ويمكننا الآن أن نثير نقطتين أساسيتينتتصلان بالعقلانية المادية:

1
ـ نحن نذهب إلى أنه لا توجد علاقة ضرورية بينالعقلانية والمادية، فهناك نظم سياسية مادية عقلانية وأخرى مادية لاعقلانية. فالنظام السياسي الأمريكي مبني على الفصل بين الدين والدولة فصلاً كاملاً، وقد نجحالأمريكيون، في بعض مراحل تاريخهم على الأقل، في تطوير نظام عقلاني يُعبِّر عنمطامح الشعب الأمريكي بشـكل معـقول. والنظام النازي، هو الآخر، كان نظـاماً مادياًشرساً في ماديته، ولكنه كان لاعقلانياً بصورة تامة، وكان يتحرك في إطار نظريتهالعرْقية الشمولية التي شكلت مرجعيته المادية الكامنة. والنظام الستاليني، كان هوالآخر نظاماً مادياً بشكل نماذجي، ولكن لا يمكن أن يزعم أحد أنه كان نظاماًعقلانياً. وهناك نظم عقلانية تستند إلى عقائد دينية يزخر بها تاريخ الإنسان.

2
ـ بل إننا نذهب إلى أن العقلانية المادية تؤدي في مراحلها المتقدمة إلىاللاعقلانية المادية وهذا ما سنتناوله في بقية هذا المدخل.

وقد أشرنا إلىأن العقل المادي عقل تفكيكي عدمي غير قادر على التركيب أو التجاوز. ويتضح هذا فيأنه عقل قادر على إفراز قصص (نظريات) صغرى مرتبطة بفضائها الزماني والمكاني المباشرعلى أحسن تقدير (كما يقول دعاة ما بعد الحداثة)، أي أنه قادر على إفراز مجموعة منالأقوال التي لا شرعية لها خارج نطاقها المادي المباشر الضيق المحسوس (فالعقلالمادي يُدرك الواقع بطريقة حسِّية مباشرة). ومن ثم فهو عقل عاجز عن إنتاج القصصالكبرى أو النظريات الشاملة عاجز عن التوصل للحقيقة الكلية المجردة التي تقع خارجنطاق التجريب. ولذا فالعقل المادي لا يُنكر الميتافيزيقا وحسب وإنما يُنكر الكلياتتماماً وينتهي به الأمر بالهجوم على العقل الإنساني والعقل النقدي لأنهما يتوهمانأنهما يتمتعان بقدر من الاستقلال عن حركة الطبيعة/المادة. وبذلك يختفي الإنسانكمرجعية نهائية بل يختفي مفهوم الطبيعة البشرية نفسه، ثم تختفي سائر المرجعياتوتصبح الإجراءات الشيء الوحيد المتفق عليه. وهكذا لا يتحرر العقل المادي من الأخلاقوحسب وإنما يتحرر من الكليات والهدف والغاية والعقل، ومن ثم تتحوَّل العقلانيةالمادية إلى لاعقلانية مادية.

وإذا كانت العقـلانية المـادية قد أفرزت فكرحـركة الاسـتنارة والوضعية المنطقية والكل المادي المتجاوز للإنسان، فقد أفرزتاللاعقلانية المادية: النيتشوية والوجودية والفينومينولوجية وهايدجر وما بعدالحداثة. والانتقال من التحديث إلى الحداثة وما بعد الحداثة هو الانتقال منالعقلانية المادية التي تربط بين التجريب والعقلانية (في مرحلة المادية القديمةومرحلة الثنائية الصلبة والواحدية الموضوعية المادية) إلى اللاعقلانية المادية التيتفصل بينهما، فيتم التجريب دون ضابط ودون إطار (في مرحلة المادية الجديدة والسيولةالشاملة). وتسود الآن في مجال العلوم نزعة تجريبية محـضة ترفض الكـليات العقـلية)إنسـانية كانت أم مـادية) وتلتصق تماماً بالمادة وحركتها وعالم الحواس.

ومع هذا يمكن القول بأن العقلانية المادية كثيراً ما تتعايش مع اللاعقلانيةالمادية وترتبط بها. فالوضعية العلمية المنطقية تعبير عن العقلانية المادية حيث لايؤمن الإنسان إلا بالتجريب والأرقام، ولكنها في الوقت نفسـه تعبير عـن اللاعقلانيةالمادية، فهي لا تشغل بالها بالكليات أو المنطلقـات الفلسـفية. وقد أشرنا إلى أنالنازية، كما يراها بعض المؤرخين، هي قمة العقلانية المادية، ونحن نتفق معهم فيهذا، ونضيف أن هذا لا يمنع أن تكون قمة اللاعقلانية المادية أيضاً، فهي تعبير عنتَبلور نزعة تجريبية محضة ترفـض الكليات الإنسانية والعقلية وأي شكل من أشكالالميتافيزيقا وتلتصق تماماً بحركة المادة وعالم الحواس، وتُمجِّد الإرادة الفرديةعلى حساب أية مفاهيم إنسانية كلية. ولعل الفلسفة العلمانية الشاملة الأساسية، أيالداروينية الاجتماعية، هي تعبير عن هذا التعايش والترابط بين العقلانيةواللاعقلانية المادية.