً. ومما يعمق المشكلة أن ثمة استقطاباً مماثلاً يحدث بين يهود العالم الذين تزداد بينهم معدلات العلمنة والزواج المُختلَط.

ويُلاحَظ أن مشكلة السفارد قد ازدادت تفاقماًً، خصوصاً مع ازدياد عددهم وازدياد ثقتهم بأنفسهم. فالتجمع الصهيوني يعتبرهم يهوداً وحسب ماداموا في بلادهم، وهذا جزء من حملته الإعلامية، ولكنهم يصبحون يهوداً شرقيين فور وصولهم إلى إسرائيل، إذ أن التجمع الصهيوني يحتاج إليهم باعتبار أنهم مادة بشرية قادرة على حل أزمة المصادر البشرية التي يعاني منها، وعلى العمل في قاعدة الهرم الاقتصادي الإنتاجية. لكن إصرار السفارد على الحراك الاجتماعي، باعتبارهم يهوداً بشكل عام، سيجعلهم يشغلون الدرجات العليا من الهرم، ويتركون قاعدته خالية يشغلها العرب. وبهذا تشتبك مشكلة الهوية مع واحدة من أعمق مشكلات التجمع الصهيوني،وهي مشكلة الإنتاجية،خصوصاً أن الصهاينة يدَّعون أن اليهودي الجديد شخصية منتجة على خلاف يهود المنفى الهامشيين المرابين.

وقضية الهوية اليهودية قضية محورية. فالدولة الصهيونية تكتسب شرعيتها، أمام نفسها وأمام الكثيرين، من ادعائها أنها دولة يهودية، لكن استمرار تَفجُّر هذ القضية يقوض دعائم هذه الشرعية. كما أن تعديل قانون العودة سيؤدي إلى استبعاد ما يقرب من 80% من يهود العالم (وربما أكثر) ممن يُعرِّفون اليهودي على أسس دينية ذاتية أو على أسس إصلاحية ومحافظة ولا يقبلون اليهودية الأرثوذكسية.

ومن القضايا الأخرى المرتبطة بقضية «من هو اليهودي؟» قضية «من هو الصهيوني؟»، وهل هو اليهودي الذي يهاجر إلى إسرائيل، أي من يمارس الصهيونية الاستيطانية أم اليهودي الذي يدعم المستوطن الصهيوني دون أن يهاجر ويكتفي بالصهيونية التوطينية؟ وهي قضية تمس الهوية ولكنها لا تصل في عمقها إلى قضية «من هو اليهودي؟».

وكل هذه العناصر والتوترات والتناقضات تجعل من العسير على اليهود أنفسهم تصديق مقولة الشعب اليهودي الذي يتجاوز الأزمنة والأمكنة والذي يحمل داخله جوهراً يهودياً. فقد أثبت الواقع العملي أنه لا يوجد جوهر واحد، بل هي سمات عديدة متنوعة بتنوع التشكيلات الحضارية والتاريخية التي يتواجد فيها اليهود. وقد أثُيرت القضية مرة أخرى مع وصول المهاجرين اليهود السوفييت. وكما بيَّنت المؤسسة الدينية، فإن معظمهم ليسوا يهوداً، فهم إما من أصل مسيحي تزوجوا من يهود أو هم من مدعي اليهودية. بل واتضح أن اليهودية بالنسبة لليهودي منهم لا تمثل سوى أصداء خافتة للغاية. ومع هذا، رحبت المؤسـسة الصهيونية بوصـولهم، فهي في حاجة ماسـة للمادة الاستيطانية. والحاجة نفسها هي التي تُفسِّر الترحيب بالفلاشاه موراه (وهم أشباه يهود تَنصَّروا بكامل إرادتهم منذ قرنين من الزمن). وكل هذه المؤشرات تدل على أن المؤسسة الصهيونية، نظراً لحاجتها للمادة البشرية الاستيطانية، قد تجعل من اليهودية قشرة رقيقة للغاية (مثل الانتماء المسيحي في جنوب أفريقيا) إذ أن المطلوب هو مادة استيطانية غير عربية يضمن الكيان الصهيوني لنفسه الاستمرار من خلالها.