قرية سيرين
احتُلت سيرين في 12 أيار 1948. كانت تقع بالقرب من بيسان في واحدة من أراضي الجِفتلك. وكانت هذه الأراضي، التي يشار إليها أحياناً باسم أراضي «المدَوَّر»، تخص اسمياً السلطان العثماني، بيد أن الفلاحين الفلسطينيين كانوا هم الذين يزرعونها.
اشتهرت سيرين بكونها نموذجاً رائعاً للنظام التعاوني القائم على التشارك في الأرض، والذي تمسّك به القرويون، وهو يرجع إلى العهد العثماني. ولم ينجح في القضاء عليه تحول الزراعة المحلية إلى الطرائق الرأسمالية، ولا الاندفاع الصهيوني للحصول على الأراضي. وكان في القرية ثلاثة بساتين غنية بأشجار الفواكه وكروم الزيتون، تمتد على أكثر من 9000 دونم من الأرض المزروعة (من مجموع 17.000 دونم). وكانت الأراضي ملكاً للقرية كمجموع، وحصة العائلة من المحاصيل ومساحة الأرض تتقرر بناء على حجم العائلة.
وكان لسيرين علاقات جيدة بالجميع. وقد كانت العائلة الرئيسة، عائلة الزعبي، موعودة بحصانة للقرية من جانب الوكالة اليهودية، لأنها كانت تنتمي إلى عشيرة متعاونة. فالمختار مبارك الحاج الزعبي، الذي كان شاباً متعلماً، وعلى علاقة وثيقة بأحزاب المعارضة، كان صديقاً لرئيس بلدية حيفا، شبتاي ليفي، منذ يوم كانا يعملان في شركة البارون روتشيلد. وكان متأكداً من أن سكان القرية، البالغ عددهم 700 نسمة، سيُجنَّبون المصير الذي لاقته القرى المجاورة. لكن كان هناك في القرية عشيرة أُخرى، حمولة أبو الهيجاء، التي كانت أكثر ولاء للمفتي السابق، الحاج أمين الحسيني، وللحزب العربي الفلسطيني. وبحسب ملف الهاغاناه لسنة 1943 الخاص بقرية سيرين، فإن وجود هذه العشيرة هو الذي حكم عليها بالهلاك. ولحظ الملف أن في سيرين عشرة أشخاص من حمولة أبو الهيجاء شاركوا في ثورة 1936، وأن «أياً منهم لم يُعتقل أو يُقتل، وأنهم يحتفظون ببنادقهم.»
كانت القرية تعاني بين حين وآخر جرّاء الخصومات بين الحمولتين الرئيستين. لكن، كما حدث في أنحاء فلسطين كافة، فإن الأمور تحسنت بعد الثورة العربية الكبرى. ومع حلول نهاية الانتداب كانت القرية تجاوزت الانقسامات التي مزقتها خلال فترة الثلاثينات العاصفة.
وأمل مختار سيرين بأن تتعزز حصانة القرية أيضاً جرّاء وجود عشيرة مسيحية صغيرة فيها كانت على علاقة ممتازة ببقية السكان. وكان أحد أفرادها معلم القرية، وكان يربي تلاميذ الصف البالغ عددهم 40 تلميذاً، من دون أي أثر لتحامل سياسي أو ارتباط عشائري. وكان صديقه المفضل الشيخ محمد المصطفى، إمام الجامع المحلي وحارس الكنيسة المحلية والدير اللذين كانا موجودين أيضاً داخل القرية.
هذا العالم الصغير من التعايش الديني والانسجام تم تدميره تماماً خلال ساعات قليلة معدودة. لم يقاتل القرويون. جمعت القوات اليهودية المسلمين- من الحمولتين- والمسيحيين معاً وأمرتهم بالتوجه إلى نهر الأردن وعبوره إلى الجانب الآخر. ومن ثم نسفت المسجد والكنيسة والدير والبيوت كافة. ولم تلبث الأشجار في البساتين أن جفت وماتت.
اليوم، يحيط سياج من الصبار بالأنقاض التي كانت ذات يوم قرية سيرين. ولم ينجح اليهود قط في تكرار نجاح الفلسطينيين في التشبث بالتربة الوعرة في الوادي، لكن الينابيع القائمة في الجوار لا تزال هناك - منظر موحش يبعث خلوه من البشر الرهبة في النفس.
إلى الغرب من سيرين، في مرج ابن عامر (عيمك يزراعيل)، فعل فوزي القاوقجي كل ما في وسعه للحد من الاحتلالات اليهودية، وشن عدة هجمات فاشلة على الكيبوتس اليهودي الوحيد الموجود في المنطقة، مِشْمار هَعيمِكْ. وفي واحدة من المرات التي تعرض فيها الكيبوتس للقصف بواسطة المدفع الوحيد الذي كان في حيازة القاوقجي، قتلت قذيفة مباشرة ثلاثة أطفال. وهذه المأساة المروعة سيجدها المرء مذكورة في كتب التاريخ الرسمية باعتبارها الحادثة الوحيدة العدائية التي وقعت في هذه المنطقة.
لم تساهم القرى المجاورة كثيراً في الجهود التي بذلها جيش الإنقاذ لينقل أخباراً طيبة من جبهة القتال إلى جامعة الدول العربية التي أرسلته. وفي الواقع، كثير منها وقّع معاهدات عدم اعتداء مع الكيبوتسات المجاورة له. لكن هجوم جيش الإنقاذ على مِشْمار هَعيمك أشعل الغضب والرغبة في الانتقام في نفوس أعضاء الكيبوتسات، وبالتالي لم تعد تلك القرى آمنة من العدوان المتمادي في السهل. وحث أعضاء الكيبوتسات القوات اليهودية على مواصلة التطهير العرقي الذي بدأته في شرق المنطقة. وكان كثير من الكيبوتسات في هذا الجزء من الجليل تابعاً للحزب الصهيوني الاشتراكي «هَشومير هَتْسَعير»، الذي حاول بعض أعضائه اتخاذ موقف أكثر إنسانية. وفي تموز (يوليو)، اشتكى عدد من أعضاء مبام البارزين إلى بن - غوريون ما اعتقدوا أنه توسيع «لا لزوم له» لعملية التطهير. وسارع بن - غوريون إلى تذكير هؤلاء الكيبوتسيين من أصحاب الضمير أنهم هم أنفسهم كانوا مسرورين من انطلاق المرحلة الأولى في المنطقة في نيسان السابق. وفي الحقيقة، لو كنتَ يهودياً صهيونياً في سنة 1948، لكان معنى ذلك شيئاً واحداً، وشيئاً واحداً فقط: الالتزام الكامل بتطهير فلسطين من العرب.
في حيفا وحواليها اكتسبت عملية التطهير العرقي زخماً شديداً، وشكلت سرعتها القاتلة نذيراً بالدمار الآتي. خمس عشرة قرية- بعضها صغير لا يتعدى عدد سكان القرية فيه 300 نسمة، وبعضها كبير جداً، يتجاوز عدد سكان القرية فيه الـ5000 نسمة - طُرد سكانها بسرعة الواحدة تلو الأُخرى. أبو شوشة؛ أبو زريق؛ عرب الفقراء؛ عرب النفيعات؛ عرب ظهرة الضميري، بلد الشيخ؛ الدامون؛ خربة الكساير؛ خربة منشيّة؛ الريحانية؛ خربة الشركس؛ خربة سعسع؛ وعرة السريس؛ ياجور؛ هذه القرى كلها مسحت من خريطة فلسطين داخل قضاء ملآن بالجنود البريطانيين، ومبعوثي الأمم المتحدة، والمراسلين الأجانب.
ولدينا سجلات تشتمل على إدانات لفظية من ساسة صهيونيين من تلك الفترة أقلقهم الأمر، وزودت «المؤرخين الجدد» بمادة عن الأعمال الوحشية لم يجدوها في أية مصادر أرشيفية أُخرى. وتبدو اليوم وثائق الشكوى هذه أقرب إلى محاولة من جانب ساسة وجنود «حسّاسين» لإراحة ضمائرهم. وهي تشكل جزءاً من عاطفة إسرائيلية يمكن وصفها بعبارة «يطلقون النار ويبكون»، التي نستعيرها من عنوان مجموعة أقوال يُفترض أنها تعبر عن ندم أخلاقي لجنود إسرائيليين شاركوا في عمليات تطهير عرقي ضيقة النطاق في حرب حزيران 1967. وقد دُعي الضباط والجنود المعنيون وقتئذ من جانب الكاتب الإسرائيلي الشهير عاموس عوز وأصدقائه إلى ممارسة «طقس تبرئة» Exoneration في «البيت الأحمر» قبل أن يُهدم.
المفضلات