احتكار دور الضحية (من المسئول ومن الضحـية؟(
Monopolizing the Role of the Victim ,Who is to Blame and Who is the Victim
من الأسئلة التي تثار دائماً في دراسة تواريخ الجماعات اليهودية محاولة تحديد المسئولية عما حدث لليهود عبر التاريخ، وهل هم المسئولون عن العنف الذي يحيق بهم، أم أنهم ضحية لهذا العنف؟ فيقول الصهاينة إن اليهود هم دائماً الضحية وأنهم تم طردهم من بلد لآخر واضطهادهم دون سبب واضح ودون رحمة أو شفقة. بل يحاول الصهاينة في كثير من الأحيان تضخيم دور اليهود كضحية بحيث يحتكرون هذا الدور ويبذلون قصارى جهدهم في إنكار هذا الدور على الآخرين. ولذا حينما يحاول أحد المؤرخين أن يبيِّن أن عدد البولنديين الذين أبيدوا على يد النازيين يفوق عدد من أُبيد من أعضاء الجماعات اليهودية وأن نسبة من أبيد من الغجر أعلى من نسبة من أبيد من اليهود فإن الصهاينة يثيرون صخباً وضجيجاً بشكل ممجوج ومبتذل. وقد استمر تضخيم دور اليهود كضحية حتى أصبح الشعب اليهودي يعادل المسيح المصلوب في بعض مدارس الفكر الديني اليهودي الحديث. ويحاول الصهاينة توظيف دور اليهود كضحية في خدمة مشروعهم السياسي الاستعماري، فيطالبون ألمانيا بأن تدفع بلايين الدولارات تعويضاً لليهود عما وقع لهم من مذابح، بل يصبح احتلال فلسطين وطرد سكانها منها مجرد تعويض عما حاق باليهود من أذى على يد النازيين!
وقد ركَّز المدعي العام الإسرائيلي إبان محاكمة أيخمان على هذه القضية، وعلى دور اليهود كضحية أزلية، عبر الزمان والمكان. وقد كان رد محامي الدفاع على أطروحة المدعي العام ذكياً للغاية، فقد تساءل عن هذا الشعب الذي يضطهده الجميع في كل زمان ومكان، ألا يمكن أن يكون هو المسئول عما يحدث له؟ وقد أصيبت قاعة المحكمة بالذهول حين طرحت القضية على هذا النحو غير المتوقع. ويجيب المعادون لليهود على هذا السؤال بالإيجاب قائلين: « نعم إن اليهود هم ولا شك المسئولون ».
وكل من الطرحين الصهيوني والمعادي لليهود يتسم بعدم إدراك لتركيبية الظواهر الاجتماعية، فسؤال من المسئول ومن الضحية يفترض أن الظواهر الاجتماعية في جميع جوانبها نتاج وعي الإنسان وإرادته، مع أن هناك جوانب كثيرة في الواقع تتشكل خارج إرادة الإنسان ووعيه، بل تؤثر في وعيه أحياناً دون إدراكه. فاشتغال اليهود بالربا داخل سياق الحضارة الغربية حوَّلهم إلى مستغلين للجماهير ولكنهم أصبحوا كذلك لا بقرار واع منهم أو من النخب الحاكمة الأوربية وإنما نتيجة مركب من الأسباب.
ويُلاحَظ أحياناً أن كثيراً من ظواهر العنف في التاريخ نتيجة مسئولية مشتركة بين من مارس العنف ومن وقع ضحيته. وقد ميَّز مالك بن نبي بين الاستعمار والقابلية للاستعمار. فالاستعمار ظاهرة عنف واستغلال لا مراء في هذا، ولكنه يتحوَّل إلى حقيقة لا من خلال عنف الإمبريالية وحسب وإنما من خلال ضحية هذا العنف، التي تتصف بالقابليـة للاستعمار. ويمكن أن نطبق هذا المنطق على أعضاء الجماعات اليهودية في الحضارة الغربية.
وأخيراً يمكن القول بأن طرح سؤال: من المسئول ومن الضحية؟ تحوِّل دراسة التاريخ إلى محاكمة تسبق الفهم وتؤدي إلى شكل من أشكال الاختزال والاستقطاب الذي يُسقط كثيراً من العناصر التي أشرنا لها من قبل.
التفســـــير الحرفــــي
Literalist Interpretation
«الحرفية» في التفسير هي أن يصر المؤمن بكتاب مقدَّس على أن نصوص هذا الكتاب معناها واضح وبسيط ويحمل رسالة مباشرة صريحة (مثل القاعدة العلمية أو اللغة الجبرية) يمكن التوصل إليها مباشرةً دون اجتهاد كبير أو إعمال عقل، ولذا لابد من التمسك بحرفية النص. وعادةً ما يؤمن الحرفيون بأن ما جاء في كتابهم المقدَّس يتحقق حرفياً في الواقع الإنساني والتاريخي والمادي، وأن الأحداث التاريخية والحقائق العلمية تتفق تماماً مع ما جاء في النص المقدَّس. كما أنهم يرون أن المجاز في الكتاب المقدَّس ليس مجازاً دائماً وإنما واقع حقيقي مادي. وبهذا المعنى نجد أن التفسير الحرفي لا يختزل الواقع وحسب ولا النص المقدَّس وحسب وإنما كليهما، فهو يلغي المسافة بينهما تماماً ويلغي ثنائية النص والواقع فيختزل الواقع المادي للنص المقدَّس (المتجاوز للعالم المادي) كما يختزل النص المقدَّس للواقع المادي، وتزداد الدائرة ضيقاً واتساعاً حسب أهواء المفسر. هذا على عكس الأصولية، وهي العودة إلى الأصول الأولى كما تتبدَّى في النصوص المقدَّسة وفي ممارسات الأولين والصالحين واجتهادات الفقهاء، وهذه الأصول بمنزلة الكل الذي ينتظم الأجزاء جميعاً، وهي بمنزلة الجذر الذي تتفرع عنـه كـل الاجتهادات، وهي القيمـة الحاكمة والركيزة النهائية للنسق الديني. وهذه الأصول، لأنها « الكل » و« الجذر» و« القيمة الحاكمة »، تشكل الإطار العام لعملية اجتهاد مستمرة في كل عصر يقوم بها عقل المؤمن المفسِّر المجتهد بالعودة إلى النص المقدَّس وفي إطار مرجعيته. وهذا يعني أن الاجتهادات التي يصل إليها الإنسان ليست هي نفسها النص المقدَّس (رغم أنه يظل المرجعية النهائية) وإنما تتراوح في قربها وبعدها عنه، ومن هنا ضرورة تجديد الاجتهاد، الذي ينطلق من النص ويعود إليه.
والتفسير الحرفي يستند إلى نموذج معرفي كامن ، فالنص المقدَّس ليس كلام الإله الذي تم التعبير عنه من خلال لغة مجازية مركبة تشير إلى المطلقات المتجاوزة الأمر الذي يعني انفصال الدال (المحسـوس) عن المدلول (المتجاوز) وإنما هو تَجسُّد مبـاشر للإله في العالم، بل هو الإله نفسه، وهو ما يعني اندماج الدال (المحسوس) بالمدلول (المتجاوز) واختفاء المسافة بينهما. وهذا يعني في واقع الأمر إنكار ثنائية المخلوق والخالق وثنائية الدال والمدلول وثنائية النص والواقع الأمر الذي يعني محو ثنائية المطلق والنسبي والتاريخي والأزلي. وإنكار مجازية اللغة تعني في واقع الأمر إنكار تَنزُّه الإله عن العالم ومحاولة فرض الواحدية عليه، ولذا يصبح التاريخ المقدَّس الذي ورد في الكتاب المقدَّس تصوُّراً مادياً مباشراً (صورة طبق الأصل من الواقع) آخذاً في التحقق الآن (ولذا لا يمكن الاجتهاد في التفسير)، وكل ما ورد في النص المقدَّس يتحقق حرفياً في الواقع التاريخي والطبيعي، ولذا فالتاريخ المقدَّس (المطلق) يصبح التاريخ الإنساني (النسبي)، والحقائق التي وردت في النص المقدَّس تصبح حقائق علمية، وكلام الإله المتجاوز يصبح قوانين الحركة.
ورغم الاختلاف الظاهر للتفسير الإشراقي عن التفسير الحرفي فإن ثمة تلاقياً بينهما على مستوى النموذج الكامن. فالمفسر الحرفي يجتزيء فقرة ما من النص المقدَّس ويعزلها عن النموذج الكامن فيها والرؤية العـامة، ثم يلوي بعـد ذلك عنق النص ويوظفه بالطريقة التي تعن له، أي أنه يفرض عليه أي معنى، إذ أن المفسر الحرفي قد تحرَّر تماماً من القيود الأخرى التي يفرضها عليه النص المقدَّس من خلال معناه الكلي فيرى أن هذه الفقرة نبوءة بهذه الحادثة التاريخية وهذه الجملة صياغة لقانون طبيعي تم اكتشافه مؤخراً. وهذا لا يختلف كثيراً عن التفسير الباطني، فالمفسر الباطني يفرض أيضاً على النص المقدَّس المعنى الذي يراه. وإذا كان المفسر الحرفي يجتزيء فقرة واحدة ويؤسس رؤيته عليها، فالمفسر الإشراقي يأخذ كلمة واحدة ويكتشف معناها الرقمي ويستخلص منه المعنى « الحقيقي».
وقد يُقال إن المفسر الحرفي لا يكتفي بحرفية النص وإنما يذهب إلى الواقع التاريخي أو العلمي ومن ثم فهو لا يفرض رؤيته هو. ولكن ما يحدث هنا أن المفسر الحرفي يتأرجح بين التمركز حول الموضوع والتمركز حول الذات (على عكس المفسر الباطني المتمركز تماماً حول الذات). وقد بيَّنا الاتفاق بين الحرفي والباطني في التمركز حول الذات. أما التمركز حول الموضوع فيأخذ شكل أن النص المقدَّس يكتسب مصداقيته من تطابقه مع الحوادث التاريخية أو الحقائق العلمية، فكأن المرجعية النهائية هنا هي الواقع التاريخي الزمني أو العلمي وليس النص المقدَّس. والطريف أنه نتيجةً لذلك تتم محاكمة النص المقدَّس من منظور الواقع، وليس محاكمة الواقع المادي من منظور النص المقدَّس.
ويمكن القول بأن ثمة متصلاً في أقصى جانبيه التفسير المادي الذي ينكر ثنائية الروح والمادة ويمحوها لحساب المادة ويدور في إطار الواحدية المادية، وفي الجانب الآخر التفسير الإشراقي الذي ينكر هو الآخر ثنائية الروح والمادة ويمحوها لحساب الروح ويدور في إطار الواحدية الروحية. أما التفسير الحرفي فيقف بينهما فهو تفسير واحدي مثلهما ولكنه يتأرجح بين القول بأن النص المقدَّس (كعبارات وفقرات بسيطة) يحوي حوادث التاريخ والقوانين الطبيعية، ولذا يمكن فهمها بالعودة للنص، ولكنه يقول أيضاً إن النص يتطابق مع الواقع (التاريخي والطبيعي) ومن ثم يمكن الوصول إلى معنى الكتاب المقدَّس بالعودة لحوادث التاريخ والقوانين الطبيعية. وهذا التأرجح هو الذي يسم العقل الغربي منذ عصر النهضة وقد اكتشفه إسبينوزا الذي توصل إلى أنه داخل المنظومة الحلولية الكمونية يمكن أن تكون وحدة الوجود الروحية هي وحدة الوجود المادية، وأن الإله هو الطبيعة. وما يحدث هو أن التأرجح يستمر بعض الوقت ويتزايد الإيمان بتطابق النص المقدَّس مع الواقع التاريخي والطبيعي. وبالتدريج ينتقل الاهتمام من النص المقدَّس إلى الواقع الذي يصبح مكتفياً بذاته. وبذا ننتقل من التأرجح بين وحدة الوجود الروحية ووحـدة الوجـود المادية إلى وحـدة الوجـود المادية أي العلـمانية الشاملة. ولذا يمكن القول بأن انتشار التفسيرات الحرفية يصلح مؤشراً على تصاعد معدلات العلمنة. وعندنا ما يساند مثل هذه الأطروحة في تاريخ الحضارة الغربية، فعصر النهضة وظهور الرؤية المعرفية العلمانية الإمبريالية هو أيضاً عصر ظهور الحركات الشعبوية الحلولية والتفسيرات الحرفية.
والتفسـيرات الحـرفية تفسـيرات ديمـوقراطية، لأنهـا بالغة السهولة. إذ يفتح المفسر النص المقدَّس ويأخذ منه سطراً أو سطرين ويفسرهما بطريقة مباشرة، ولذا نجد أن الحركات الثورية الشعبية ذات الطابع المشيحاني الحلولي الكموني عادةً ما تكون تربة خصبة لظهور التفسيرات الحرفية للنصوص المقدَّسة والتنبؤات التي ترى أنه سيحدث تجسد كامل وفجائي للإله في التاريخ الإنساني (فيعود المركز إلى داخل النموذج) وتمتلئ الدنيا عدلاً بعد أن امتلأت جوراً وتنتهي كل الآلام، ويتوقف التاريخ البشري باعتباره مجال الحرية والجبر والانتصار والانكسار ويصل إلى نهايته السعيدة (نهاية التاريخ).
والعقيدة الألفية الاسترجاعية في التراث المسيحي واليهودي مثل جيد على ذلك. فهي عقيدة فسرت بعض الإشارات العابرة التي وردت في العهد القديم تفسيراً حرفياً ومنحتها مركزية مطلقة. وقد حاولت الكاثوليكية واليهودية الحاخامية تهدئة النزعة المشيحانية عن طريق وضع بعض الحدود على مسألة حلول المركز في النموذج وحلول الإله في التاريخ وهو ما يؤدي إلى تصفية الثنائيات وظهور التفسيرات الحرفية المادية. ولذا، طرحت التفسيرات المجازية وأكدت ضرورة البُعد عن التفسيرات الحرفية. فصهيون بالنسبة للكاثوليكية واليهودية الحاخامية فكرة مثالية (مدينة الإله - أرض الماشيَّح) التي تتعلق بها الأفئدة والضمائر وتتطلع للعودة إليها في آخر الزمان خارج التاريخ بأمر الإله ولا علاقة لها بالمنطقة الجغرافية التي تُسمَّى فلسطين ولا بالزمان الإنساني، والشعب المختار جماعة من المؤمنين تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر.
والبروتستانتية المتطرفة والصهيونية ذات الديباجة المسيحية والديباجة اليهودية تتبعان منهجاً حرفياً لا أصولياً. فالجماعات البروتستانتية المتطرفة جماعات تقدم تفسيرات حرفية للعهد القديم تختلف تماماً عن التفسيرات المجازية والرمزية التي كانت تطرحها الكنيسـة الكاثوليكية. ومن هنا الطبيعـة الثورية المبدئية للتفسيرات الحرفية، فبإمكان المفسر الحرفي البسيط أن يتجاوز التفسيرات المؤسـسية المركبة السـائدة. ولكن ما يحـدث أنه بعد المرحلة الثورية المبدئية، تظهر الطبيعة الرجعية المحافظة للتفسيرات الحرفية، فهي تجعـل الواقع المبـاشر، الزماني والمكاني، مرجعـيتها الوحيدة ولا تتجاوزه، فالجماعات التي يُقال لها مسيحية أصولية في الولايات المتحدة، هي في واقع الأمر جماعات حرفية، تدافع عن القيم المسيحية وعن تماسك الأسرة ومع هذا تساند اقتصاديات السوق الحر، بل سياسات أمريكا الخارجية والدولة الصهيونية. وهذا يدل على سذاجة الحرفيين، ويبيِّن مدى ارتباط رؤيتهم بالواقع الذي يرفضونه ومدى اعتمادهم عليه وعجزهم عن تجاوزه. فالاقتصاد الحر أكبر آلية لتقويض كل القيم، مسيحية كانت أم إنسانية، والدولة الصهيونية لا تلتزم بأية معايير دينية أو أخلاقية أو إنسانية. والجماعات اليهودية الصهيونية ترفض هي الأخرى التفسيرات المجازية التي طرحتها اليهودية الحاخامية لتحل محلها تفسيرات حرفية. فبدلاً من «صهيون» مدينة الإله، تظهر « فلسطين » باعتبارها موقعاً جغرافياً يصلح للاستيطان، ويتحول الشعب المختار إلى شعب بالمعنى البيولوجي الحرفي، وتصبح العودة لا عودةً خارج التاريخ بعد انتهاء الزمان وإنما عودةً فعلية وحرفية للشعب اليهودي إلى فلسطين كجماعة استيطانية في أول فرصة تسنح له (وحينما تسمح له قوته العسكرية بذلك وحسب إجراءات علمية مادية صارمة).
ويُلاحَظ ترابُط التفسير الحرفي للعهد القديم والبُعد العسكري، وهذا أمر متوقع فحين تتحـول صهـيون إلى فلسـطين (ثم تصبح إسرائيل)، فلا مناص من وضع الرؤية الصهيونية الحرفية موضع التنفيذ من خلال العنف العسكري. ولعل حروب الفرنجة أول تطبيق عملي لهذه الحرفية.
ويمكننا أن نقول إن معظم الحركات الشمولية اليمينية واليسارية حركات حرفية، فهي حركات لها كتبها المقدَّسة (أعمال هتلر ـ كتابات ماركس ـ كتابات لينين) التي تحتوي على كل ما يلزم للتعامل مع الواقع المادي (فثمة تطابق كامل بين النص المقدَّس وهذا الواقع) وإن حدث أن اختلف الواقع عما جاء في النص المقدَّس فيتم إصلاح الواقع فيتفق مع حرفية النص.
وحينما نستخدم كلمة «أصولية» فنحن عادةً ما نردفها بكلمة «حرفية» حتى نفرق بين هذه الحرفية والأصولية الحقة التي تصدر عن الإيمان بأن الإله متجاوز، وأن العالم المادي ليس البداية والنهاية، وأن مركز العالم ليس كامناً في المادة. ولذا، فإن ثمة ثنائية لا يمكن تصفيتها تجعل التفسيرات الحرفية أو الباطنية أو المادية الواحدية تعجز عن تفسير عالم مركب، فهي تعبير عن الرغبة الرحمية الكمونية في الهروب من التركيب والثنائيات الفضفاضة.
المفضلات