محمد نجيب.. حلم مصر الذي لم يكتمل

السيد حامد















دخل الابن علي أبيه وسأله في اهتمام شديد :
- أبي هل صحيح أنك كنت رئيسا للجمهورية؟

تعجب الأب للسؤال لكنه داعب الابن وقال له :
- نعم يا بني .. لكن ما الذي جعلك تسأل هذا السؤال؟
ولمح الأب دموعا حائرة في عيني الصبي وهو يقدم له كتابا في المطالعة جاءت فيه هذه العبارة :
"وجمال عبد الناصر هو أول رئيس لمصر"

دائما ما يركز الإعلام المصري في احتفالاته بثورة يوليو 1952 علي دور تنظيم الضباط الأحرار وإنجازات الرئيس الراحل جمال عبدالناصر، وفي اعياد أكتوبر توضع أكاليل الزهور على قبري الرئيسين الراحلين جمال عبدالناصر وأنور السادات بينما يتم تجاهل اسم اللواء محمد نجيب أو قبره ،وفي كتب التعليم المصرية يختفي اسم نجيب إلا من صورة صغيرة مكتوب تحتها " أول رئيس لمصر ".
ونقلب معا صفحات من مذكرات محمد نجيب " كنت رئيسا لمصر" ، كتاب الصحفي محمد ثروت "الأوراق السرية لمحمد نجيب" ، وأخيرا كتاب ثروت عكاشة بعنوان "مذكراتي في السياسة والثقافة " .. في محاولة لمعرفة أسباب الإصرار على التنكر لإنجازات الزعيم الراحل محمد نجيب في حياة مصر السياسية.

الجذور الأولي
من كتاب " كنت رئيسا لمصر" نقرأ سيرة اللواء محمد نجيب الذي ولد بقرية النحارية بمركز كفر الزيات محافظة الغربية , أسمه بالكامل محمد نجيب يوسف نجيب قطب قشلان, بدأ والده يوسف نجيب حياته مزارعا في قريته ثم التحق بالمدرسة الحربية وتفوق فيها, وبعد تخرجه شارك في حملات استرجاع السودان 1898, تزوج يوسف نجيب من سودانية وأنجب منها ابنه الأول عباس لكنها توفيت, فتزوج من السيدة "زهرة" ابنة الأميرالاي محمد بك عثمان في عام 1900, والأميرالاي محمد هو ضابط مصري تعيش أسرته في أم درمان واستشهد في أحدي المعارك ضد الثورة المهدية, وقد أنجب يوسف من السيدة زهرة ثلاثة أبناء هم محمد نجيب و علي نجيب ومحمود نجيب, وأنجب أيضا ستة بنات .



عندما بلغ محمد نجيب 13 عاما توفي والده, تاركا وراءه أسرة مكونة من عشرة أفراد , فأحس نجيب بالمسئولية مبكرا , ولم يكن أمامه إلا الاجتهاد في كلية جوردن حتي يتخرج سريعا.
عُرف عن محمد نجيب منذ صغره باعتزازه بنفسه وحبه لوطنه, يقول نجيب : " كنت طالبا في السنة الثانية بالكلية 1914 وجاء المستر سمبسون , مدرس اللغة الانجليزية , ليملي علينا قطعة إملاء جاء فيها : أن مصر يحكمها البريطانيون , فلم يعجبني ذلك .. وتوقفت عن الكتابة .. ونهضت واقفا ..وقلت له : لا يا سيدي ..مصر تحتلها بريطانيا فقط ولكنها مستقلة داخليا وتابعه لتركيا.. فثار المدرس الانجليزي وغضب وأصر علي أن اذهب أمامه إلي مكتبه وأمر بجلدي عشر جلدات علي ظهري واستسلمت للعقوبة المؤلمة دون أن أتحرك أو أفتح فمي"
بعد أن تخرج محمد نجيب في الكلية التحق بمعهد الأبحاث الاستوائية لكي يتدرب علي الآلة الكاتبة تمهيدا للعمل كمترجم براتب ثلاثة جنيهات شهريا, وبعد التخرج لم يقتنع نجيب بما حققه وأصر علي دخول الكلية الحربية في القاهرة.

،، الدرس الذي تعلمه من النحاس
باشا هو فصل السلطات ،،
بالفعل التحق محمد نجيب بالكلية الحربية ونجح فيها بتفوق, وعلي الفور سافر إلي الخرطوم ليبدأ حياته كضابط في الجيش المصري . كان ذلك في 19 فبراير 1918, وكان عمره وقتها 17 عاما فقط, ومع قيام ثورة 1919 يصر نجيب علي المشاركة فيها علي الرغم من مخالفة ذلك لقواعد الجيش, فيسافر إلي القاهرة ويجلس علي سلالم بيت الأمة حاملا علم مصر وبجواره مجموعة من الضباط الصغار.
في عام 1927 كان محمد نجيب أول ضابط في الجيش المصري يحصل على ليسانس الحقوق، وفي عام 1929 تعلم محمد نجيب درسا من النحاس باشا, فقد أصدر الملك فؤاد قراره بحل البرلمان -لأن أغلبية أعضائه كانوا من حزب الوفد الذي كان دائم الاصطدام بالملك- فتخفى محمد نجيب في ملابس خادم نوبي، وقفز فوق سطح منزل مصطفى النحاس باشا، وعرض عليه تدخل الجيش لإجبار الملك على احترام رأي الشعب، لكن النحاس قال له : أنأ أفضل أن يكون الجيش بعيدا عن السياسة, ,أن تكون الأمة هي مصدر السلطات,,,كان درسا هاما تعلم من خلاله محمد نجيب الكثير حول ضرورة فصل السلطات واحترام الحياة النيابية الديمقراطية، وهو الدرس الذي أراد تطبيقه بعد ذلك عام 1954

حرب 1948
تعد حرب 1948 بين الجيش العربي والإسرائيلي بداية معرفة محمد نجيب علي المستوي الشعبي , وعلي مستوي الجيش المصري, أصيب نجيب في هذه الحرب 7 مرات لم يسجل منها سوي ثلاثة إصابات خطيرة , وأخطرها الإصابة الثالثة الأخيرة في معركة التبة 86 حيث أصيب نجيب برصاصات أثناء محاولته إنقاذ أحد جنوده الذي كانت قد تعطلت دباباته, كانت الإصابة شديدة حيث استقرت علي بعد عدة سنتيمترات من قلبه, وحينما اختبأ نجيب خلف شجرة وجد الدم يتفجر من صدره , وكتب نجيب وصيه لأولاده قال فيها " تذكروا يا أبنائي أن أبيكم مات بشرف ..وكانت رغبته الأخيرة أن ينتقم من الهزيمة في فلسطين ويجاهد لوحدة وادي النيل"

،، اعتقد الأطباء أن نجيب
استشهد أثناء حرب 1948،،
وعندما تم نقل نجيب إلي المستشفي اعتقد الأطباء أنه استشهد, ودخل اليوزباشي صلاح شقيق البطل أحمد عبد العزيز لإلقاء نظرة الوادع علي جسد الشهيد فنزع الغطاء وسقطت دمعة علي وجه نجيب وتحققت المعجزة فقد تحركت عيناه فجأة فأدرك الأطباء أنه لا يزال علي قيد الحياة وأسرعوا بإسعافه, وحصل نجيب علي نجمة فؤاد العسكرية الأولي تقديرا لشجاعته في هذه الحرب فقد كان أول ضابط مصري يقود ما يربو علي الفيلق.



بعد الحرب عاد نجيب إلي القاهرة قائدا لمدرسة الضباط العظام, وتيقن أن العدو الرئيسي ليس في فلسطين وإنما الفساد الذي ينخر كالسوس في مصر والذي كان يتمثل في الملك وكبار الضباط والحاشية والإقطاع, وكان نجيب يردد دائما أن المعركة الحقيقة في مصر وليست في فلسطين , و لا يتردد أن يقول هذا الكلام أمام من يثق فيهم من الضباط, وفي فترة من الفترات كان الصاغ عبد الحكيم عامر أركان حرب للواء نجيب, ويبدو أن كلام نجيب عن الفساد في القاهرة قد أثر فيه فذهب إلي صديقه عبد الناصر وقال له كما روي عامر لنجيب بعد ذلك : لقد عثرت في اللواء نجيب علي كنز عظيم.
كان عبد الناصر قد شكل تنظيم الضباط الأحرار, وأراد أن يقود التنظيم أحد الضباط الكبار لكي يحصل التنظيم علي تأييد باقي الضباط, وبالفعل عرض عبد الناصر الأمر علي نجيب فوافق علي الفور... ونسجل هنا شهادة ثروت عكاشة – أحد الضباط الأحرار- عن نجيب كما جاءت في كتابه "مذكراتي بين السياسة والثقافة": " كان اللواء محمد نجيب رحمه الله أحد قادة الجيش المرموقين لأسباب ثلاثة : أولها أخلاقياته الرفيعة, وثانيها ثقافته الواسعة فهو حاصل علي ليسانس الحقوق , وخريج كلية أركان الحرب ويجيد أكثر من لغة ويلم باللغة العبرية , وثالثها شجاعته في حرب فلسطين التي ضرب فيها القدوة لغيره وظفر بإعجاب الضباط كافة في ميدان القتال"

كان اختيار تنظيم الضباط الأحرار سر نجاح التنظيم داخل الجيش, فكان ضباط التنظيم حينما يعرضون علي باقي ضباط الجيش الانضمام إلي الحركة كانوا يسألون من القائد , وعندما يعرفوا أنه نجيب يسارعون بالانضمام.

انتخابات نادي الضباط

انتخابات نادي الضباط كانت هي الخطوة الفعالة الأولي في طريق ثورة يوليو.. فقبل انتخابات النادي كانت اللجنة التنفيذية لتنظيم الضباط الأحرار تعتقد أنه ليس من الممكن القيام بالثورة قبل عام 1955...لكن بعد الانتخابات أحس الضباط بمدي قوتهم .. رشح نجيب نفسه رئيسا لمجلس إدارة النادي لجس نبض الجيش واختبار مدي قوة الضباط الأحرار وتحديا للملك... وقبل الملك التحدي ..ورشح حسين سري عامر .. كانت الانتخابات أول اختبار حقيقي لشعبية اللواء محمد نجيب داخل الجيش.. ومع طلوع فجر اليوم الأول من يناير 1952 أعُلنت النتيجة وحصل نجيب علي أغلبية ساحقة شبة جماعية ولم يحصل منافسيه سوي علي 58 صوتا فقط, كانت النتيجة صدمة شديدة للملك فقرر حل مجلس إدارة النادي.

وأدرك الملك الشعبية الطاغية لنجيب وسط الضباط، فرشحه وزيرا للحربية قبيل الثورة بأيام؛ في محاولة لامتصاص غضب الضباط، لكن يبدو أنها محاولة تأخرت كثيرا فقد دارت عجلة الأحداث سريعا لتشهد مصر ميلاد عهد جديد صباح 23 يوليو 1952

ثورة يوليو 1952




</B></I>