مماليــــك ماليـــــة
Financial Mamlukes
مصطلح «مماليك مالية» مصطلح قمنا بنحته ونستخدمه لوصفأوضاع أعضاء الجماعات اليهودية داخل الحضارة الغربية، وذلك انطلاقاً من مفهومناالتحليلي الخاص بالجماعات الوظيفية المالية. ونحن حين نصف أعضاء الجماعات اليهوديةالوظيفية المالية في الحضارة الغربية بأنهم «مماليك مالية» فإننا نستخدم مفهومالجماعات الوظيفية لنربط بين أقنان البلاط ويهود البلاط وغيرهم من أعضاء الجماعاتاليهودية في الغـرب ممن اضطلعوا بوظـائف خـاصة من جهة، والمماليك من جهة أخرى، أيأننا ربطنا الواقعة أو الظاهرة (الخاصة) التي قد تبدو فريـدة داخـل المجتمـع الغربيبوقـائع وظواهر مماثلـة في مجتمعات أخرى، ومن ثم فهي تفقد كثيراً من تفردهاوإطلاقها (وليس بالضرورة خصوصيتها)، ويظهر النمط المتكرر الكامن دون السقوط فيالقوانين العامة المجردة. هذه، إذن، محاولة للوصول إلى نمط لا يستند إلى وقائعالتاريخ الغربي ولا ينطلق منها بالضرورة، وإنما يستند إلى وقائع التاريخ الإنسانيالعام بما في ذلك التاريخ الغربي بالطبع. كما أنها محاولة لتعميق فهم القارئ العربيللظاهرة اليهودية في الحضارة الغربية، فالمماليك واقع مألوف لديه، وعن طريق ربطالمألوف بغير المألوف والمعلوم بالمجهول يمكن فهم المجهول وغير المألوف. كما أنلمصطلح «مماليك» مقدرة تفسيرية عالية، حين يُطبَّـق على الظاهرة اليهـودية ثمالصهـيونية وأخيراً على الدولة الصهيونية.

ولنبدأ بمحاولة حصر بعض سماتالجماعات الوظيفية التي يتسم بها كل من المماليك، باعتبارهم جماعة وظيفية قتالية،وأعضاء الجماعات الوظيفية اليهودية في الحضارة الغربية، فهذه السمات هي الأرضيةالمشتركة بين الفريقين. وسنلاحظ أن المماليك وأعضاء الجماعات الوظيفية اليهودية همجماعات وظيفية عميلة تضطلع بوظيفة متميِّزة أو مشينة أو كريهة (القتال في حالةالمماليك، والتجارة والربا وجمع الضرائب في حالة اليهود). كما كان يتم استجلاب كلمن المماليك وأعضاء الجماعات اليهودية من خارج المجتمع، ليضطلعوا بوظيفة محدَّدةتوكل إليهم، فهم غرباء نافعون يدخل معهم المجتمع في علاقة تعاقدية محددة. وكان يتمأيضاً عزل كل من المماليك وأعضاء الجماعة اليهودية عن بقية السكان، بل صارت العزلةالثقافية والإثنية أساس الانخراط في سلك هذه الجماعات. وهي عزلة تظهر في الأزياءالتي كان يرتديها كلٌ من المماليك وأعضاء الجماعات اليهودية، وفي اللغة التي كانوايتحدثون بها (اليديشية أو الشركسية أو غيرها من اللغات)، وفي طريقة قص الشعر أوتصفيفه. وكان يتم عزل أعضاء الجماعات اليهودية في الجيتو وعزل المماليك في الثكناتالعسكرية. وكان العزل يتم أصلاً لأن الانتماء العاطفي والحضاري للمجتمع المضيف يجعلمن الصعب على المحارب أن يقتل من يحب ويجعل من الصعب أيضاً على التاجر أو المرابيأن يسلب ثروات من تربطه بهم علاقة قرابة، فالاضطلاع بالمهمة القتالية أو الماليةيتطلب الموضوعية والحياد اللذين يتسم بهما الغريب.

وكان أعضاء الجماعاتاليهودية الوظيفية في الحضارة الغربية، والمماليك في المجتمعات العربية، يُعدّونملكية خاصة للملك، وكلمة «مملوك» مشتقة من كلمة «ملْك» وتشير إلى العبد المملوكيوتعني «الخادم» أو «العبد». أما أعضاء الجماعات اليهودية في العصور الوسطى، فكانيُشار إليهم باسم «أقنان البلاط»، (باللاتينية: «سيرفي كاميراي ريجيس servi camerae regis») وكلمة «سيرفوس servus» اللاتينية تعني «خادم» أو «قن» أو «عبد». وقد كان كلمن المماليك وأعضاء الجماعات اليهودية قريبين من النخبة الحاكمة، فهم أداتها فيالاستغلال والقمع والغزو، ولذا تَركَّز الفريقان في المدن. ولنا أن نلاحظ أن كلاًّمن المماليك وأعضاء الجماعات الوظيفية اليهودية يؤمن بأنه شعب مختار أو نخبةمختارة، وكان الإحساس بالحرية والحتمية (أو عبث الوجود) أمراً مشتركاً بينهما. كماأن أعضاء الجماعتين كانوا يطبقون معيـارين أخلاقيـين مزدوجـين: واحد يُطبَّق علىالجماعة الوظيفية المقدَّسة، والآخر على المجتمع المضيف المباح. وكان كل منالمماليك وأعضاء الجماعات اليهودية الوظيفية يمتلك أداة يجيد استخدامها أكثر منأعضاء المجتمع المضيف: السيف في حالة المماليك، ورأس المال الربوي والخبرة التجاريةوالإدارية في حالة أعضاء الجماعات اليهودية. ويُلاحَظ أن المماليك وأعضاء الجماعاتاليهودية كانوا محط خوف الجماهير وكراهيتها، وأنهم سقطوا صرعى عمليات التحديث وظهورالدولة القومية الحديثة.ولعلنا لو قارنا إبادة المماليك على يد محمد علي وإبادةيهود الغرب على يد هتلر لاتُهمنا بالمبالغة والشطط، ولكنهما مع هذا مبالغة وشططينيران جوانب من الواقع.

ومع أن أحداً من الدارسين لم يستخدم اصطلاح «مماليك» لوصف وضع اليهود في الحضارة الغربية، فإن المؤرخ الأمريكي اليهودي جيكوبأجوس اقترب كثيراً من المصطلح حين قال: « إن مكانة اليهود كغرباء كانت مهمة، إذ أنالطبقة الحاكمة كانت تستخدمهم كما كانت تستخدم المرتزقة تماماً، وكانت تفضلهم علىالصيارفة المحليين للسبب نفسه الذي كانت من أجله تفضل المرتزقة على الفرق المحلية».

وعلى كل حال، يبدو أن فكرة «المماليك» كانت في ذهن المُشرِّع الغربي فيالعصور الوسطى مع أنه لم يستخدم المصطلح نفسه. فوضع اليهود كأقنان بلاط كان يستندإلى قصة أسطورية متداولة تهـدف إلى إضـفاء شـيء من الشـرعية علـى وضـع فريـد داخلالمجتمع الإقطاعي الغربي. وتروي القصة أنه أثناء حصار القدس عام 60 ق.م، مات ثُلثاليهود من الجوع، وقُتل الثلث الثاني، أما الثُلث الأخير فقد قام المؤرخ اليهودييوسيفوس فلافيوس بإطعامهم ثم بيعهم للملك (أي الإمبراطور) تيتوس بعد سقوط القدس.وقدسلمهم الأخير إلى بلاط ملوك الرومان كي يصبحوا خدماً (أقناناً) للإمبراطورية على أنيقوم الملوك الرومان بحمايتهم. وقد بُعثت في القرن الرابع عشر الجزية الرومانيةالقديمة تحت اسم «ضريبة المليم» (بالألمانية: أوفربفينج Oferpfennig») دلالة على أنأباطرة الإمبراطورية الرومانية المقدَّسة قد ورَّثوا فسبسيان وتيتوس الهيمنةالكاملة على الشعب الذي هُزم واستُعبد مئات السنين من قبل.

وإذا كانتأسطورة الشرعية هذه طريفة بقدر ما هي ساذجة، فهذا هو الحال مع معظم أساطير الشرعية. وما يهُمنا هو أنها تفترض وجود علاقة مالك ومملوك بين الحاكم وأعضاء الجماعاتالوظيفية اليهودية في العصور الوسطى في الغرب. وبغض النظر عن سذاجة الأسطورة، فإنسلوك المجتمع الغربي في العصور الوسطى كان يفترض هذه العلاقة. ففي حالة قتل أحداليهود، لم تكن الدّية تُدفَع لأسرة القتيل وإنما للإمبراطور أو الملك. كما كانتالمواثيق تتحدث عن أعضاء الجماعات اليهودية باعتبارهم أشياء تخص الملك ومن ميراثهومنقولاته.
وقد أشار أجوس إلى أهم تجارب اليهود (المملوكية) في أوكرانيا. ومن المعروف أن ملوك بولندا لم ينجحوا في تجنيد البورجوازية في عملية تقليم أظافرطبقة النبلاء وتأسيس ملكية مطلقة كما حدث في باقي بلدان أوربا. بل حدث العكس، إذاستخدم النبلاء أعضاء الجماعة اليهودية أداةً لضرب البورجوازية وإضعاف مؤسسةالملكيَّـة. وحينما ضمت بولندا أوكرانيا، اضطر النبلاء إلى إرسال أعضاء الجماعةاليهودية ليضطلعوا بدور الجماعة الوظيفية الاستيطانية المالية في إطار ما نسميه «الإقطاع الاستيطاني»، فكان أحد أثرياء اليهود يستأجر الضيعة بكل ما علىها ويدفعمبلغاً للنبيل الإقطاعي (البولندي الكاثوليكي) ثم يقوم هو بإدارتها وتحصيل عوائدها (الأرندا)، وعادةً ما كان يُحضر أعضاء أسرته وذوي قرابته ويعيشون في مدن صغيرةأسسها لهم النبيل الإقطاعي تُسمَّى «شتتل». وكان للوكيل اليهودي صلاحيات تقترب منصلاحيات النبيل الإقطاعي، كما كان يتدخل في كل النشاطات التجارية والحرفية وغيرهاليُوظفها لحسابه وليعتصر من دخل الفلاحين. فكان يفرض ضريبة على الملح وعلى المركباتوحتى على مفتاح الكنيسة، فإن أراد الفلاحون المسيحيون الأرثوذكس فتح الكنيسة كانعلىهم دفع ضريبة للوكيل اليهودي .

وكان الموقف متفجراً تماماً، ولذا كانتتحمي الجماعة اليهودية الوظيفية الاستيطانية المالية جماعة أخرى وظيفية استيطانيةقتالية هي الجيش البولندي، أي أننا هنا أمام مثل جيد لمماليك مالية لا ينقصها سوىالسيف لتصبح مماليك قتالية. بل إن ملامح تحول الجماعة الاستيطانية المالية إلىجماعة استيطانية قتالية كان قد بدأ يتضح، ولذلك كانت المعابد تُبنَى كالحصون (ولهذاكان يُطلَق عليها «القلعة/المعبد» (بالإنجليزية: فورتريس سيناجوج fortress synagogue) وتُفتح في جدرانها كوات لإطلاق نيران المدافع وتُنصب فوقها البنادق. وقدنص القانون على أن كل رب عائلة من عائـلات يهود الأرنـدا يتعـيَّن عليه أن يحتفـظببنادق بعدد الذكور وثلاثة أرطال من خراطيش البارود. وقد حاربوا في نهاية الأمر إلىجوار القوات البولندية ضد شميلنكي والقوزاق. ومما يجدر ذكره أن يهود بولندا يشكلونغالبية يهود العالم، بل هناك نظرية تذهب إلى أن جميع يهود الغرب من نسل هؤلاء لا مننسل اليهود الأصليين في معظم بلاد الغرب الذين تم استيعابهم فيمجتمعاتهم.