الرابع والعشـــــــــــرين : الشجــــــــــــــــاعة
في إحدى الليالي سمع أهل المدينة صوتًا عاليًا، ألقى الخوف في قلوبهم، فانطلق الناس ناحيته، فقابلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في الطريق عائدًا، وكان قد سبقهم إلى مصدر هذا الصوت، فقال لهم: (لم تُرَاعوا..لم تراعوا (أي لا تفزعوا)) [متفق عليه].
*يروى أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- وزَّع على الناس أثوابًا، وكان الثوب يكفي الرجل حتى ساقيه، ولا يغطِّي سائر رجليه، وأخذ عمر ثوبًا مثل عامة الناس، وصعد المنبر فرآه الناس في ثوب طويل، ولما افتتح خطبته قال: أيها الناس، اسمعوا وأطيعوا، فقام أحد الحاضرين، وقال: لا سمع ولا طاعة. فسأله عمر: ولماذا؟
فأجاب الرجل: لأنك أعطيتنا تلك الثياب القصيرة، واستأثرت لنفسك بهذا الثوب الطويل، فأمر عمر بن الخطاب ابنه عبد الله أن يرُدَّ على هذا الرجل ويبين له الحقيقة، فقام عبد الله بن عمر -رضي الله عنه- ليعلن أنه قد تنازل عن ثوبه لأبيه حتى يكمل به جلبابه، فقال الرجل: الآن قل، نسمع ونطع.
*ما هي الشجاعة؟
هي جرأة القلب وقوة النفس عند مواجهة الأمور الصعبة.
شجاعة الرسول صلى الله عليه وسلم:
كان الصحابة -رضي الله عنهم- إذا اشتدت الحرب يحتمون خلف ظهر النبي صلى الله عليه وسلم، ويجعلونه في المقدمة، وفي هذا يقول علي -رضي الله عنه: كنا إذا اشتدت البأساء (الحرب) احتمينا برسول الله صلى الله عليه وسلم، فما يكون أحد منا أقرب إلى العدو منه.
ويقول البراء -رضي الله عنه-: ولقد كنا إذا حمي البأس نتقي بالرسول صلى الله عليه وسلم، وإن الشجاع الذي يحاذَي به.
وفي غزوة حنين حين اضطرب المسلمون، وفرَّ عدد كبير منهم، وقتل وأصيب آخرون، ظل النبي صلى الله عليه وسلم ثابتًا في مكانه لا يتزحزح، يضرب بسيفه يمينًا ويسارًا، مناديا بأعلى صوته: (أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب)، وما إن سمع المسلمون هذا النداء حتى عادت إلى قلوبهم الشجاعة، والتفوا مرة أخرى حول الرسول صلى الله عليه وسلم يقاتلون، حتى تحقق لهم النصر. وهكذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم أشجع الناس، فتعلم الصحابة الشجاعة منه، وكانوا قادة أَكْفَاء وقدوة في التضحية والفداء.
شجاعة الصحابة:
ضرب الصحابة أروع الأمثلة في الشجاعة، ومن هؤلاء الصحابة:
عمرو بن الجموح: منعه أبناؤه من الاشتراك في ميدان القتال؛ لأنه لا يستطيع السير على ساقه العرجاء، فقال لهم: والله، إني أريد أن أطأ بعرجتي هذه الجنة. واستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في القتال فأذن له وذهب إلى ميدان المعركة فقاتل بشجاعة؛ حتى نال الشهادة في سبيل الله.
علي بن أبي طالب: تربى على الشجاعة والإقدام منذ صغره، وضرب لنا وهو صغير مثلا رائعًا في الشجاعة عندما نام في فراش الرسول صلى الله عليه وسلم أثناء الهجرة؛ فعرَّض نفسه للموت بسيوف المشركين، ليُسَهِّل مهمة رسول الله صلى الله عليه وسلم في هجرته إلى المدينة سالـمًا.
عبد الله بن رواحة: صحابي جليل جاهد في سبيل الله، واستشهد في معركة مؤتة، وقبل أن ينال الشهادة أخذ يخاطب نفسه ويحثها على القتال، فيقول:
أقسمتُ يا نَـفْسُ لتَنْـزِلِـنَّــهْ
ما لـي أراك تكرهيـن الجنَّــةْ
يا نفـسُ إلا تُقْتَلـِـي تمـوتـي
هـذا حِمامُ الموت قد صَلِيــتِ
وما تمنيـتِ فـقـد أُعْطِيــتِ
إن تفعلي فِعْلَهُمَـا هُـدِيـــتِ
وكان عبد الله يتمنى الشهادة، ويريد أن يلحق بصاحبيه زيد بن حارثة
وجعفر بن أبي طالب -شهداء مؤتة-، وبالفعل خاض المعركة، وأبلى في تلك الغزوة بلاءً حسنًا حتى فاز بالشهادة في سبيل الله، ولحق بصاحبيه في الجنة.
خالد بن الوليد: أطلق الرسول صلى الله عليه وسلم على خالد بن الوليد سيف الله المسلول لشجاعته واستبساله في الحروب، وعند موته كان حزينًا لأنه لم يمت شهيدًا في ميدان القتال، وقال: ما في جسدي شبر إلا وفيه ضربة بسيف أو طعنة برمح أو رمية بسهم، وها أنذا أموت على فراشي حَتْفَ أنفي كما يموت البعير، فلا نامت أعين الجبناء.
أبو ذر الغفاري: عرف بشجاعته في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ حيث كان يدافع عن الفقراء، ويطلب من الأغنياء أن يتصدقوا ويخرجوا زكاة أموالهم التي هي حق الفقراء، وكان يقول: بَشِّر الكانزين الذين يكنزون الذهب والفضة بمكاوٍ من نار تُكْوَى بها جباههم وجنوبهم يوم القيامة.
نساء الصحابة: اتصفت نساء الصحابة -رضي الله عنهن- بالشجاعة والإقدام، فكن يشتركن مع المسلمين في المعارك، ويقمن بإعداد الطعام للمقاتلين، وتجهيز الماء لسقي الجنود، ومداواة الجرحى والمرضى، حتى اشتهر من هؤلاء النساء السيدة أم عمارة نسيبة بنت كعب، والسيدة أم عطية الأنصارية، والسيدة أم سليم، والسيدة ليلي الغفارية، وغيرهن -رضي الله عنهن-.
وذات مرة قابلت الصحابية الجليلة خَوْلَة بنت ثعلـبـة -رضـي الله عنها- أمير المؤمنين عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- وظلت تنصحه، وتعظه، وهو واقف لا يتحرك من أمامها، وينصت لكلامها حتى انتهت من نصيحتها.
أطفال الصحابة: أظهر كثير من الأطفال حزنهم لعدم اشتراكهم في المعارك مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيحكى أن عمير بن أبي وقاص -وكان صغيرًا- اختبأ في صفوف الجيش حتى لا يراه الرسول صلى الله عليه وسلم فيرده لصغر سنه، وحينما طلب منه الرسول صلى الله عليه وسلم أن يرجع بكى؛ فسمح له الرسول صلى الله عليه وسلم بمصاحبة الجيش.
أنواع الشجاعة:
الشجاعة لها أنواع كثيرة، منها:
الشجاعة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يغضب إلا إذا انْتُهِكَتْ حرمة من حرمات الله، أو ارتكب أحد الناس منكرًا بأن فعل معصية، فيأمره الرسول صلى الله عليه وسلم بالخير، وينهاه عن المنكر والمعصية، وقد تعلم صحابة النبي صلى الله عليه وسلم ذلك منه.
وقد أمر الله -سبحانه- بهذا النوع من الشجاعة، إذ وجهنا سبحانه إليها في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فقال: {الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور} [الحج: 41]، وقال كذلك: {وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون} [التوبة: 122].
وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (قل الحق، ولو كان مرًّا) [أحمد]. وقال صلى الله عليه وسلم: (من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان) [مسلم].
وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أن الرجل الذي يعظ ولي الأمر وينصحه في لين ورفق له أجر عظيم وجزاء وفير من رب العالمين، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب، ورجل قام إلى إمام جائر، فأمره ونهاه فقتله) [الحاكم].
الشجاعة في طلب العلم: المسلم يسعى دائمًا إلى طلب العلم، ويسأل ويستفسر عما لا يعرفه؛ لأن طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة، وكان صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم يسألونه، ويستفسرون منه عما لا يعرفونه دون خجل؛ وكان الرجل منهم والمرأة -رضي الله عنهم- في ذلك الأمر سواء.
الشجاعة في الاعتراف بالخطأ: المسلم دائمًا يميل إلى الحق والصواب، وإذا أخطأ يسارع بالاعتراف بخطئه والندم عليه والتوبة إلى الله منه. ومن ذلك موقف سيدنا آدم -عليه السلام- حينما أكل من الشجرة المحرَّمة وعصى ربه، فسارع بالاعتراف بخطئه واستغفر ربه حتى تاب الله عليه.
كذلك نبي الله يونس -عليه السلام- حينما التقمه الحوت، لجأ إلى ربه ذاكرًا مستغفرًا، حتى نجَّاه الله مما هو فيه، وكان يدعو ربه، ويقول: لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين.
وهكذا المسلم دائمًا يرجع ويعود إلى الحق، فإذا صدر منه ذنب أو خطأ فإنه يتوب ويعتذر ويعترف بخطئه.
الشجاعة في القتال: أمر الله المسلمين أن يستعدوا لمواجهة أعدائه، ف: {وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم} [الأنفال: 60].
وأمر الله المسلمين أن يقاتلوا المشركين بقوة وثبات وهم يد واحدة، فقال الله تعالى: {إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفًا كأنهم بنيان مرصوص} [الصف: 4].
وقال الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرًا لعلكم تفلحون} [الأنفال: 45].
وقال الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفًا فلا تولوهم الأدبار} [الأنفال: 15].
والمسلم لا يخشى الموت في سبيل الله، فهي منزلة عظيمة عند الله -سبحانه-.
يقول الشاعر:
وإذا لـم يَكُـنْ للمــوتِ بُــدٌّ
فَمِنَ الْعَجْزِ أنْ تموتَ جَبـَـانَــا
وحث النبي صلى الله عليه وسلم على القوة، فقال: (المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كلٍّ خير. احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تَعْجَزْ، وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلتُ كذا كان كذا وكذا، ولكن قل: قدَّر الله وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان) [مسلم]. فعلى المسلم أن يجعل الشجاعة صفة لازمة له على الدوام.
المفضلات