كيف بدأ الربا وانتشر؟..
لننظر أولاً في حكم الربا في الشرائع السابقة كاليهودية والنصرانية قبل الانتقال عن بدايتة وكيف نشأ، قال الماوردي وغيره: إن الربا لم يحِل في شريعة قط لقوله تعالى: ﴿وَأَخْذِهِمُ الرِّبا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ﴾ [النساء: 161] يعني في الكتب السابقة, لقد حرم الله الربا على اليهود، وهم يعلمون ذلك، وينهون عنه فيما بينهم، لكنهم يبيحونه مع غيرهم، جاء في سفر التثنية: الإصحاح الثالث والعشرين:
" للأجنبي تقرض بربا، ولكن لأخيك لا تقرض بالربا". ومنشأ هذا أنهم ينظرون إلى غيرهم نظرة استعلاء واحتقار، والتوراة وإن كانت قد حرفت إلا أن شيئاً منها بقي كما هو لم يحرف، منها تحريم الربا، لكنهم حرفوا النص حينما أباحوه مع غير اليهودي…(19)، قال الإمام الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى: ”إن الله قد نهاهم – أي اليهود – عن الربا، فتناولوه، وأخذوه، واحتالوا عليه بأنواع الحيل، وصنوف من الشبه، وأكلوا أموال الناس بالباطل“(20)وقد صرف اليهود النص المحرِّم للربا حيث قصروا التحريم فيه على التعامل بين اليهود، أما معاملة اليهودي لغير اليهودي بالربا، فجعلوه جائزاً لا بأس به. ويقول أحد رهبانييهم: ”عندما يحتاج النصراني إلى درهم فعلى اليهودي أن يستولي عليه من كل جهة، ويضيف الربا الفاحش إلى الربا الفاحش، حتى يرهقه، ويعجز عن إيفائه ما لم يتخلَّ عن أملاكه أو حتى يضاهي المال مع فائدة أملاك النصراني، وعندئذ يقوم اليهودي على مدينه – غريمه – وبمعاونة الحاكم يستولي على أملاكه“(21) فاتّضح من كلام الله تعالى أن الله قد حرّم الربا في التوراة على اليهود، فخالفوا أمر الله، واحتالوا، وحرَّفوا، وبدَّلوا، واعتبروا أن التحريم إنما يكون بين اليهود فقط، أما مع غيرهم فلا يكون ذلك محرماً في زعمهم الباطل، ولذلك ذمّهم الله في كتابه العزيز كما بيّنت ذلك آنفاً.
والدين النصراني كذلك يحرمه، ففي إنجيل لوقا: " إذا أقرضتم الذين ترجون منهم المكافأة فأي فضل يعرف لكم؟…ولكن افعلوا الخيرات وأقرضوا غير منتظرين عائدتها… وإذاً يكون ثوابكم جزيلا" . وقد أجمع رجال الكنيسة ورؤساؤها كما اتفقت مجامعها على تحريم الربا تحريماً قاطعاً، حتى أن الآباء اليسوعيين وردت عنهم عبارات صارخة في حق المرابين، يقول الأب بوني:" إن المرابين يفقدون شرفهم في الحياة، إنهم ليسوا أهلا للتكفين بعد موتهم .. " ولم يكن تحريم الربا قاصراً على أرباب الديانتين، بل كذلك حرّمه من اشتهر في التاريخ بالعلم والفهم والحكمة كبعض الفلاسفة، منهم أرسطو، وأفلاطون الفيلسوف اليوناني الذي قال في كتابه القانون: " لا يحل لشخص أن يقرض بربا" ..(22)
وأما العرب في جاهليتهم على الرغم من تعاملهم به إلا أنهم كانوا ينظرون إليه نظرة ازدراء، وليس أدل على ذلك أنه عندما تهدم سور الكعبة وأرادت قريش إعادة بنائه حرصت على أن تجمع الأموال اللازمة لذلك من البيوت التي لا تتعامل بالربا، حتى لا يدخل في بناء البيت مال حرام، فقد قال أبو وهب بن عابد بن عمران بن مخزوم: " يا معشر قريش لا تدخلوا في بنيانها من كسبكم إلا طيباً، لا يدخل فيها مهر بغي، ولا بيع ربا، ولا مظلمة أحد من الناس".
ومهما كان فالربا كان منتشراً في عصر الجاهلية انتشاراً كبيراً وقد عدوه من الأرباح العظيمة – في زعمهم – التي تعود عليهم بالأموال الطائلة، فقد روى الإمام الطبري – رحمه الله –أنه قال: ”كانوا في الجاهلية يكون للرجل على الرجل الدين فيقول: لك كذا وكذا وتؤخر عني فيؤخر عنه“(23)وغالب ما كانت تفعله الجاهلية أنه إذا حلّ أجل الدين قال (من هو له) (لمن هو عليه): أتقضي أم تربي؟ فإذا لم يقض زاد مقداراً في المال الذي عليه، وأخّر له الأجل إلى حين، وفي الأثمان يأتيه فإن لم يكن عنده أضعفه في العام القابل، فإن لم يكن عنده في العام القابل أضعفه أيضاً، فإذا كانت مائة جعلها إلى قابل مائتين، فإن لم يكن عنده من قابل جعلها أربعمائة يضعفها له كل سنة أو يقضيه(24)، فهذا قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبا أَضْعَافاً مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [آل عمران:130].
وإذا كان الأمر على هذا النحو، وأصحاب الديانات كلهم يحرمون الربا، كيف إذن بدأ وانتشر في العالم؟
لقد كانت الجاهلية تتعامل بالربا قبل الإسلام، فجاء الإسلام وحرمه كما هو معلوم بالنصوص، وسد كل أبوابه ووسائله وذرائعه ومنافذه، حتى ما كان فيه شبهة من ربا منعه وحرمه، كمنعه عليه الصلاة والسلام من بيع صاعين من تمر رديء بصاع من تمر جيد .. فامتثل الناس لذلك، وتلاشى الربا، وحل محله البيع والقرض الحسن والصدقة والزكاة..
وكما قلنا كانت أوربا التي تدين بالنصرانية تحرم الربا وتنهى عن التعامل به، أما اليهود ـ والذين كانوا يمتنعون من التعامل بالربا فيما بينهم ـ كانوا ممنوعين من التعامل به مع غيرهم تحت وطأة الكراهية والذل الذي كانوا فيه.. ولكن ومنذ أواخر القرن السادس عشر ميلادي بدأت أوربا بالتمرد على هذا الحكم الإلهي..ففي عام 1593م وضع استثناء لهذا الحظر في أموال القاصرين، فصار يباح تثميرها بالربا، بإذن من القاضي، فكان هذا خرقاً للتحريم.. ثم تبع ذلك استغلال الكبار لنفوذهم، فقد كان بعض الملوك والرؤساء يأخذون بالربا علناً، فهذا لويس الرابع عشر اقترض بالربا في 1692م، والبابا التاسع تعامل كذلك بالربا في سنة 1860م.
كانت تلك محاولات وخروقات فردية.. لكن الربا لم ينتشر ولم يقر كقانون معترف به إلا بعد الثورة الفرنسية، فالثورة كانت ثورة على الدين والحكم الإقطاعي والملكي..وكان من جملة الأحكام الدينية في أوربا كما علمنا تحريم الربا، فنبذ هذا الحكم ضمن ما نبذ من أحكام أخر، وكان لا بد أن يحصل ذلك، إذ إن اليهود كانت لهم اليد الطولى في تحريك الثورة الفرنسية واستغلال نتائجها لتحقيق طموحاتهم، من ذلك إنشاء مصارف ربوية، لتحقيق أحلامهم بالاستحواذ على أموال العالم، وجاءت الفرصة في تلك الثورة، وأحل الربا وأقر. فقد قررت الجمعية العمومية في فرنسا في الأمر الصادر بتاريخ 12 أكتوبر سنة 1789م أنه يجوز لكل أحد أن يتعامل بالربا في حدود خاصة يعينها القانون(25).
أصدرت فرنسا التمرد على الدين وعزله عن الحياة إلى كل أوربا، ومن ذلك التمرد على تحريم الربا، وقد كان اليهود في ذلك الحين من أصحاب المال، وبدأت الثورة الصناعية، واحتاج أصحاب الصناعات إلى المال لتمويل مشاريعهم، فأحجم أصحاب المال من غير اليهود عن تمويل تلك المشاريع الحديثة خشية الخسارة..أما اليهود فبادروا بإقراضهم بالربا، ففي قروض الربا الربح مضمون، ولو خسر المقترض، وقد كانت أوربا في ذلك الحين مستحوذة على بلدان العالم بقوة السلاح، فارضة عليها إرادتها، فلما تملك اليهود أمرها وتحكموا في إرادتها كان معنى ذلك السيطرة والتحكم في العالم أجمع، ومن ثم فرضوا التعامل بالربا على جميع البلاد التي تقع تحت سيطرة الغرب، فانتشر الربا وشاع في كل المبادلات التجارية والبنوك، فاليهود كانوا ولا زالوا إلى اليوم يملكون اقتصاد العالم وبنوكه..إذن.. اليهود هم وراء نشر النظام الربوي في العالم(26) .
المفضلات