تكريس النزعات الانفصالية:
لكن وجود هذه المدارس أشعل الأضواء الحمراء لدى الكثير من النخب في الدولة العبرية التي باتت ترى في هذه المدارس تهديداً للنظام الديموقراطي الإسرائيلي ونقطة انطلاق لتشجيع النزعات الانفصالية عن الدولة.
ففي النظم الديموقراطية ينحصر دور المستوى العسكري فقط في تنفيذ السياسات التي تقررها الحكومات التي تفرزها الانتخابات. ويعد عدم التزام العسكر بتعليمات الحكومة تقويضاً عملياً لتلك الديموقراطية. هنا يكمن الخطر في تبوؤ المتدينين للمواقع القيادية في الجيش، الذي تضمنه لهم " يشيفوت ههسدير ".
فالقائد والجندي المتدين في الجيش الإسرائيلي قد تمت تربيته على أنه عندما يفرض عليه الاختيار بين تنفيذ الأوامر العسكرية الصادرة عن قيادته وحكومته المنتخبة، وتعليمات مرجعياته الروحية، فأنه لا يتردد في تلبية تعليمات المرجعيات الدينية.
ولعل المثال الأكثر وضوحاً على ذلك هو ما قاله الجنرال يسرائيل فايس كبير حاخامات الجيش الذي قال مؤخراً أنه يفضل خلع بزته العسكرية على تنفيذ أي أمر يصدر عن قيادة الجيش ويتعارض مع تعليمات الحاخام ابراهام شابيرا، ثاني أهم مرجعية روحية للتيار الديني الصهيوني.
المفارقة أن مدراء " يشيفوت ههسدير " من الحاخامات الذين يحرصون على تذكير طلابهم الذين يعدونهم لقيادة الجيش والدولة أنه لا مصدر أكثر قدسية من تعليمات التوراة والكتب المقدسة اليهودية، وأن أي تعليمات تصدرها قيادة الدولة يجب أن تفقد شرعيتها في حال تعارضت مع تعاليم الدين التي تحتكر المرجعيات الروحية للتيار الديني الصهيوني الحق في تفسيرها.
فمثلاً جميع المرجعيات الروحية للصهيونية الدينية دعت اتباعها من القادة والجنود الى رفض تعليمات قيادة الجيش بالمشاركة في تنفيذ خطة " فك الارتباط ".
ولعل الذي يعكس صدقية المخاوف من تأثير وجود هذه المدارس الكبير هو حقيقة أن معظم الذين شاركوا في الاحتجاجات ضد عمليات اخلاء المستوطنات هم من طلاب وخريجي المدارس الدينية العسكرية. ليس هذا، بل أن حاخاماً بحجم ابراهام شابيرا دعا اتباعه من طلاب المدارس الدينية العسكرية للانشقاق عن الجيش في حال تمت تنفيذ خطة " فك الارتباط ".
بعض حاخامات الصهيونية الدينية من الذين يديرون بعض المدارس الدينية العسكرية دعوا طلابهم واتباعهم الى اطلاق النار على افراد الأمن الإسرائيلي الذين يشاركون في اخلاء المستوطنات، كما أفتى الحاخام حاييم دروكمان الذي هو نفسه مديراً لاحدى " يشيفوت ههسدير " في منطقة الخليل.
وحسب استطلاع لآراء الضباط والجنود المتدينين أشرف عليه مركز هرتسليا متعدد الاتجاهات ونشر العام الماضي، تبين أن أكثر من 95% من الجنود والضباط المتدينين يرون أنهم سينفذون تعليمات الحكومة المنتخبة وقيادتهم في الجيش، فقط في حال توافقت مع الفتاوى التي يصدرها كبار الحاخامات والمرجعيات الدينية. وكما يقول الجنرال شلومو غزيت، رئيس شعبة الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية سابقاً فأنه " لا يختلف اثنان في اسرائيل على أن الجندي المتدين الذي يتخرج من المدارس الدينية العسكرية يرى في الحاخام الذي يدرسه أو يدير المدرسة التي يتعلم فيها هو قائده الأعلى وليس قائده العسكري ".
من هنا فقد كان تحذير رئيس " الموساد " الأسبق الجنرال داني ياتوم واضحاً وقاطعاً، فإمكانية أن يحدث انقلاب عسكري على الحكومات المنتخبة في إسرائيل أصبحت أمراً وارداً بسبب التثقيف التي تمنحه المدارس الدينية العسكرية لطلابها الذين يتجهون بقوة تبوء المواقع القيادية في الجيش.
وإن كان مثل هذا السيناريو ظل ينظر اليه في إسرائيل حتى وقت قريب على أنه محض خيال، فأن المخاوف على استقرار النظام السياسي بسبب اندفاع المتدينين الصهاينة نحو المواقع القيادية في الجيش أصبحت حديث الساعة في الدولة العبرية. فإلى جانب ياتوم فأن هناك عدداً كبيراً من الجنرالات المتقاعدين والساسة، فضلاً عن الباحثين والصحافيين من يرى في تغلغل طلاب المدارس الدينية العسكرية من اتباع التيار الديني الصهيوني الواسع في الجيش أكبر خطر يهدد النظام " الديموقراطي " في الدولة العبرية، لدرجة أن هناك من دعا الى التوقف عن استيعاب المتدينيين الصهاينة في الوحدات القتالية، وسد الطريق أمام تبوؤهم المراكز القيادية في الجيش.
ويضيف ياتوم " قبل عامين كنت أعتقد أن هذا السيناريو وهم وخيال، لكنه أصبح واقعيًا في ضوء الأحداث الأخيرة التي نشهد فيها مظاهر العصيان في الجيش ، و التشكيك في شرعية الحكومة والبرلمان " من قبل حاخامات الصهيونية الدينية، وتحديداً الذين يديرون المدارس العسكرية الدينية.
ويرى المفكر الصهيوني بامبي شيلغ أن الغرور أعمى أتباع التيار الديني الصهيوني من خريجي وطلاب المدارس العسكرية الدينية بحيث لم يعودوا يستسيغون أن يتم حسم القرارات المصيرية للدولة خارج عباءة رجال الدين.
ويصل شيلغ الى القول أن هذا الغرور قد أدى الى ظهور النزعات الانفصالية لهذا التيار عن الدولة ومؤسساتها.
ويصل الكاتب يارون لندن الى نفس النتيجة محذراً من تفاقم النزعات الانفصالية لدى التيار الصهيوني الديني. اللافت للنظر، أنه وعلى الرغم من تحذير النخب العلمانية من خطورة المدارس الدينية العسكرية، والحاخامات الذين يديرونها على النظام الديموقراطي في الدولة، إلا أن مؤسسات حفظ القانون والنظام في الدولة العبرية لم تحاول ولو مرة واحدة التعرض لهؤلاء الحاخاما أو مساءلتهم عن هذا التحريض العنصري الذي لا يوازيه تحريض.
يس هذا فحسب، بل أن الحاخامات المتورطين في هذا التحريض يحظون بثقل متزايد في السياسة الاسرائيلية، ويتنافس صناع القرار السياسي في الدولة العبرية على استرضائهم والتقرب منهم، والتزلف اليهم.
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: لماذا هذا الصمت ازاء هذه الفتاوى القاتلة، ولماذا الكيل بمكيالين؟.
الذي يثير المرارة أن أحداً في العالم العربي لم يحاول الاهتمام بما يصدر عن المرجعيات الدينية الكبرى في الدولة العبرية من فتاوى ويحاول اطلاع الرأي العام والعربي و العالمي على هذا التثقيف على الحقد الأعمى في المدارس الدينية العسكرية التي تمثل نبع الآسن من الكراهية.
خلاصة
لا شك أن المعطيات السابقة يجب أن تشعل الأضواء الحمراء لدى دوائر صنع القرار في العالم العربي، أن كان هناك ثمة من يلقي بالاً لما يحدث في إسرائيل. فعسكرة التعليم في إسرائيل و تبوؤ المتدينين المراكز القيادية في الجيش سيؤثر مستقبلاً بشكل كبير على طابع العلاقات بين اسرائيل مع العالم العربي. فالجيش الذي سيكون تحت قيادة المتدينين هو غير الجيش الحالي، على الرغم من أن معظم القادة الحاليين ذوي نزعات عنصرية متطرفة. الجيش الاسرائيلي تحت قيادة المتدينين سيدفع الحكومة الى سياسات أكثر تصادماً مع العالم العربي، فضلاً عن أنه سيتجاهل مظاهر الغزل التي تبديها أنظمة الحكم العربية تجاه الدولة العبرية، وذلك بفعل تأثرهم الشديد بالأفكار الخلاصوية التي توغل في نفيها للآخر العربي وازدرائه.
المراجع:
1-امنون ليفي، " المتدينون الجدد "، ماجناس، تل ابيب، 1992.
2- ايلي بودايا ، الصراع في كتب التاريخ المدرسية العبرية "، المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية: رام الله، 2005.
3- داني ياهف، " ما أروع هذه الحرب "، المركز الفلسطيني للدراسات الاسرائيلية: رام الله، 2006.
4-مجلة قضايا اسرائيلية، السنة الاولى، العدد 3، صيف 2001.
5-مجلة قضايا اسرائيلية، السنة الثانية، العدد 8، خريف 2002.
6-معاريف 24/3/2005.
7-معاريف 16/6/2003.
8-يديعوت احرونوت 5/7/2002