5- تسامح السيدة فاطمة مع أبي بكر: وقد ثبت عن فاطمة – رضي الله عنها- أنها رضيت عن أبي بكر بعد ذلك، وماتت وهي راضية عنه، على ما روى البيهقي بسنده عن الشعبي أنه قال: لما مرضت فاطمة أتاها أبو بكر الصديق فاستأذن عليها، فقال علي: يا فاطمة، هذا أبو بكر يستأذن عليك؟ فقالت: أتحب أن آذن له؟ قال: نعم،فأذنت له، فدخل عليها يترضاها، فقال: والله ما تركت الدار والمال، والأهل والعشيرة، إلاّ ابتغاء مرضاة الله، ومرضاة رسوله، ومرضاتكم أهل البيت، ثم ترضَّاها حتى رضيت.
قال ابن كثير: وهذا إسناد جيد قوي، والظاهر أن عامر الشعبي سمعه من علي، أو ممن سمعه من علي.
وبهذا تندحض مطاعن الرافضة على أبي بكر التي يعلقونها على غضب فاطمة عليه،
فلئن كانت غضبت على أبى بكر في بداية الأمر[على سبيل الفرض] فقد رضيت عنه بعد ذلك، وماتت وهي راضية عنه، ولا يسع أحدًا صادقًا في محبته لها، إلاّ أن يرضى عمن رضيت عنه,
ولا يعارض هذا ما ثبت في حديث عائشة: إنما يأكل آل محمدمن هذا المال، وإني والله لا أغير شيئًا من صدقة رسول الله
عن حالها التي كانت عليها في عهد رسول الله
، ولأعملن فيها بما عمل به رسول الله
، فأبى أبو بكر أن يدفع لفاطمة منها شيئًا، فوجدت فاطمة على أبي بكر في ذلك فهجرته فلم تكلمه حتى توفيت.
فإن هذا بحسب علم عائشة – رضي الله عنها – رواية الحديث، وفي حديث الشعبي زيادة علم، وثبوت زيارة أبي بكر لها وكلامها له ورضاها عنه،
فعائشة – رضي الله عنها – نفت والشعبي أثبت، ومعلوم لدى العلماء أن قول المثبت مقدم على قول النافي؛
لأن احتمال الثبوت حصل بغير علم النافي، خصوصًا في مثل هذه المسألة، فإن عيادة أبي بكر لفاطمة – رضي الله عنها- ليست من الأحداث الكبيرة التي تشيع في الناس، ويطّلع عليها الجميع، وإنما هي من الأمور العادية التي تخفى على من لم يشهدها، والتي لا يعبأ بنقلها لعدم الحاجة لذكرها، على أن الذي ذكره العلماء أن فاطمة – رضي الله عنها – لم تتعمد هجر أبي بكر رضي الله عنه أصلاً، ومثلها ينزه عن ذلك لنهي النبي عن الهجر فوق ثلاث، وإنما لم تكلمه لعدم الحاجة لذلك,
قال القرطبي صاحب المفهم في سياق شرحه لحديث عائشة المتقدم: ثم إنها (أي فاطمة) لم تلتق بأبي بكر لشغلها بمصيبتها برسول الله ولملازمتها بيتها، فعبر الراوي عن ذلك بالهجران،
وإلاّ فقد قال رسول الله : «لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث»,
وهى أعلم الناس بما يحل من ذلك ويحرم، وأبعد الناس عن مخالفة رسول الله، وكيف لا تكون كذلك وهي بضعة من رسول الله وسيدة نساء أهل الجنة؟!
وقال النووي: وأما ما ذُكر من هجران فاطمة أبا بكر رضي الله عنه فمعناه انقباضها عن لقائه، وليس هذا من الهجران المحرم، الذي هو ترك السلام والإعراض عند اللقاء،
وقوله في هذا الحديث: (فلم تكلمه) يعني في هذا الأمر، أو لانقباضها لم تطلب منه حاجة ولا اضطرت إلى لقائه فتكلمه، ولم يُنقل قط أنهما التقيا فلم تسلم عليه ولا كلمته,
لقد انشغلت فاطمة – رضي الله عنها – عن كل شيء بحزنها لفقدها أكرم الخلق، وهي مصيبة تزري بكل المصائب، كما أنها انشغلت بمرضها الذي ألزمها الفراش عن أية مشاركة في أي شأن من الشؤون، فضلاً عن لقاء خليفة المسلمين المشغول – لكل لحظة من لحظاته – بشؤون الأمة، وحروب الردة وغيرها، كما أنها كانت تعلم بقرب لحوقها بأبيها، فقد أخبرها رسول الله بأنها أول من يلحق به من أهله, ومن كان في مثل علمها لا يخطر بباله أمور الدنيا،
وما أحسن قول المهلب الذي نقله العيني: ولم يرو أحد أنهما التقيا وامتنعا عن التسليم، إنما لازمت بيتها، فعبر الراوي عن ذلك بالهجران.
ومما يدل على أن العلاقة كانت وطيدة بين الصديق والسيدة فاطمة إلى حد أن زوجة أبي بكر أسماء بنت عميس هي التي كانت تمرّض فاطمة بنت النبي،
ورضي الله عنها، في مرض موتها، وكانت معها حتى الأنفاس الأخيرة، وشاركت في غسلها وترحيلها إلى مثواها، وكان علي رضي الله عنه يمرضها بنفسه وتعينه على ذلك أسماء بنت عميس، رضي الله عنها،
وقد وصتها بوصايا في كفنها ودفنها وتشييع جنازتها، فعملت أسماء بها,
فقد قالت السيدة فاطمة لأسماء: إني قد استقبحت ما يُصنع بالنساء، إنه يطرح على المرأة الثوب فيصفها، فقالت أسماء: يا بنت رسول الله، ألا أريك شيئًا رأيته بأرض الحبشة، فدعت بجرائد رطبة فحنتها ثم طرحت عليها ثوبًا، فقالت فاطمة: ما أحسن هذا وأجمله! به تُعرف المرأة من الرجال.
وعن ابن عبد البر: أن فاطمة -رضي الله عنها- أول من غُطّي نعشها في الإسلام، ثم زينب بنت جحش، وكان الصديق دائم الاتصال بعلي من ناحية ليسأله عن أحوال بنت النبي خلاف ما يزعمه القوم، فمرضت (أي فاطمة رضي الله عنها) وكان علي يصلي في المسجد الصلوات الخمس،
فلما صلى قال له أبو بكر وعمر: كيف بنت رسول الله؟ ومن ناحية أخرى من زوجه أسماء حيث كانت هي المشرفة والممرضة الحقيقية لها، ولما قُبضت فاطمة من يومها فارتجت المدينة بالبكاء من الرجال والنساء،
ودهش الناس كيوم قبض فيه رسول الله ، فأقبل أبو بكر وعمر يعزيان عليًا ويقولان: يا أبا الحسن، لا تسبقنا بالصلاة على ابنة رسول الله,
وقد توفيت ليلة الثلاثاء لثلاث خلون من رمضان سنة إحدى عشرة،
روى ابن مالك بن جعفر بن محمد عن أبيه عن جده علي بن الحسين، قال: ماتت فاطمة بين المغرب والعشاء فحضرها أبو بكر وعمر وعثمان والزبير وعبد الرحمن بن عوف -رضي الله عنهم- فلما وُضعت ليُصلّى عليها،
قال علي: تقدم يا أبا بكر، قال أبو بكر رضي الله عنه: وأنت يا أبا الحسن؟ قال: نعم، فو الله لا يصلي عليها غيرك، فصلّى عليها أبو بكر رضي الله عنه ودفنت ليلاً.
وجاء في رواية: صلى أبو بكر رضي الله عنه على فاطمة بنت رسول الله فكبّر عليها أربعًا,
وفي رواية مسلم: صلّى عليها علي بن أبي طالب وهي الرواية الراجحة.
ولقد أجاد وأفاد محمد إقبال في قصيدته العصماء (فاطمة الزهراء) فقال:
نَسَبُ المسيح بنى لمريمَ سيرةً = بقيت على طول المدى ذكراها
والمجدُ يشرفُ من ثلاث مطالعٍ = في مهد فاطمةٍ فما أعلاها
هي بنتُ من؟ هي زوجُ من؟ هي أم من؟ = من ذا يداني في الفخار أباها
هي ومضةٌ من نورِ عينِ المصطفى = هادي الشعوب إذا ترومُ هداها
من أيقظ الفطرَ النيامَ بروحه = وكأنه بعد البلى أحياها
وأعاد تاريخَ الحياة جديدةً = مثلَ العرائسِ في جديد حُلاها
هى أسوةٌ للأمهات وقدوةٌ = يترسمُ القمرُ المنيرُ خطاها
جعلت من الصبر الجميل غذاءَها = ورأت رضا الزوجِ الكريمِ رضاها
إلى أن قال:
لولا وقوفي عند شرعِ المصطفى = وحدودِ شرعتِه ونحن فداها
لمضيتُ للتطوافِ حول ضريحِها = وغمرْتُ بالقبلاتِ طيبَ ثراها
والله المستعان على الإكمال
المفضلات