عسكرة التعليم في إسرائيل


إنطلق قادة الحركة الصهيونية ومؤسسو دولة إسرائيل من قناعة مفادها أن هذه الدولة تعيش في أزمة وجود كيانية سترافقها للأبد، على اعتبار أنها تعيش في قلب محيط عربي لا يمكن أن يسلم بوجودها، ويقبل شرعيتها.
لذا فقد كان الاستنتاج الذي توصل إليه قادة الحركة الصهيونية هو أن الصراع بين العرب ودولة إسرائيل هو صراع وجود وليس صراع على حدود أو أرض أو موارد طبيعية؛ من هنا كانت الإستراتيجية التي اعتمدها الصهاينة من أجل تحقيق الحسم في هذا الصراع هو القوة، والقوة فقط القائمة على المنعة العسكرية، الأمر الذي أدى الى سيادة الطابع العسكري للمجتمع الإسرائيلي برمته، لدرجة دفعت رئيس وزراء إسرائيل الاول دفيد بن غوريون للقول أن " اسرائيل عبارة عن مجتمع للمحاربين ".
ويعبر وصف بن غورويون هذا بشكل أمين وصادق عن مظاهر تأثير العسكرة على المجتمع الإسرائيلي. فهذا المجتمع الذي يقدس القوة، لا يحترم إلا القيم التي تعكسها، من هنا فأن المجتمع الإسرائيلي يمر بعملية عسكرة متواصلة، فالساسة هم جنرالات متقاعدون، ومدراء المؤسسات الإقتصادية هم من خريجي الجيش، والصحف ووسائل الاعلام تبحث عن معلقين من كبار الضباط المتقاعدين.
وضمن هذه العملية المتواصلة، فقد تمت عسكرة التعليم ايضا في الدولة العبرية. وكما تقول الباحثة والكاتبة الصحافية الإسرائيلية إرنا كازين " فأن من يطلع على مناهج التعليم في المدارس الاسرائيلية في جميع المراحل لا بد أن يلفت انتباهه التوجه العام القائم على التنشئة التربوية على روح العسكرة والتطوع للجيش واعداد الطفل حتى يكبر ليصبح مقاتلاً، لتكريس الروح الاسبارطية " .
ولقد سادت هذه الروح منذ قيام إسرائيل في العام 1948، وقد تغلغلت في جميع الأجهزة الرسمسية وغير الرسمية الاسرائيلية ضمن محاولة لخلق " الإسرائيلي الجديد "، الإسرائيلي اليهودي الذي خرج منتصراً ضد سبعة جيوش عربية واقام دولة " بعد ألف عام "، كما يحلو لواضعي فلسلفة التعليم الإسرائيلي أن يكرسوا ذلك في أذهان الأطفال والشبيبة، والى غير ذلك من المزاعم الأسطورية.
ولا خلاف بين الباحثين في الدولة العبرية على أن هذه الروح تعززت بعد حرب العام 67، والانتصار الساحق الذي حققته اسرائيل في هذه الحرب على كل من مصر وسوريا والأردن. وقد تجسدت عملية عسكرة التعليم في الدولة العبرية في مظاهر ثلاث أساسية:
أولاً: زرع مفاهيم العسكرة والقوة في نفوس الطلاب.
ثانياً: تكليف العسكر بإدارة مؤسسات التعليم وممارسة مهنة التعليم بأنفسهم.
ثالثاً: ظهور المدارس الدينية العسكرية: والتي تعتبر أخطر مظاهر عسكرة التعليم الإسرائيلي، لأن الطلاب هناك تتم تربيتهم على العسكرة وعلى التطرف الديني في صوره الأكثر سوداوية.
زرع قيم العسكرة
التربية على العسكرة في إسرائيل تتم بوسائل مختلفة ومتعددة، ويحاول جهاز التعليم في إسرائيل صبغ وعي الطفل الإسرائيلي بالعسكرة ومفاهيمها منذ نعومة أطفاره.
ففي رياض الأطفال تقوم إدارات هذه الروضات بتنظيم رحلات للأطفال لقواعد الجيش الإسرائيلي، وتحرص هذه الإدارات على أخذ صور تذكارية لكل طفل وهو يقف فوق دبابات الجيش، وبعد ذلك يتم توزيع رايات ألوية الجيش على الأطفال لكي يقوموا بتثبيتها على رياض الأطفال؛ في الوقت الذي لا يتم فيه لفت نظر هؤلاء الأطفال الى قيم الديموقراطية والمساواة التي تدعي الدولة العبرية أنها قيم " مقدسة " لديها.
وتقوم إدارات المدارس الثانوية بتنظيم رحلات لطلابها الى مواقع الجيش، حيث يشاهد الطلاب مناورات وتدريبات بالنار الحية، في حين يتم تنظيم رحلات الى مواقع المعارك بين الجيش الإسرائيلي والجيوش العربية.
وتعمل إدارات المدارس على حث الطلاب على إرسال هدايا للجنود، سيما الجنود من المهاجرين الجدد الذين وفدوا على الدولة بدون ذويهم في الوقت الذي لا تبذل إدارات المدارس أي جهد في اقناع الطلاب بارسال مثل هذه الهدايا للفقراء والمعوزين والمرضى وغيرهم.
في نفس الوقت يقوم الطلاب بإرسال رسائل الى الجنود لشكرهم على " الجهود التي يبذلونها لحماية أمن الدولة والشعب ".
ومن ضمن مناهج التعليم يتم تدريس تاريخ الحروب العربية الإسرائيلية، الى جانب دراسة السير الذاتية لكبار القادة العسكريين الذين حققوا " انجازات " خلال هذه الحروب، حيث يطلب من الطلاب عادة كتابة مواضيع انشاء حول هؤلاء القادة.
وأحد الأمثلة التي تجسد عسكرة التعليم في إسرائيل بشكل واضح، وهو كتاب الرياضيات للصف الخامس الابتدائي الذي ألفه مردخاي فاشستوم، حيث أن المسائل الحسابية التي تتكون منها التدريبات التي يطلب من الطلاب الإجابة عليها تدور حول الجيش وألويته. فمثلاً يرد في الكتاب السؤال التالي: من بين 6340 جندياً مدرباً، طلب من 2070 الانضمام الى وحدة المظليات، و1745 الى سلاح المشاة، كم بقي من الجنود؟.
وضمن الأنهجة اللامنهجية التي تكرس العسكرة قيام مؤسسات التعليم بتنظيم رحلات للطلاب للمعارض الفنية التي تخلد ذكرى الجنود الذين قتلوا في حروب اسرائيل، سيما متحف " ياد لبنيم ".
وتقول الباحثة في مجال التربية الدكتورة فيرد شمرون " بهذه الطريقة يتم تجنيد الفن من أجل التغطية على بشاعة الحرب ". وتضيف شومرون أنه في خارج اسوار المدرسة يشاهد الطلاب الإعلانات التجارية التي تقدس الجيش. فمثلاً شركة " تنوفا " للألبان في تقوم بلصق ملصقات دعائية حول الجبن، تقول فيه ( 50% للمظليين، 50% للواء جولاني، 100 للعائلة).
في نفس الوقت، وضمن برامج الإذاعة المدرسية، يقوم الطلاب بإستضافة جنرلات وكبار الضباط في الجيش والمخابرات وإجراء مقابلات معهم، ويترك لبقية الطلاب توجيه أسئلة لهم.
الى جانب كل ذلك تقوم ألوية الجيش والوحدات المختارة بلصق لوحات دعائية لها في المدارس الثانوية لحث الطلاب في المرحلة الثانوية على التطوع في صفوفها بعد تجندهم الاجباري للجيش، لأنه على الرغم من أن الخدمة العسكرية في الجيش اجبارية في الدولة العبرية، إلا أنه يترك للجنود عادة الإنضمام للوحدات التي يرغبون بالإنضمام اليها.
الى جانب ذلك، فأن المدارس تتعاون مع قسم القوى البشرية في هيئة أركان الجيش في تنظيم دورات تجنيد للطلاب خلال المرحلة الثانوية، وذلك لإعداد الطلاب لمرحلة الجيش.
وتشير الباحثة في مجال التربية الدكتورة ريلي مزالي الى أن الضباط والجنود يدخلون الى غرف التدريس ويتحدثون للطلاب عن الفظائع التي يرتكبها الجيش دون أن يثير ذلك أي تحفظ لدى أولياء أمور هؤلاء الطلاب.
سيطرة العسكريين على إدارة المؤسسات التعليمية
أحد أبرز مظاهر عسكرة التعليم في إسرائيل هو تولي كبار ضباط الجيش في الاحتياط مناصب ادارية هامة في جهاز التعليم وإدارة المؤسسات التعليمية.
فوزارة التعليم في إسرائيل تقوم بتمويل مشروع يطلق عليه " تسافتا "، ويهدف هذا المشروع الى تأهيل الضباط المتقاعدين من الجيش والمخابرات للانخراط في سلك التعليم.
وقام المشروع بتخريج 300 ضابط، حيث تم دمجهم في المؤسسات التعليمية. بعض هؤلاء الضباط درس لعام واحد ونال رخصة لممارسة التدريس، ومنهم من عين فوراً في وظائف ادارة في المدارس، ومن الضباط من عينوا في وظائف تربوية.
ومن الضباط من تولوا وظائف مرموقة في جهاز التعليم بدون أي اعداد تربوي، مثل رون خلودائي الرئيس الحالي لبلدية تل ابيب، والذي سبق له ان كان مديراً لمدرسة " جمناسيا هرتسليا "، ودرور الوني. ومن الضباط الذين تولوا مناصب في جهاز التعليم ومارسوا التعليم ضباط كان لهم سجل اجرامي واضح ضد ابناء الشعب الفلسطيني، مثل العقيد ايلان باتمان الذي كان حاكماً عسكرياً لكل من رام الله وجنين.
اللافت للنظر، والمثير للإستهجان هو أن القائمين على جهاز التعليم في اسرائيل يعلنون أنهم لا يستعينون بخدمات الضباط في التدريس لإغراض تربوية وتعليمية، بل لتكريس قيم العسكرة لدى الطلاب.
فها هو موطي ساجي، مدير مشروع برنامج اعداد الضباط في جهاز التعليم الإسرائيلي يقول مدافعاً عن الاستعانة بالضباط في التدريس قائلاً " لدينا في الجهاز التعليم لا يبحثون عن معلمين مهنيين، بل عن قياديين، فضباط الجيش المتقاعدون يتمتعون بميزات خاصة وقدرات ضخمة ".
ويتحدث عن مزايا الضباط كمدرسين " هؤلاء الضباط في عيونهم بريق وإحساس بأداء الرسالة ". ويضيف " يقف أمام الطلاب رجل برتبة عقيد، بشخصيته القوية، فيحقق نجاحاً كبيراً، عندها يقف الطلاب لينشدوا النشيد الوطني، وهكذا يتبين أنه ينقل اليهم العديد من القيم ولديه ما يسوقه لهم، أنه قادم من مدرسة لا مثيل لها : الجيش، أنه ليس كالمدرسات من خريجات كليات اعداد المدرسين ".
وتفسر الدكتورة سيغال بن بورات، استاذة التربية في جامعة حيفا، ميل جهاز التعليم للاستعانة بخريجي الجيش، بقولها " أن تكون مواطناً جيداً في إسرائيل، يعني أن تخدم في الجيش وتندمج في سوق العمل ". وتضيف أن مصطلح المواطنة الجيدة يخلو تماماً من المضامين الديموقراطية والإنسانية. وتستذكر أن جهاز التعليم في الدول الديموقراطية يجب أن ينمي مواطنين وليس جنوداً ولا عمال.